}

سبعون عامًا على وفاة تشيزاري بافيزي.. يوميات مهنة الخوف

أحمد محسن 17 يوليه 2020
استعادات سبعون عامًا على وفاة تشيزاري بافيزي.. يوميات مهنة الخوف
نصب تذكاري لـ تشيزاري بافيزي(1908-1950) في لانغ بيدمونت/ إيطاليا(Getty)

"الظهيرة الثالثة منذ وفاتها، عاشت حياة بطولية لا فاحشة". وصلنا إلى سبعين عامًا بعد تشيزاري بافيزي، ولكننا كما يقول، ما زلنا في الظهيرة الثالثة، أو في الثالثة ظهرًا. قصائده على المائدة، أو في رفوف المكتبة، لم تبرد بعد. ما زالت دافئة وصالحة للقراءة. ما زال هذا الكاتب والشاعر الإيطالي إيطاليًا أكثر مما يُعتقد بكثير، وكاتبًا وشاعرًا أكثر مما أراده أيضًا. وليس للحديث عن راهنية الشاعر أي معنى، بل إن المعنى يبقى في الشعر نفسه. وعندما تقرأ الشاعر المنتحر في تورينو، ستعرف أنك تقرأ رجلًا كان يخوض حربًا في الشِعر، ويحاول تأجيل هزيمته، ربما لساعة، أو شهر. وبعد سبعين عامًا، ما زال ينجح في التأجيل.
بعد سبعين عامًا، قد يصح القول بأن الشعراء لم يعودوا يشبهون الشِعر. وربما في إيطاليا أكثر من غيرها. لكن ما يميّز بافيزي، ليس استثنائية نصوصه وحسب، أو علاقتها بالمكان وقدرتها على اعلان المواقف من دون أن يسبب ذلك خدوشًا في الشِعر. ما يميّزها بالضبط هو قدرتها على الاكتفاء بنفسها، وشعور القارئ بالامتلاء. في "مهنة العيش"، وهو كتاب جمع فيه بافيزي يومياته بين أعوام 1935 و1950 (دار المدى ـ 2016، ترجمة عباس المفرجي)، عرف أن "الفن الحديث يتفادى الحبكة". وقد سار على هذه القاعدة في أدبه أيضًا، فأحلّ مكانها ببساطة وصفًا بسيطًا لعلاقات مستمرة، أو تفاصيل مزدحمة تخص حوادث منزلية، بدلًا من شخصيات هي عبارة عن شخصية واحدة: ذلك الإنسان العادي، الذي يمكن أن يكون أي أحد. تلك المهنة التي منحها بافيزي صفة العيش كانت في رأيه تخص العاديين. أما مهنة الموت، فكانت مهنة شخصية.
بعد كل شيء، وبعد قراءة "القمر والنار"، غير مترجمة إلى العربية بعد، تكتمل صورة بافيزي

تمامًا، وتحتشد فيها جميع العناصر التي تشكلت منها عناصر حياته القصيرة (مات عن 42 عامًا فقط). سنجد ميله إلى الانتحار حاضرًا، وسنجد عبثيته أيضًا، لكنها عبثية فريدة يمكن تمييزها بدون جهد كبير عن العبثية المائعة التي يفتعلها جزء كبير من الشعراء عادةً. سنجد كاتبًا يعرف كيفية استخدام الكلمات، شغوفًا بلغته الأم، وحائرًا بين كاثوليكية عالقة في مكان ما في وعيه، وبين ماركسية ذلك الزمن وأدواتها. عمومًا، وبعيدًا عن الروايات، ليست هناك أي زخرفة مجانية حتى في القصائد: "سيجيء الموت وستكون له عيناكِ/ هذا الموت الذي يرافقنا/ من الصباح إلى المساء/ أرِقًا، أصمّ/ كحسرةٍ عتيقة/ أو رذيلة بلا جدوى" (ترجمة جمانة حداد، 2007).
 

كل شيء نسبيّ
مثل بروست، وكما يتحدث عنه، كان بافيزي مهووسًا بفكرة أن كل أمل، حالما يتحقق، يستبدل نفسه بأملٍ جديد، يعطّل الأمل السابق: "خلف استحالة الاتصال بين الأرواح، هنالك أيضًا استحالة مشابهة من الاتصال بين حالات مختلفة من الروح. ومن هنا ينبع الإحساس بأن كل شيء نسبي، وأن كل شيء بلا جدوى، من دون الوصول إلى الزمن المستعاد الذي كان مفقودًا. ومن هنا، ينبع الميل إلى الأحلام، والتشديد على درجة الأحلام". أما عن تلك الدرجة التي عندما تلتقي بالواقع وتختفي باختفاء الأحلام، عما يوجب البحث عن قانون لتخليد كل حلم، فتلك هي سيرته الطويلة فعلًا. لم يكن ينقصه الاعتراف، ولم يسع إليه، فثلاثيته الشهيرة حصلت على جائزة "سترينغا" المعروفة في إيطاليا (بدأت "منشورات المتوسط" بعمل مميز، وبدأت بنشر أولى أجزاء الثلاثية: "الصيف الجميل" بالعربية، التي تحمل الاسم نفسه، بترجمة لكاصد محمد، على أن يتبع ذلك نشر الروايتين المتبقيتين في الثلاثية، وهما "الشيطان على التلال" صادرة في 1948، و"بين نساء وحيدات" صادرة في 1949).
ليست مفارقة أن يكون بافيزي ارتجاليًا حتى في قرارات النشر، كما في حياته. فجمع الروايات في "ثلاثية" كان اقتراحًا من ناشره. لكنه وافق بسرعة، ربما لحدسٍ منه أنه سيتخذ قرارًا هامًا بعد عام واحد فقط، وأنه سيذهب إلى مهنة أخرى: الموت. هل يمكن التصديق، بأن شاعرًا يعيش سبعين عامًا بعد موته، هو شاعر أحبّ الموت أكثر من الحياة؟ الإجابة ليست صعبة. مستحيل. لقد أحبّ الحياة، وإن كان الموت الذي اختاره نقيضها، ولا يمكن أن يكون طريقًا

إليها. لقد كان احتفالًا بها، وهذا التعبير المستعار منه، هو التعبير الوحيد الممكن لتفسير قراره بحرمان العالم من الكتابة، آخذين بالاعتبار قناعته الدائمة بأن الأدب كان بحد ذاته مجهزًا دائمًا بكليات التجديد ووسائله. كان يحدس أنه سيعيش طويلًا، وأنه حلّ مشكلة تفسير انتحاره بتركه عاملين نافرين في أعماله: عبثية باقية من الطفولة، وخيانة المرأة التي أحبّها في أول أربعينياته، كما لو أنه يخسر حربين، ولا يمكنه أن يخسر حربًا ثالثة بعد. لقد أراد أن يكون رابحًا، ولو لمرةٍ واحدة في حياته. بالنسبة له "إعلان الحرب كان يشبه إعلان الحب". يعتقد أن المرء في تلك اللحظة يصير مساويًا لعدوه. لكن، العدو ليس مجسمًا واضحًا يمكن النظر إليه بذات الدرجة من جميع الزوايا. إنه ذلك الشخص الذي تسقط وتنهض معه/ معها. والتأنيث من إضافات بافيزي أيضًا، ليؤكد أن الحرب ليست هي الحرب التي نعرفها دائمًا، بل هي عملية دائمة، بميكانيزمات يومية. في الحرب، نلوم العدو على الاعتداءات الحاقدة التي نتوق للقيام بها، لأن الحرب تخدش إنسانيتنا، مثل الحب تمامًا.

تشيزاري بافيزي مع الممثلة الأميركية كونستانس داولينج في برويل سيرفينيا في أربعينيات القرن العشرين (Getty)

لم يكن مهووسًا، وهذا ما جعل مهنة العيش بعد الموت ممكنة، ولكنه بانتحاره تخلص من المشقة. ذلك أنه أحب الممثلة الأميركية التي خانته، وأحب السير في شوارع روما فجرًا. وقد نستغرب أنه كان وجوديًا أيضًا، استطاع الجمع في حبه لكيركغارد ولنيتشه، مع سوداوية كافكا، ولكل هذه العوامل مع ذكرى وفاة والدته في 1931. بعد وفاتها تحديدًا بأربع سنوات، بدأ

بكتابة اليوميات، وكأنه انتبه إلى أن الأشياء تسقط وتختفي. كان صراعًا مع الزمن، أن تكتب ضدّ الماضي، أي للإبقاء على الحدث مكانة في المستقبل. ولكنه كان صراعًا مريرًا انتهى بانتحاره. ليس فقط أمه، بل مدينة تورينو أيضًا. اختارها لينهي حياته فيها، لأنه أحبّها دون غيرها. يبدو هذا بديهيًا، ولكن مدينة البورجوازية الصناعية الإيطالية هي التي اختارته. لم يكن خياره. كانت نسيجًا مميزًا، وبأكثر من وجه. تحولت من مدينة باروكية إلى مركز للمهاجرين، وللباحثين عن شغف السينما والأدب، أو ما يمكن أن نتفق على تسميته بالحياة بلا تكلف.
بعد سبعين عامًا، يمكننا أن نتخيّل تشيزاري بافيزي وهو يستلم جائزة "سترينغا" مجددًا. يبتسم، ولكن من الملل. يضحك، ولكنه حزين. عاش لفترة قصيرة، لكنه مات إلى الأبد. أراد أن يكون عاديًا، أن يتخلى عن مشقى "الاستثناء" أيضًا. ولكنه ترك نتاجًا أدبيًا رهيبًا، ما زال حيًا ولاهبًا، في وقت يتراجع فيه الأدب، وتطحنه التحولات التكنولوجية.
في "مهنة العيش" يقول بافيزي إنه "مهما كان عظيمًا وممتعًا أن تكون مع أصدقاء، أو مع أي أحد، ستكون متعةً أعظم حين يذهبون. بعد ذلك ستبقى وحيدًا. الحياة والموت". بعد سبعين عامًا، ربما لا يكون الأمر أقل أهمية، وتكون النزعة إلى الوجودية أقل تأثيرًا في القرار الأخير. يجب إعادة قراءة هذا الأدب بتأنٍ شديد. وقد يكون الوصول إلى العدم حتميًا، لكن الأمر برمته قد لا يكون سوى خوف، مجرد خوف.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.