}

رضوى عاشور.. أخذها الموت وأرجعها

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 4 يونيو 2020
استعادات رضوى عاشور.. أخذها الموت وأرجعها
رضوى عاشور (1946- 2014)

المتحدّثة عن التابع
تصادف يوم 26 مايو/أيار من كل سنة ذكرى ولادة الكاتبة المصرية رضوى عاشور (26 مايو/أيار 1946- 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2014). وهي من ذلك النوع من الكُّتاب التي تصادف كل الأيام ولادتهم، كأن الله وزّع تاريخ ميلادها على كل الأزمنة.
قبل ستة أشهر تقريبًا كنت عضوًا في مناقشة رسالة دكتوراه أعدّها أحد أفضل طلبتنا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، في موضوع "رواية ما بعد الاستعمار". درس الباحث، باتفاق مع أستاذه المشرف، مجموعة من الروايات لكتاب أغلبهم لا ينتمون إلى "ما بعد الاستعمار". ولأن الطالب هو من أعز الطلبة على قلبي، ولأن الأساتذة أعضاء اللجنة هم من أفضل زملائي، فقد قبلت الانضمام إلى مناقشته، وفضّلت سلك طريق آخر في المناقشة: ذكر المحاسن والمساوئ، وتسليط الضوء على الأدباء والمفكّرين الذين غابوا عن الأطروحة. وعبّرت عن حزني الشديد، ولومي للطالب ومشرفه، لغياب كاتبة عربية هي رضوى عاشور. بل وذهبت أبعد من ذلك، إلى القول: إن غياب رضوى، وأتشيبي، وألبير ميمي، وصنبين عصمان، والطيب صالح، ومولود فرعون، وإدريس الشرايبي، عن نقاش الكولونيالية والاستشراق سيكون نقاشًا مهلهلًا معيبًا. كنت وأنا أنطق اسم رضوى عاشور، أشعر كأن الموت أعادها إلينا. لكنني طرحت هذا السؤال على الطالب، الذي كان أصغرنا في تلك الجلسة العلمية: ألا تضيق حين تضطرّ إلى أكل الطعام نفسه كل يوم، بغير تنوّع يُذكر؟ لم يجبني الطالب، لكن ابتسامته الذكية كانت جوابًا صامتًا: بلى. كنت قد أشرت إلى النصوص الضعيفة التي درسها في أطروحته، باستثناء نص لطارق علي عنوانه "ظلال زهر الرمان" التي تناولت سقوط غرناطة. وطارق علي فعلًا ينتمي إلى "نادي ما بعد الاستعمار". أما رضوى عاشور فهي ضوء ساطع في هذا النادي، فكيف تغيب عن أطروحة جامعية تدرس "رواية ما بعد الاستعمار"، وخير شاهد روايتها "ثلاثية غرناطة" التي تدور أحداثها في مملكة غرناطة بعد سقوط جميع الممالك العربية في الأندلس، وزمن أحداثها هو سنة 1491. بالإضافة إلى ذلك، فهي من أهم الروايات العربية التي طبعت كثيرًا، بدءًا بطبعة دار الهلال (في جزأين) بين عامي 1994 و1995، والثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1998، والثالثة عن دار الشروق عام 2004، والرابعة عن الدار نفسها عام 2005. وفي عام 2003 ترجمها ويليام غرانار إلى اللغة الإنكليزية، وقامت بنشرها جامعة "سيراكوز" بنيويورك. وطيلة الزمن الذي أبديت فيه ملاحظاتي عن فقيدة الادب العربي رضوى عاشور، وقفت عند كتابها "التابع ينهض" المخصص أيضا لدراسة أدب المستعمرات القديمة بأفريقيا.



من هو المتحدّث عن التابع؟ كيف يجب أن يكون؟
كل شيء هو بمثابة نادِ: العلوم، الآداب، التحليل النفسي، والكل يريد أن يصبح عضوًا في هذه الأندية. لكن هناك شروط أذكر منها اثنين لقبول عضوية المترشّح: أولا: خلق نقاشات حقيقية، ثانيا: إثارة القليل، القليل، من المشاكل. لكن نادي "ما بعد الاستعمار" لا يمكن للمنتمين إليه عدم خلق المشاكل (السياسية والأيديولوجية)، بعكس أندية أخرى مثل "نادي ما بعد البنيوية"، أو نادي "ما بعد الحداثة"، أو "نادي الشكلانية"...(إن الما "بعد" تدل على فصل السابق باللاحق). باستثناء "نادي" البنيوية الذي كان متشدّدًا مع كل من يخالفه، والدليل هو التهميش الذي لحق بول ريكور الذي استنكر زحف البنيوية على كل شيء، مما اضطره إلى مغادرة عمادة جامعة باريس 10 نحو أميركا.
ظهرت هذه الأندية هنا، وهنا، وهناك، وهناك. ظهرت في كل مكان تقريبًا من الكرة الأرضية، لأن العالم كله مستعمرات قديمة. العالم كله "عالم ثالث" في السابق. كما ظهر أدباء وفلاسفة في كل مكان، لأنهم يشعرون بانتمائهم لهذا العالم الثالث. وهنا يقف اسم رضوى عاشور شامخا، بمداد بارز في هذا النادي الفكري والسياسي المقاوم. وكتابها "التابع ينهض"، كما جل رواياتها، ونضالها في الجامعة، ووقوفها إلى جانب الشباب في ربيع مصر، في ميادين الكفاح والنضال، دليل على جدارتها بموقع تاريخي خالد. لذلك وجدتني طيلة مناقشتي للطالب أتحدث عن رضوى عاشور كأنها هي موضوع الأطروحة. فقمت بمقارنتها بالفيلسوفة الهندية غاياتاري سبيفاك (1942 بكالكوتا، الهند البريطانية) التي ألفت عام 1988 (وكان عمرها آنذاك 46 سنة) دراسة عنوانها "هل بمقدور التابع أن يتكلّم؟" (وهو من النصوص المؤسّسة لما بعد الكولونيالية). تتمحور أطروحة غ. سبيفاك حول أن التابع، أو من ينوب عنه، إذا لم يتحدّث في الوقت المناسب وبالصيغة المناسبة فإنه سيُخطئ في حقّ نفسه وقضيته، وبالتالي سيقوم بتأبيد الصدارة المعرفية للكولونيالية بدءًا من أسسها الاقتصادية إلى سطوتها السياسية وصولًا إلى هيمنتها الثقافية.



التابع كينونة شاملة
 إن أسلوب إنتاج المعرفة حول التابع شيء مهم. وهذه مهمّة الناقد ما بعد الكولونيالي، الذي يجب أن يتخلّص من الغطرسة السيادية التي لا يمكنها إلا أن تتماهى مع الذات العارفة (بما في ذلك السمات الذكورية في مسألة السيادة هذه).
والأمر الذي كانت رضوى عاشور على وعي به، وقبلها غ. سبيفاك، هو أنه لا بد من اجتناب الحديث عن التابع بوصفه كتلة متجانسة. إن التابع ليس كتلة  متجانسة.

من أهم صفات وسِمات المتكلم باسم التابع، أو المدافع عنه، أن يعتبره عالمًا لا متجانسًا ومتباين الخواصّ، فهو كينونة اجتماعية.  وهناك روائيون بعيدون جدًّا عن هذا الوعي، لأنهم نظروا من زاوية واحدة: الدين. النصراني يطرد المسلم من الأندلس. هذه مشكلة محورية في تمثيل التابع. وبذلك فهؤلاء الذي يمثلون التابع لا يمنحون صوته، بل يُخرسون ما تبقّى من صوته. على كل الكُتّاب "التابعيين" (الذين يناصرون التابع ويريدون منحه فرصة للكلام) أن يعتبروا هذه الذات "ذاتًا ما بعد استعمارية شاملة"، سواء كانت في الأندلس وطُردت منها، أو في الهند بعد استقلالها، أو في فلسطين التي لم تتحرّر بعد. هكذا ينبغي النظر للموضوع: ذات ما بعد استعمارية كلّية تواجه قدَرها التاريخي. ورضوى عاشور ضوء ساطع في هذه القضية، لذلك وجب استعادتها باستمرار.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.