}

ذاكرة الكُتّاب السُود و"نسيان النسيان": حوليات الماضي والمستقبل

أحمد محسن 20 يونيو 2020
استعادات ذاكرة الكُتّاب السُود و"نسيان النسيان": حوليات الماضي والمستقبل
من اليمين (أعلى): موريسون، جاكوبس؛ (أسفل) أكيوانو، دوغلاس
عندما يهدم المتظاهرون نصبًا لتاجر عبيد، فإنهم يهدمون صخورًا جاثمة على ذاكراتهم، تمنع النسيان من التدفق. وعندما يكتبون أدبًا، فإن هذا الأدب هو أدبهم هم، ليس أدب البِيض. ولا يمكن للبِيض أن يفهموه مهما فعلوا، لأنها ليست ذاكراتهم، ولأن النسيان ليس لهم. يمكنهم التعامل مع الأدب حسب الذائقة، وحسب شروط كثيرة، لكنهم لن يفهموه بصيغته النهائية، أي كذاكرة لا تتوقف عن استعادة نفسها في الكتابة، وتحاول تفسير المستقبل بإعادة امتلاك ماضيها. صحيح أن النصوص لا تعود لأصحابها عندما تكتب، لكن الذاكرة التي تعمل في أكثر من اتجاه، فردية في حالة القارئ، وجماعية في حالة الكتاب السود.

العذاب.. الموت.. أو الأدب؟

إذا كان من شيء ما أرادت توني موريسون نسيانه بالفعل، فسيكون النسيان نفسه. ذلك النسيان الذي تتذكره ككاتبة وكذاكرة، ويتذكره الأميركيون من أصل أفريقي جماعيًا، كتابًا وجماعة. ينسون أن ينسونه. يتذكرونه وهم يحاولون النسيان. إنه نسيان ملتبس على معناه الأدبي، ويتجاوز حيّزه اللغوي إلى التاريخ، وإلى المجتمع. النسيان صراع بنيوي وشائك، تمامًا مثل الصراع الذي دار في رأس بطلة "المحبوبة" (Beloved)، لتوني موريسون، التي قتلت ابنتها لحمايتها من العبودية. كانت العبودية عذابًا للابنة، لكن الأم اختارت تعذيب ذاكرتها المعذبة أصلًا. وهذه إحدى نقاط القوة الأساسية في رواية موريسون: تفسير النسيان بالنسيان، وتحديد الخيارات العالقة بينهما، أي الذاكرة المعذبة والموت.

الصراع الذي دار في رأس بطلة "المحبوبة" (Beloved) تمثل بقتل ابنتها لحمايتها من العبودية


















إذا حسبنا أننا في مرحلة نهوض، بالمعنى الأدبي للكلمة، فعلينا أن ننتبه، أو نعترف، من بين مجموعة بديهيات، إلى أن العمل الأدبي الذي ينتجه الكتاب السود، تعرض ويتعرض للإهمال عن قصد، ولسنوات طويلة، تحديدًا من النقاد الأدبيين البيض الذين هيمنوا على هذا الحقل المعرفي، وليس من أي أحد آخر. هذه إحدى الإجراءات التي تمتد على حبل زمني طويل. بينما ينفق الكتاب جهدًا كبيرًا في النسيان، تحاربهم ذاكرة صلبة تحاول العيش في النصوص، وفي ذات الوقت، يواجهون ذاكرة الأدب وتقاليده نفسه. ذلك أن الكتاب البِيض، لم يهيمنوا على الأدب وحسب، بل امتدت هذه الهيمنة على تفسير الأدب نفسه.

ليست فقط التماثيل القميئة مجرد نُصب تسقط، بل هي أكثر من ذلك بكثير. فبسبب هذه الهيمنة، ما زالت الأساطير المؤسسة تدور حول البِيض، ويملك البِيض تاريخًا أدبيًا ممنهجًا، على عكس السود، الذين يتم إقصاؤهم كل دقيقة. والحديث عن الخيال الجماعي، غير منفصل أبدًا عن الخطاب السياسي، أو حتى عن الشكل الأدبي للخطاب. يمكن الإحالة هنا إلى "الاخفاء" بالمعنى في مجاله اللغوي، كما يفسره جاك دريدا، الذي يعتبر أن اللغة تملك القوة نفسها في التوضيح وفي الإخفاء، وتستطيع قذف المعنى نحو المستقبل. وإن كان الكتاب السود بذلوا جهودًا لإنقاذ ذاكراتهم، فاستخدموا اللغة في التوضيح، فإن النقاد كانوا غالبًا يؤجلون المعاني إلى المستقبل، ويرتكزون إلى أول الهيمنة الراسخة. لوقت طويل، كانت زورا هيرستون مثلًا قلقة من تطفل البِيض على قصص السود، خاصةً عندما يزج المتطفلون قصصًا عن العبودية في رواياتهم. لكن ذلك لم يكن مهمًا للنقاد، أو يثر قلقهم، فالذاكرة لا تخصهم. بعد نضال أدبي حقيقي، اخترقت البطلات السود تحديدًا الهوامش، إلى المراكز، وظهرن في مجالات كانت ممنوعة عليهن سابقًا في الأدب، ويمكن أن تكون "سيث" بطلة موريسون نموذجًا.

رسم مستوحى من رواية "محبوبة" للفنان joe morse 

















الحاضر هو التائه وليس الأدب
النسيان، في جانب من جوانبه الكثيرة، وبالمعنى الذي تتحدث عنه روايات السود القرن العشرين غالبًا، قد يكون استعادة للهوية، من المكان الذي فقدت فيه. ليس محاولة للتفسير، أو للتبرير، وليس شكلًا لتنظيم سير حدوث الأشياء في الزمن. وهذا ما يجعله أدبًا حقيقيًا. في واحد من أقدم النصوص الأدبية للكتاب السود، يتذكر أولوداه أكيوانو 11 عامًا من طفولته في نيجيريا، أكثر مما يتذكر أي شيء آخر. لا يعترف بالسنوات الأخرى. لا يعترف بها كتابةً، لأنه لا ألم في النصوص المتبقية. ولأن النصوص التي بين أيدينا في النهاية هي نصوص مهيمن عليها، ويجب أن يخضع نقدها لشروط عادلة من دون استرسال في تحديد عناصر "الإخفاء" و"التوضيح".


لم يحاول أكيوانو التذكر، بقدر ما حاول النسيان، والكتابة هنا ليست عاملًا سلبيًا. كانت النصوص خاضعة للهيمنة لجهة شروط النشر وشروط القراءة، وكل هذه العناصر. لكنها، أيضًا، في جانب منها، بحثت عن شقوق إيجابية في جدران الذاكرة، دلف منها النسيان كضوء لتأكيد الظلام.

كذاكرة تأتي من السنوات الأولى في نيجيريا، ضد الماضي التأريخي المقصود بعد ذلك. بهذا المعنى، كانت كتابة القرن التاسع عشر بالنسبة للكتاب السود خروجًا من الهامش، إلى ذاكراتهم، أو إلى النسيان. لم تكن الوجهة لتشكّل فارقًا في ذلك الوقت.  ولعل إحدى أبرز روايات القرن التاسع عشر هي رواية هارييت جاكوبس: "أنتن أيتها النساء السعيدات"، لم تكن آلامًا تحت العنوان، بل كانت صليبًا مكتوبًا حمله بعدة طرق، وأحيانًا بخفة، جيل من الكاتبات والكتاب. ليس الصليب هنا رمزًا سيميائيًا ثقيلًا، بل هو استعارة لوظيفته الزمنية. هناك، في الغرفة المظلمة، حيث عاشت لسنوات وهي تختبئ من التحرش، تتردد القصة نفسها حتى اليوم. وفقط في 1981، أي بعد مئة عام تقريبًا، تم الاعتراف بالرواية رسميًا، تحت ذريعة "التأكد من صحتها". ومثل جاكوبس، كان فريدريك دوغلاس من أوائل الذين حاولوا الكتابة، لكن وفق شروط النشر السائدة، حيث كان يدعو إلى التعرف إلى الطفولات الخشنة، ويتحدث عن الحقل بما تسمح له الظروف.  لكن التطور من دوغلاس وصولًا إلى موريسون وغيرها، ليس تطورًا في الذاكرة بالضرورة، بل تطور في "فهم الذاكرة"، حيث حلّ الخيال محل الشهادات، وتقلص الاتكال على التاريخ. لا يعني ذلك أن الشهادات فقدت قيمتها، لكن الاكتفاء بالرموز يشكّل استجابة لهوس تاريخ العنصرية بنفسه.

 إحدى روايات هارييت جاكوبس


















منذ القرن التاسع عشر، وحتى اليوم، لم يكن أدب السود مجرد كتابة متعلقة بالماضي، بل كان كتابة للمستقبل أيضًا. كتابة لأجل الكتابة، أو ما تكونه الكتابة. وإن كنا ننسى ما نتذكره فقط، لأننا لا نتذكر كل شيء، فإن حرية النصوص تبقى خيارًا يخص أصحابها وحدهم، تمامًا مثلما أن النسيان نفسه هو أحد أشكال الذاكرة. أما التاريخ فشيء آخر. إنه تلك الحركة التي تبحث دائمًا عن لحظة البداية بعد سقوطها، ولا تجدها. أما الحاضر، فكما يقول هايدغر أيضًا، ليس حاضرًا، مثلما أن الماضي ليس حاضرًا ولا يمضي. الحاضر في حالة نفور مع نفسه، وإذا كان تائهًا فعلًا كما يقول هايدغر، فالأدب مثله أيضًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.