كنّا نشتري جريدة "السفير" لأجله، ولأنها تعبر عن اليسار العربي في تلك الأيام، وأذكر مرّة كيف أنه رسم لوحة، وفيها العماد مصطفى طلاس، بكامل نياشينه وهو يرتدي البزة العسكرية، ويقول: إنّه يحبّ ملكة جمال لبنان، وثلاث نساء في المشهد يندبن على صدرهن، الأولى تقول: "أنا مريم الغزاوية"، والثانية تقول: "أنا فاطمة الفلسطينية"، والثالثة تقول: "أنا أمينة الجولانية"، ويرتدين ثيابًا طويلة، ويلتحفن الكوفية الفلسطينية، ويصرخن: "يمّا ما لنا بالطيب نصيب". وطبعًا منع العدد من الدخول.
ناجي العلي يعتبر من أبرز الفنانين الفلسطينيين الذين عملوا على ريادة التعبير السياسي باستخدام الفن كأحد أساليب التكثيف. فقد كان يقول: "يلي بدّو يكتب لفلسطين... ويلي بدّو يرسم لفلسطين، بدّو يعرف حالو ميت، هكذا أفهم الصراع: أن تتصلب قاماتنا كالرماح ولا تتعب". كانت ريشته مشرطًا، وهو يحاول استئصال الأورام الخبيثة من الجسم العربي، واتسمت رسومه بالجرأة والصراحة وملامسة هموم الناس وتوجهاتهم... انتقد الاحتلال والقمع والاستبداد، قائلًا "أنا أرسم لفلسطين، ولو ذوبوا يدي بالأسيد سأرسم بأصابع رجلي".
رسم عن الديمقراطية والخلافات العربية والتساؤلات الفلسطينية، ورسم عن بيروت أثناء الحرب والحصار الصهيوني لها، فهو ضمير الإنسان العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص. رسم الرئيس المصري أنور السادات مدفونًا وعلى الشاهدة مكتوب: "مات دفاعًا عن إسرائيل، فيما عدد من الزعماء العرب يتطلعون إليه وهم يرددون: أنتم السابقون ونحن اللاحقون". إنّه يرصد تخلفنا نحن العرب، ويرصد جهلنا، ويرصد الاستبداد الواقع على رقابنا، في خطوط متألمة وساخرة. كان يريد العمل في المسرح، لكنه اكتشف أن الكاريكاتير هو الأداة المناسبة للتواصل... وربما الموت. ففي لوحة نرى الرجل الفلسطيني يكتب وحنظلة يقول له: "مقالتك اليوم عن الديمقراطية عجبتني كثير، شو عم تكتب لبكره"، فيرد الرجل العجوز "عم بكتب وصيتي".
نجد في اللوحات انتقادات لاذعة وحادة، مع لغة راقية ورسومات سلسة وموهبة في الوقت ذاته، وإحدى لوحاته مكتوب عليها: "من راقب الأنظمة مات همًا"، وتحتها كلمة راقب وبين قوسين نجد كلمة الناس، وحنظلة يتفرج عليها.
وُلِدَ ناجي في قرية الشجرة عام 1937، وربما 1938، فهو لا يعرف يوم ميلاده بدقة، اسمه بالكامل: ناجي سليم حسين العلي، وقرية الشجرة تقع بين طبريا والناصرة، هاجر مع أهله في عام النكبة 1948 إلى جنوب لبنان، وعاش في مخيم عين الحلوة القريب من صيدا، وأسرته كانت تعمل في الزراعة في قضاء طبريا، اعتقلته القوات الإسرائيلية وهو صبي، لنشاطه، فراح يرسم على جدران الزنزانة، وكذلك عندما تم اعتقاله في ثكنات الجيش اللبناني، تعلّم في المخيم، وسافر إلى طرابلس، وحصل منها على شهادة ميكانيك السيارات، وتزوج من وداد صالح نصر من بلدة صفورية في فلسطين، أنجب منها أربعة أولاد، هم: خالد – أسامة – ليال – جودي، وقد نشر له غسان كنفاني أولى أعماله في مجلة الحرية، التحق بالأكاديمية اللبنانية لمدة عام ودرس فيها الرسم، كان يعمل في جريدة "السفير"، ثم سافر إلى الكويت ليعمل محرّرًا ورسامًا ومخرجًا صحافيًا، عمل في الطليعة والسياسة والقبس المحلية والدولية، رسم 40 ألف لوحة، همّه كبير ورسوماته لا تستطيع احتمال همّه.
ومثلما كتب: "عزيزي القارئ، اسمح لي أن أقدم نفسي، أنا، وأعوذ بالله من كلمة أنا، اسمي: حنظلة، اسم أبي مش ضروري، أمّي: اسمها نكبة، وأختي الصغيرة: فاطمة، نمرة رجلي: ما بعرف لأني دائمًا حافي... تاريخ الولادة 5 حزيران، جنسيتي: أنا مش فلسطيني... مش أردني ولا كويتي ولا لبناني ولا مصري... أنا مش حدا، باختصار ممعيش هوية، ولا ناوي أنحبس، محسوبك: عربي... عربي... عربي... وبس".
وحنظلة شخصية ابتكرها ناجي العلي وهي تحاكي الشعب العربي، إنه صبي في العاشرة، مغترب، قوي، شاهد على الأحداث، لا يخشى أحدًا، وغير مكترث بأحد، أدار ظهره للعالم، ويداه خلف ظهره، وهو بمثابة الضمير العربي، طفل في العاشرة من عمره، ثيابه مرقعة، وشعره منكوش، وهو لا يكبر، أخذ بعدًا قوميًا وكونيًا، إنه كالقنبلة الموقوتة التي قد تنفجر في أية لحظة، ربما هو أسطورة، فهو يرى كلّ شيء ويعرف كلّ شيء، ويتحدث بكلّ اللغات، إنه يبقى معه، ويلكزه دائمًا، وساعات يتحول إلى مقاتل، فهو قمّة ما أبدعه ناجي العلي، وأصبح يوقّع به على رسوماته، يقول عنه: "هو بمثابة الأيقونة التي تحفظ روحه من الانزلاق، وهو نقطة العرق التي تلسع جبينه إذا ما جبن وتراجع". وعن تكتيف يديه يقول: "كتفته بعد حرب أكتوبر 1973، لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة... دلالة رفضه المشاركة في حلول التسوية في المنطقة، فهو ثائر، ولكنه مطيع".
وعندما سئل عن موعد رؤية وجه حنظلة، أجاب: "عندما تصبح الكرامة العربية غير مهدّدة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بإنسانيته وكرامته وحريته".
إنّ حنظلة يشكل ضميرًا واعيًا، إنه هوية ناجي العلي الإنسانية، ودائما هو موجود في الصورة. (الفقير الفلسطيني يرفع يديه إلى الأعلى، وهو يدعو ويقول: "كنت مجنون... كنت أهبل، وكنت أصفق لما يقولوا بدهم يحرّروا فلسطين... كنت أثق بكلامهم... التوبة... التوبة... يا رب، وحنظلة ينظر إليه ويتكتف).
إنّه ليس ضمير الشعب الفلسطيني وقضيته فقط، وإنما شرائح واسعة من المقهورين والمهمشين وضحايا الاستبداد.
كذلك ابتكر ناجي العلي رموزًا وشخصيات عديدة، يحاكي بها الواقع والشعب، منها: شخصية فاطمة المرأة الفلسطينية التي لا تهادن، ورؤياها شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية، وترمز أيضًا إلى مصر وبيروت وصبرا وصيدا وصور، إنّها رمز للمقاومة، المرأة الشامخة ذات الوجه المدوّر والعينين الواسعتين، حافية القدمين، ترضع ابنها حبّ الوطن، وتدفع زوجها وأولادها دائمًا إلى تحرير الوطن... إنها رمز للمناضلة العربية، تسكن وسط بيوت الصفيح، وها هي تمسك بولد مقطع الأوصال، والولد في حضنها يتحول إلى شجرة تبدأ بالنمو، وحنظلة يتطلع إليها شاهدًا على الحدث.
وهي بعكس شخصية زوجها الذي ينكسر أحيانًا، وهو عبارة عن كادح ومناضل ونحيل، له شاربان، كبير القدمين واليدين، مما يوحي بخشونة عمله وهو في النهاية طيب ومسالم. في لوحة رسمها ناجي العلي نرى فاطمة تحمل مقصًا، وتقول لزوجها: "شفت يافطة مكتوب عليها "عاشت الطبقة العاملة" روح جيبها بدي أخيط منها كلاسين للأولاد".
وابتكر شخصية رجل سمين ذي مؤخرة عارية، لا أقدام له، وهو يمثل القيادات الفلسطينية والعربية والخونة الذين يتاجرون بالدم العربي، ورسم شخصية الجندي الإسرائيلي، فهو طويل الأنف ومرتبك أمام سيل من حجارة الأطفال، إنّه خبيث وشرير أمام القيادات الانتهازية.
تلقى ناجي العلي طلقة من مسدس كاتم للصوت، جاءت تحت عينه، من أحد ما، ولم يقبض على القاتل، وكان متجهًا إلى مكتب القبس في نايت بريدج/ لندن، وكان ذلك في الثاني والعشرين من تموز/ يوليو عام 1987، وعاش في غيبوبة حتى وفاته في التاسع والعشرين من آب/ أغسطس، ولم تعرف الجهة التي كانت وراء عملية الاغتيال لأن رأسه كان مطلوبًا من كثيرين، وقبره هو الوحيد الذي لا يحمل شاهدًا، ولكن يرتفع فوقه العلم الفلسطيني، ويحمل الرقم /230190/ في مدفن "بروك وود" القريب من لندن.
لقد صفي ناجي العلي وتخلصوا من ريشته نهائيًا، فلا فرق بين الصهاينة والأنظمة العربية الفاسدة، لأن المثقف أصبح عدوًّا لهما، وقد كان يدرك أن بقاءه على قيد الحياة هو وليد المصادفة، وتميّز بالنقد اللاذع في رسومه، ورسم لوحة تبيّن أن كلّ فلسطيني متهم حتى تثبت إدانته، والأنظمة العربية تمسك هراوة وتطارد الفلسطينيين، وحنظلة يتفرج عليها ويغني... بلادي بلادي لك حبّي وفؤادي، وهناك في اللوحة عشرات من حنظلة.
وانتخب ناجي العلي رئيسًا لرابطة الكاريكاتير العربي، وحصل على الجائزة الأولى في معرض الكاريكاتير في دمشق عامي 1979 – 1980، ووصفته صحيفة يابانية بأنه من أفضل عشرة رسامين للكاريكاتير في العالم، وقام الفنان نور الشريف بإنتاج فيلم باسم ناجي العلي، من بطولته، وأثار ضجة وقتها ومنع في كثير من البلاد العربية، وحاز على جائزة القلم الذهبي لحرية الصحافة عام 1978.