}

خليل حاوي.. الصياد الذي اصطاد نفسه

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 26 يوليه 2020
استعادات خليل حاوي.. الصياد الذي اصطاد نفسه
"كان يعشق العرب، ويكره في الوقت ذاته عقمهم الحضاري"
حيّرت مشكلة الموت عقل الإنسان وفؤاده، وأذهلت خياله ومشاعره منذ بزوغ الوعي الإنساني حتى اليوم. والجنس البشري هو الجنس الوحيد من بين أجناس المخلوقات الذي يعرف أنه سيموت. لذلك يتملكه الخوف من الفناء، ويود لو يعرف ماذا يوجد بعد الموت، وإلى أين يذهب الفرد حين يموت. فالموت، بهذا المعنى، هو الحقيقة الأزلية المخيفة والمؤكدة التي لا جدال فيها مثل نقطة البيكار للدائرة المكتملة؛ فالبداية هي النهاية، والحياة يليها الموت، والرحلة معراج دائم، فيما الاستثناء هو الموت الإرادي، أي الذي يتخذ قراره الفرد بنفسه فيقطع ذلك الدوران الأبدي. وخليل حاوي، ذلك الشاعر المتفرد المهجوس بفكرة الموت والانبعاث، قطع خط حياته بيده بعدما كان واحدًا من كبار شعراء الحداثة في العالم العربي، وأحد أركان قصيدة التفعيلة إلى جانب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ولميعة عباس عمارة ونزار قباني (هؤلاء هم الجيل الشعري التأسيسي لقصيدة التفعيلة)، علاوة على أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش. وقد وضعته دواوينه الشعرية الخمسة في صدارة الشعراء العرب المجددين، وهذه الدواوين هي: نهر الرماد (1957)، الناي والريح (1961)، بيادر الجوع (1965)، الرعد الجريح (1979)، من جحيم الكوميديا (1979). ومع ذلك قرر الانتحار ونجح في تسديد رصاصه إلى رأسه بعد ثلاث محاولات فاشلة.



صورة بالعدسة المقرّبة
كان خليل حاوي إنسانًا شديد الحساسية في مواجهة بشاعة العالم، ومتمردًا دائمًا على القيم الاجتماعية الموروثة. ولم تستطع الأيام أن تُروّض فيه تلك الروح الثائرة المجنّحة. ومنذ يفاعته تمرد على واقعه الفردي كعامل يدوي في مهنة بناء المنازل ثم في مهنة الإسكافية، وتمرد على الأفكار السياسية السائدة في لبنان، وتمرد على رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي انتمى اليه بعقله وعواطفه في عهد مؤسسه وزعيمه أنطون سعادة، وأصيب بخيبات شتى في الحب والفكر والسياسة، وعاش حياة طعمها كالرماد. لذلك كان شعره رثاء لعالم يتحول الإنسان فيه إلى الموت والاندثار. وحياة خليل حاوي كانت سلسلة من النداءات في سبيل بعث هذه الأمة ويقظتها؛ كانت أشبه بصرخات استغاثة لا تتوقف على الرغم من الخيبة والقهر والعزلة.
في شعر خليل حاوي أثر واضح لتربيته المسيحية، مع أنه تخلى، عقيديًا، عن إيمانه المسيحي. ففي المسيحية فكرة مركزية هي فكرة الخطيئة والسقوط من الجنة، ثم التطهر ومحاولة الارتقاء مجددًا من خلال الإيمان بالقيامة، وبقيامة المسيح بالتحديد. لكن الإيمان المسيحي ذاك اندثر تمامًا في وعي خليل حاوي، وما عاد يؤمن بالخلود وبوجود عالم آخر أو كائن أعلى مفارق. وهذه هي الحيرة الوجودية التي ظلت تتقلقل في داخله حتى انتحاره المدوي في 6/6/1982. وحين فقد إيمانه بالبعث والقيامة وببعث أمته وقيامتها، هشّم رأسه برصاصة بعدما فشل في تهشيم بشاعة العالم المحيط به.



سيرة الألم
الطفولة هي صانعة الشخصية الفردية. وحتى لو تخطى الفرد جوانب كثيرة من جروح الطفولة، فإن آثارها المؤلمة تبقى كالوشم أحيانًا. والطفولة لدى خليل حاوي ما هي إلا مجموعة من الصدمات القاسية: وفاة شقيقته أوليفيا، ومرض والده بداء "عِرق الأنسر" الذي ألزمه السرير، واضطرار الفتى خليل إلى ترك المدرسة والعمل في مهنة البناء المتعبة. فقد ماتت شقيقته أوليفيا ولها عامان فقط، وكان خليل شغوفًا بها غاية الشغف، وكثيرًا ما بكى لفقدها. وقد أورثه موتها شعورًا بأن العناية الإلهية تخلت عنه وعن عائلته، وأن هذه العناية قاسية لا ترحم، والإنسان متروك وحده في هذه الحياة المرّة. ونعثر على هذه المشاعر والأفكار في قصيدة "لعازر" التي يخاطب فيها الله قائلًا:

تُرى هل تستطيع

أن تزيح الصخرَ عني

والظلامَ اليابس المركومَ

في القبر المنيع؟

كيف يُحييني ليجلوَ

عتمة غصت بها أختي الحزينة

دون أن يمسح عن جفنيّ

حمى الرعب والرؤية اللعينة؟


ولد خليل حاوي في 31/12/1919 في قرية "الهويّا" في منطقة جبل العرب الواقعة في الجنوب السوري (بحسب بطاقة هويته فهو مولود في سنة 1925 وهذا غير صحيح)، ودرس لدى البروتستانت في مدرسة الشوير الإنجيلية ابتداء من سنة 1925، ثم انتقل في سنة 1928 إلى المدرسة اليسوعية الكاثوليكية، وقرأ الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. وفي تلك المدرسة الجزويتية رفض أن يردد مع أقرانه أن الأرثوذكس (وهو أرثوذكسي) هراطقة، فانهال عليه الكاهن بقضيب من الرمان راح يلسع جسده الطري بضرباته الموجعة. ومع أنه تأثر في ذلك العمر، ببعض أسفار التوراة كالمزامير، إلا أنه تمرد على تعاليم اليسوعيين، ورفض إله اليهود الغيور النقيض للإله المسيحي الذي يفيض حبًا وعناية. وجراء ذلك، نُقل في سنة 1929 إلى المدرسة الوطنية العالية المعروفة بمدرسة عين القسيس. غير أن مرض والده في سنة 1930، وكان خليل حاوي في الثانية عشرة، أرغمه على ترك الدراسة ابتداء من سنة 1932، والانصراف إلى العمل في رصف الطرقات، ثم لدى بعض الإسكافيين في قرية الشوير، واستمر على هذه الحال طوال الفترة من 1933 حتى 1937.  وفي تلك الأثناء كان خليل يدرس على نفسه بعد انتهاء عمله، ويكتب الزجليات وينشرها في مجلة "العرائس" التي كان يصدرها الأديب عبد الله حشيمة من بلدة بكفيا المجاورة للشوير.








إن قرار ترك المدرسة والانصراف إلى العمل اليدوي لم يكن قرارًا سهلًا على الإطلاق، وقد اتخذه خليل حاوي مرغمًا حين كان يشاهد والده سليم يئن من أوجاع المرض المسمى "عرق النسا" (عرق الأنسر)، وبعدما علم أن والدته سليمة عطايا تستدين من أصحاب الدكاكين غداة نفاد المبلغ المدخر من المال. وفي خضم تلك الأحوال ارتحل خليل حاوي إلى جبل العرب وإلى الجولان للعمل في مهنة توريق المنازل التي تعلمها على والده الذي كان يعمل في جبل العرب أيضًا. واستمر في عمله هذا من 1937 حتى 1939. وقُبيل تلك المرحلة انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبالتحديد في سنة 1934، أي بعد سنتين على تأسيس الحزب، فكان من أوائل المنتسبين إلى ذلك الحزب الذي أسسه ابن بلدته أنطون سعادة، وتسلم فيه مسؤولية مديرية الشوير بين 1938 و1940.
تسلل خليل حاوي من الجولان إلى الأردن في سنة 1940 حيث كان ابن عم والده يسكن في إربد الحورانية، وكان عمه فؤاد يعمل مهندسًا في شركة البوتاسيوم على ضفاف البحر الميت. وتمكن، بعد أن عمل عامًا كاملًا في الأردن، من أن يجمع خمسين ليرة فلسطينية من أجل زواجه من فتاة كان يحبها في الشوير. ولما علم أن مَن أحبها تزوجت في أثناء غيابه، أُصيب بكآبة وحسرة لم يخرج منها إلا حين عمل مشرفًا على أحد مستودعات الجيش البريطاني بين 1942 و1944. ثم التحق بمدرسة الشويفات الثانوية في سنة 1945 بعدما زوّر تاريخ ميلاده، وتمكن من نيل البكالوريا في سنة واحدة (1946)، ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت في سنة 1947، وكان يكبر معظم زملاء صفه بنحو عشر سنوات، ونال البكالوريوس بامتياز في سنة 1951، ثم الماجستير في سنة 1955، وكان عنوان رسالته "العقل والإيمان بين الغزالي وابن رشد". وهنا انفتحت أمامه أبواب دراسة الدكتوراه، فسافر إلى إنكلترا للالتحاق بجامعة كيمبردج في سنة 1956، واختار جبران خليل جبران موضوعًا لأطروحته. وفي كيمبردج درس على المستشرق المشهور آرثر آربري، وتوثقت علاقته بالشاعر السوري – الفلسطيني توفيق صايغ الذي كان يدرّس آنذاك في الجامعة. أما لماذا اختار جبران خليل جبران موضوعًا لأطروحته، وما هو الرابط الخفي بين جبران وخليل حاوي، فالراجح عندي هو التالي: إن فكرة المنفى كانت نوعًا من الجامع المشترك بينهما؛ فجبران منفي عن وطنه بالغربة القسرية، وحاوي كان منفيًا في داخل وطنه بالغربة القهرية. ثم إن الاثنين عاشا قسوة الطفولة، ولم ينعما بالاطمئنان قط، ولم يعرفا معنى الرضا والتكيف والاندماج الاجتماعي. والمشترك بين حاوي وجبران، على مستوى الإبداع، هو التجديد في اللغة الشعرية، والتمرد على الأفكار القديمة. وبحسب رأيي، فإن إعجاب حاوي بجبران مصدره أنطون سعادة الذي رأى في جبران "الشفق الذي يسبق الأنوار الساطعة؛ أنوار النهضة القومية الاجتماعية". ثم إن الاثنين، جبران وحاوي، انتميا إلى سورية؛ فجبران كان يعتبر نفسه سوريًا، ولبنان لديه مجرد منطقة في سورية، وكذلك حاوي المولود في ناحية من نواحي سورية، فقد انتمى إلى الحزب السوري القومي بعقله وعاطفته وإرادته الحرة معًا.
بدأ خليل حاوي يميل إلى القومية العربية بعد العدوان الثلاثي الإنكليزي – الفرنسي – الاسرائيلي على مصر في سنة 1956، وتوقف عن حضور الاجتماعات في الحزب السوري القومي الاجتماعي في سنة 1958 خصوصًا مع تزايد الخلافات والانشقاقات في داخل الحزب غداة اغتيال العقيد عدنان المالكي في دمشق سنة 1955، والذي اتهم جورج عبد المسيح، رئيس الحزب، بتدبيره. وكان جنوحه إلى الفكرة العربية قد تعمق بعد صعود نجم جمال عبد الناصر في سماء المنطقة العربية. وكان لوقوف السوريين القوميين إلى جانب كميل شمعون إبان حوادث عام 1958 في لبنان أثر كبير في انعطاف خليل حاوي نحو القومية العربية، وسبب من أسباب خلافه مع قيادة الحزب السوري القومي، وبالتحديد مع جورج عبد المسيح. وكان من عقابيل ذلك كله أن ترك الحزب نهائيًا في عام 1961، وراح يكتب في مجلة "الآداب" العروبية التي أصدرها سهيل إدريس في سنة 1953، فيما كان رفاقه القدامى أمثال السورييَن أدونيس ويوسف الخال قد أسسوا في سنة 1957 مجلة "شعر" الليبرالية ذات الجذور القومية السورية.






ترك خليل حاوي الحزب السوري القومي الاجتماعي، لكن تأثير أنطون سعادة فيه ظل قويًا جدًا. وقد أورثه انفصاله عن الحزب وحشة وكآبة وشعورًا بالفاجعة. وظهر ذلك في ديوان "نهر الرماد" (1957) الذي طغى على قصائده الشعور بالنفي والغربة. ولأنه كان يعشق العرب، ويكره في الوقت ذاته عقمهم الحضاري، فقد اقترب من فكر حزب البعث العربي العلماني الانقلابي (الثوري).  وفي سنة 1958 راح يتردد على دمشق ويُلقي قصائده في النادي العربي، ويلقى ترحيبًا مميزًا وتبجيلًا منقطع النظير. وكان من بين المحتفين به زكي الأرسوزي والمفكر مطاع صفدي والشاعر خليل الخوري. ولعل إيمانه بقدرة الأمة العربية على الانبعاث يجد جذوره في الثقافة المسيحية لخليل حاوي، أي في عقيدة موت المسيح ثم قيامته، وهي عقيدة سورية قديمة، بل هي واحدة من عقائد الخصب التي انتشرت عبادتها في سورية ومصر والعراق (الحضارات النهرية)، وكان من أشهر رموزها الأسطورية أدونيس في سورية وأوزيريس في مصر. وفي السياق المعاصر لهذه العقيدة، فإن الانبعاث أو القيامة أو التجدد يحتاج إلى بطل كالمسيح. وقد رأى خليل حاوي في جمال عبد الناصر ذلك البطل. غير أن مأساته كانت حارقة، بل شديدة الأوار، حين كانت الضربات توجه إلى عبد الناصر؛ فقد صُدم بالانفصال، أي بانفكاك الوحدة السورية – المصرية في سنة 1961، وكان خليل يبكي جراء ذلك بكاء مرًّا. وأكثر ما لوّعه هو هزيمة 1967. وهكذا فإن الانتقال من الفكرة السورية إلى الفكرة العروبية بنسختها البعثية أدى إلى صدمة جديدة بعد هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967؛ فقد خسر الأولى، وأحس بالخيبة الشديدة من الثانية. وفي هذا الهول الوجودي كتب قصيدته المشهورة "لعازر" في سنة 1962، أي بعد الانفصال مباشرة، ونشرها في ديوانه "بيادر الجوع"، يقول مطلعها:

عمّق الحفرة يا حفّار

عمقها لقاعٍ لا قرار

لُفّ جسمي، لُفّه، حنِّطه، واطمره

بكلسٍ مالحٍ

صخرٍ من الكبريت.

 

شعر بلا زخارف

تأثر خليل حاوي في بداياته بكتابات أمين نخلة النثرية، وبقصائد بدر شاكر السياب ولا سيما بقصيدة "المومس العمياء". غير أن شعر خليل حاوي ينحو، خلافًا لأمين نخلة والسياب، إلى التأمل في الوجود والأكوان، ويكتظ بالرؤى والحدوس ومحاولة هتك أسرار الوجود. والشعر لدى حاوي رؤى فجائية تنتاب الشاعر في أثناء تأمله الحقائق المتوارية خلف الواقع وخلف حُجُب العقل.





وشعر خليل حاوي تركيب إبداعي متعدد العناصر كالفكر واللغة والفلسفة والمجاز والرموز الدينية، وهو، بهذا التركيب، يفترق عن الشعر الغنائي الذي يجذب إليه الذائقة العامة. وشعره ذو طبقات متعددة، لكنها متآلفة بقوة كأنها نسيج واحد. وهو شعر بلا زخارف، والرموز فيه هي رموز انبعاثية أي قيامية، فلا يندرج شعره في سياق الرمزية المرتكزة على الذات الفردية كما ظهرت في الأدب الغربي، بل يستند إلى رموز الحضارة السورية القديمة مثل أسطورة أدونيس وديانات الأسرار وعقائد البعث والخصب والتجدد. ويمتلئ ديوان "نهر الرماد" بالرموز، لكن ذلك كله إنما يعكس غربة الروح والوحشة بالدرجة الأولى. ويتحد في شعره الخاص والعام معًا؛ فالخلاص لديه ليس خلاصًا فرديًا، بل خلاص الأمة. والغضب الكثيف في شعره لا يعكس الغضب على مصيره الفردي، بل على مصير أمته. ولعل "لعازر" الذي بُعث من الموت يرمز إلى انبعاث بطل يقود الأمة إلى الحياة، وهو ما وجده في جمال عبد الناصر. والطين كرمز قديم يعني الخصب والنماء؛ إنه الطمي لدى الشعراء التموزيين، لكنه، عند خليل حاوي، يعكس القسوة والبرودة، ويذكّره بالحجر الغشيم حين كان يعمل في بناء المنازل في سورية. وكثيرًا ما استعمل حاوي كلمة "الطين" في معرض الاحتقار خصوصًا في قصيدة "البحّار والدرويش" التي يقول فيها إنه لم يرَ في الكون غير طين ميت هنا وطين حار هناك... إنه طين بطينٍ. وفي هذا الميدان استعار من بشار بن برد بيتًا من الشعر، ضمّنه في قصيدة "صلاة" (ديوان "من جحيم الكوميديا")، فيقول في مطلع القصيدة:

إبليسُ من نارٍ وآدم طينة

                                      والطين لا يسمو على النارِ

أما بشار بن برد فيقول:

          إبليس أفضل من أبيكم آدمَ

                                      فتبينوا يا معشرَ الفُجارِ

          النار عنصره وآدم طينة

                                      والطين لا يسمو على النارِ

 

الانفعال هو جوهر الابداع الأدبي والفني، أَكان الانفعال انفعالًا بالمقدس أم بالمُثُل. وخليل حاوي شاعر منفعل وغضوب في الوقت نفسه، وكانت السبحة في يده دائمًا. والسُبحة، كما هو معلوم في التحليل النفسي، أداة لتخفيف التوتر من خلال عبث الأصابع. ومع ذلك، ما كان التوتر والقلق ليغيبا عنه البتة. ولهذا، ربما، غلبت مفردات الوحدة والوحشة ومواجهة الوجود بلا سند على قصائده. ففي "نهر الرماد" وردت كلمة "الموت" ومرادفاتها نحو 85 مرة. وفشت في أشعاره العبارات المتنافرة أو المتضادة مثل "نهر الرماد"؛ فالنهر رمز الخصوبة والحياة، فيما الرماد رمز للفناء. وعلى هذا المنوال كتب "بيادر الجوع"، ووضع عناوين لبعض قصائده على النحو التالي: "جحيم بارد"، "الجروح السود"، "حب وجلجلة" (ديوان "نهر الرماد") على طريقة "أزهار الشر" لبودلير، أو حتى "أفاعي الفردوس" لإلياس أبو شبكة.



شاعر بلا حب
لا أثر للحب في شعر خليل حاوي، مع أنه مرّ بتجارب عشق متعددة. الحب الأول في حياته كان لفتاة من القنيطرة، وظل يجمع المال القليل كي يتسنى له أن يزورها في الشتاء. وإخال أن كل حب لاحق عاشه خليل حاوي كان طيفًا أو استعادة لحبه الأول ذاك. والحب الثاني كان لفتاة من الشوير، وحيدة والديها ولا أشقاء لها. وقد تواعدا على الزواج بعد عودته من الأردن الذي ذهب إليه متسللًا من القنيطرة. إلا أن تلك الفتاة تزوجت أحد أقاربها في أثناء غيابه، فترك ذلك الأمر في نفسه جرحًا طال أوان اندماله. أما الحب الثالث فقد أودعه لدى فتاة في الجامعة الأميركية تدعى عبلة أبي عبد الله، واستمرت علاقتهما سنتين، وانتهت إلى الانفصال. أما علاقته بالأديبة العراقية ديزي الأمير فقد انتهت، مثل سابقاتها، إلى الاضمحلال. ومرت بحياته نساء متعددات المشارب جاوزن التسع، ومع ذلك فشلت محاولات الارتباط الدائم بامرأة محددة. والراجح عندي أنه كان يخشى الارتباط بزوجة، وفي هذا يقول: "هناك شعور مضمر في نفسي بأن الشعر يقتضي من الشاعر وقف حياته عليه، وبخاصة عندما يكون [الشعر] شعرًا ملتزمًا بثورة انبعاث حضاري مطلقة". ويضيف: "الشعر يستولي على نفسي بكلّيتها، وإن أقرب النساء إليّ، كما قالت إحداهن، تأتي في الدرجة العاشرة بعد الشعر". والحب لدى حاوي، كما يظهر في قصيدة "الحب والجلجلة"، ليس كالعطر الذي يفوح رحيقًا على الحياة، بل إنه مرتبط بالعذاب والتأسي؛ فقد غمر حاوي شعور مكثف بالانهدام والوحدة، ولم يرد أن يجرّ أي امرأة إليه. ومع ذلك كان يحلو له أن يردد بيتًا من العتابا اللبنانية يقول:

غَبْنَك يا ربيع العمر ولّيتْ

وما عادْ ينفع الآخْ والليتْ

ولو حوّلنا هذا البيت إلى الفصحى لصار: يا للخسارة، فقد ولى ربيع العمر، وما عاد ينفع التفجع والتمني.

الموت النبيل

لم يكن الانتحار المدوّي لخليل حاوي مجرد احتجاج على الغزو الاسرائيلي للبنان فحسب، بل يعود أيضًا إلى أسباب متعددة متراكمة، فقد سبق انتحاره "الناجح" ثلاث محاولات فاشلة. ولعل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 1982 حرّك غضبه، وأطلق في نفسه موجة من الغليان والألم دفعته، في لحظة من السويداء، إلى اتخاذ قرار بإنهاء حياته حين صار غير قادر على احتمال ذلك الوضع المهين. لكن، من غير الصحيح إرجاع سبب انتحاره إلى الاجتياح الاسرائيلي وحده كما راح بعض الكُتّاب يكتب. ثمة أسباب مكشوفة وأسباب غائرة تراكمت كلها في لحظة جعلته يقدم على إطلاق النار على رأسه.









ومن غير الممكن تعليل ذلك بالاستقراء العقلاني فحسب، أو بالتحليل السياسي، فالانتحار مسألة غير عقلانية في الأساس، ولا يمكن اكتشاف مكابدات اللحظات الأخيرة قبل الموت، لأنها تذهب مع صاحبها. وفي أي حال، فقد سجّل خليل حاوي ثلاث محاولات فاشلة للانتحار. الأولى في مطار تونس احتجاجًا على احتجازه في المطار لتدقيق المعلومات عنه، ثم منعه من الدخول إلى البلاد، فأحس بالإهانة، وكتب عن تلك الحادثة قصيدة "في بلاد الغربتين" نشرها في ما بعد في ديوان "من جحيم الكوميديا". والثانية في بيروت سنة 1980 حين دهمته أزمة نفسية راح يُعالج منها بالحبوب المهدئة. وفي شتاء 1981 حاول الانتحار للمرة الثالثة بتناول كمية من الحبوب المنوّمة.
كان خليل حاوي شاعرًا رؤيويًا مهجوسًا بمصير الأمة. ونظر إلى شعره وإلى نفسه كشاعر ملهم لهذ الأمة، ما يقترب من صورة النبي أو البطل. وفي الوقت نفسه كان لديه شعور بالإثم تجاه الأمة. وفي لحظة غضب عارمة، وبطريقة فيها ملامح من البطولة والشجاعة، يقدم أمثال هؤلاء على الانتحار.  ولم يكن خليل حاوي يخفي ذلك الهاجس قط، وهو ما قاله لصديقه وقريبه شفيق عطايا في مساء 5/6/1982: "مهما حاولت لن أستطيع أن أحقق قيامة العرب. لن يستيقظوا من سباتهم العميق". وفي منزل شفيق عطايا راح يقرأ قصيدة "في الجنوب" (ديوان "من جحيم الكوميديا") ويردد: مَن يمحو العار عن جبيني".
قبل أن يبدأ صيف 1982، صعد خليل حاوي إلى بلدته الشوير ليتفقد منزله استعدادًا  للاصطياف، فوجده قد تعرض للسرقة، فغضب جدًا، وتناول مسدسه وأطلق طلقات عدة في الهواء، الأمر الذي استدعى وصول دورية من قوات الردع العربية (الجيش السوري) لمعرفة ما يجري. ولما أراد قائد الدورية التحقيق معه لمعرفة لماذا أطلق النار، غضب مجددًا. وكان من بين المسروقات لوحات فنية وبندقية صيد من طراز سانت إتيان. ولما تمكنت إحدى وحدات الجيش السوري من استعادة تلك المسروقات، حمل البندقية معه إلى منزله في بيروت. وعند السابعة والدقيقة الثلاثين من مساء السادس من حزيران/ يونيو 1982، وكان الاجتياح الإسرائيلي قد بدأ يتوغل في مناطق الجنوب اللبناني، كان خليل حاوي آتيًا من شارع بلس الموازي للجامعة الأميركية في بيروت، التقى شفيق عطايا الذي اصطحبه معه إلى منزله. وعند التاسعة ليلًا نزلا ليتمشيا معًا. وعند العاشرة عاد خليل إلى منزله في شارع المكحول وهو يكاد يتفجر غضبًا. ثم خرج إلى الشرفة. وفي العاشرة والثلاثين دقيقة تناول بندقية الصيد وأطلق منها رصاصة واحدة على رأسه. ولم تُكتشف حادثة الانتحار إلا في صبيحة 7/6/1982.
لم يكن خليل حاوي صيادًا بارعًا، لكنه، في لحظة سوداوية غامرة اكتنفت مشاعره الفائرة، اصطاد نفسه بطلقة واحدة. وبرحيله فقدت سماء الشعر العربي واحدًا من أقمارها الجميلة. وقد رثاه محمود درويش بقصيدة نُشرت في ديوانه "مديح الظل العالي" يقول فيها:

الشاعر افتُضِحت قصيدته تماما،

وثلاثة خانوه:

تموز

وامرأة

وإيقاع، فنامَ.

الشاعر افتُضحت قصيدته تماما،

في بيته بارودة للصيدْ،

في أضلاعه طيرٌ،

وفي الأشجار عقم مالح

وخليل حاوي لا يريد الموت رغمًا عنه،

يصغي لموجته الخصوصية

موت وحرية

فليفتح قصيدته

ويذهب

قبل أن يغريه تموز وامرأة وإيقاع

ونامَ..

#  منصور الرحباني يقرأ من شعر خليل حاوي: 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.