}

ذكرى كلاريس ليسبكتور.. "أكتب لأبقى على قيد الحياة"

سارة عابدين 24 ديسمبر 2021

 

كلاريس ليسبكتور الجميلة صاحبة النظارات الشمسية والمجوهرات الكبيرة، الساحرة البرازيلية التي نمت تعويذتها حتى بعد وفاتها في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1977، تمر هذا الشهر الذكرى الـ 44 لوفاتها، وما زالت رواياتها بحاجة إلى قراءات متعددة لفك شيفرتها، خاصة وأنها اختارت طريقًا معقدًا في الكتابة وناضلت أيضًا ضد المفاهيم الأيديولوجية المعتادة حول الدور المناسب للمرأة.

تجاهلها الناشرون بشكل مؤلم لسنوات، ووضعت في مرتبة أدنى، لكنها أصرت قائلة إنها لا تستمتع بمقارنتها بفيرجينيا وولف، لأن وولف قد استسلمت بينما ترى هي أن "الواجب الصعب هو الذهاب إلى النهاية".

"أنا لا أكتب لإرضاء أي شخص"- كررت ليسبكتور هذه الجملة أكثر من مرة عندما عاتبوها بأنهم لم يفهموا ما تريد قوله في أعمالها. لم تهتم أبدا بما سيقولونه، خاصة وأنها جربت الرفض وهي طفلة، عندما أرسلت قصصها لجريدة "ببيرنامبوكو" البرازيلية لتنشر في قسم الأطفال ورفضت قصصها لأنها "تحتوي فقط على أحاسيس" بينما أرسل بقية الأطفال نصوصًا سردية.

كانت ليسبكتور واضحة في أنها ستكرس نفسها للكتابة. في مقابلة لها سألها المحاور "لماذا تكتبين؟"، سألته: "لماذا تشرب؟"، رد عليها قائلًا: "أشرب لأنني عطشان". فضحكت بعدم ارتياح قائلة "تقصد أنك تشرب حتى لا تموت. أنا أيضًا أكتب لأبقى على قيد الحياة". في الواقع لم تعمل فقط ككاتبة، لكنها كانت صحافية تكتب في الطبخ والموضة. أرادت أن تبدو كامرأة عادية، أمًا لطفلين وزوجة شخص ينتمي إلى الطبقة الوسطى. لكنها في الوقت نفسه كانت تفعل كل ما هو متعلق بالكتابة ببراعة. تتراوح كتابتها بين الشعر والنثر، وتملأ التفاصيل اليومية العادية بالروحانيات، كما اعتادت على استخدام ضمير المتكلم في كتابتها، ما يشعر القارئ بالألفة معها. نشرت ليسبكتور قصتها الأولى "الانتصار" في عام 1940. بعد ثلاثة أشهر توفي والدها في عمر الخامسة والخمسين. عندما بلغت 21 عامًا نشرت روايتها "بالقرب من القلب المتوحش" التي كتبتها في التاسعة عشرة من عمرها، لتحصل الرواية على جائزة "Graca Aranah" لأفضل رواية.


حياة عادية

تزوجت ليسبكتور عام 1943 من الديبلوماسي البرازيلي موريل جورجيل فالينتي، الذي التقت به أثناء دراستها للقانون. في نهاية ذلك العام بدأ الزوجان في السفر، وخلال وقت قصير تركت ليسبكتور بلدتها ومجتمعها ومهنة الصحافة التي اكتسبت فيها شهرة كبيرة. عاشت ليسبكتور لمدة 15 عامًا حتى انفصالها عنه عام 1959 حياة رتيبة وكانت تفتقد حياتها في البرازيل دائمًا رغم السفر والتنقل. كانت رحلتها الأولى إلى نابولي عام 1944 خلال الحرب العالمية الثانية، كمتطوعة لمساعدة الجنود البرازيليين المصابين في المستشفيات. نشرت روايتها الثانية "الثريا" عام 1946. في السنوات التالية سافرت في مناسبات مختلفة من إنكلترا إلى باريس حتى استقرت العائلة أخيرًا في برن حيث ولد ابنها الأول باولو.

لم تجد ليسبكتور نفسها خارج البرازيل وكانت عرضة للاكتئاب المستمر، لكن زواجها كان جيدًا من الناحية الاقتصادية، إذ رغم أنها لم تكن غنية، لم يكن عليها العمل على أي شيء آخر سوى الكتابة ولديها غرفة خاصة للكتابة.

دائمًا ما كتبت عن الموضوعات التقليدية المتعلقة بالأمومة والمنزل والأطفال، لكن كتابة ليسبكتور عن هذه الأمور كانت بأسلوب غير معتاد. كان جزء من غرابة أسلوبها رغبتها في نقل المشاعر والأحاسيس ما وراء الحقائق. سيلاحظ أي شخص يقرأ كتبها البحث اللغوي المتواصل وعدم الاستقرار النحوي الذي يعيق القراءة السريعة ويجعل توصيل المعنى صعبًا من القراءة الأولى. في عام 1949 نشرت روايتها "المدينة المحاصرة" ثم بدأت في كتابة القصص ونشرت بالفعل بعض القصص عام 1952. سافرت بعد ذلك إلى الولايات المتحدة حيث ولد ابنها الثاني بيدرو عام 1953، وبعدها بعام ترجمت روايتها "بالقرب من القلب المتوحش" إلى الفرنسية مع غلاف لهنري ماتيس.

انفصلت عن زوجها عام 1959 ثم عادت إلى البرازيل لتستمر في الكتابة ونشر المقالات الشخصية، واستمرت أيضًا في كونها لغزًا منيعًا وشخصية أقرب للأسطورة بسبب ميلها للعزلة وبسبب نوبات الاكتئاب. وكأن ذلك لم يكن كافيًا، في عام 1966 نامت ليسبكتور وفي يدها سيجارة مشتعلة لتصاب بحروق كبيرة في جسدها. دخلت المستشفى بسبب هذا الحادث لعدة أشهر وكانت يدها اليمنى مصابة بشدة وكادت أن تبتر ولم تعد لطبيعتها أبدًا، بالإضافة إلى الندبات والعلامات التي تركها الحادث على جسدها والتي تسببت في زيادة اكتئابها وعزلتها.

في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات كرست نفسها للكتابة للأطفال وترجمة بعض الأعمال الأجنبية. أما روايتها الأخيرة "ساعة النجمة" فكانت عبارة عن رواية كتبت على ظهر الأوراق الصغيرة وعلب السجائر. رواية صغيرة أقل من 100 صفحة تدور حول فتاة تسافر مثلها لسنوات من الشمال الشرقي إلى ريو دي جانيرو.

توفيت ليسبكتور في ريودي جانيرو في 9 ديسمبر 1977 في السادسة والخمسين من عمرها، قبل يوم واحد من بلوغها السابعة والخمسين ضحية مرض السرطان. قبل أن تموت ودعت الممرضة قائلة "شخصيتي تموت".





غرابة أسلوب ليسبكتور

نجد في كتابة ليسبكتور أن الراوي يتحكم بشكل كامل في الحكاية، ويمكنه الذهاب إلى أي مكان، حيث يصنع هو المنعطفات التي يختارها ليقول ما يريد. يقفز إلى مشاهد مختلفة تدور فقط في عقل الكاتبة. تقول ليسبكتور إنها أثناء العمل على كتاب ما، تدون أفكارها بمجرد أن تدور في رأسها، ما يخلق سلاسل من الأفكار والأفعال بدون هدف رئيسي. فهي ترغب في رواية أكثر وعيًا بكل لحظة تمر ولا تتحلل في اللغة لدرجة الغرق فيها.

كتبت ليسبكتور في عام 1964 روايتها الأغرب على الإطلاق "العاطفة تبعًا لـ GH" وتدور الرواية حول امرأة تغيب خادمتها فتقرر ترتيب غرفتها بنفسها، لتجد صرصارًا يخرج من خزانة ملابسها، فتقتله. هذه هي القصة، لكن المساحة التي نجحت ليسبكتور في إيقاظها في خضم هذا الفعل البسيط، هي مساحة جنونية ومثيرة للقلق. بالرغم من بساطة الحبكة إلا أن ليسبكتور تنتقل داخل الحكاية بين المشاعر العميقة والأحداث اليومية التافهة من خلال استكشاف عالم البطلة الصغير المحيط بها. بداية من جدران الغرفة التي يبدو أن البطلة لا تعرفها جيدًا رغم أنها غرفتها الخاصة، حتى استكشاف أعماق الشخصية وهي تراقب الحشرة الميتة أمامها واستكشاف الحقائب الموجودة بالغرفة والمحفور عليها الأحرف الأولى من اسم الشخصية "GH" حتى تصل من خلال ذلك إلى استكشاف اللغة ثم إنكارها كمصدر للمعنى وهو ما تنتهجه في أغلب روايتها.

تزخر روايات ليسبكتور بأفكارعن الموت والعدم والله واللغة والجحيم. كل جزء صغير من نثرها ينفصل ثم يبدأ من جديد على صفحة جديدة بنفس الجملة التي انتهى بها من قبل، مثل درج من الأفكار التي تتنامى كلما تعمقت في الكتابة حتى أنها في بعض الأحيان تكتب كل ما يدور في عقلها سواء بدا مهمًا أو مملًا، ليستهلك سردها طاقة كبيرة من القارئ حتى يصل إلى عمق ما ترغب في قوله.

صدمت بعض قصصها النقاد والقراء بسبب الإشارات الجنسية الصريحة إلى الجسد والتي تشكك بشكل واضح في واجبات الأمومة والصورة التقليدية للأم، بالإضافة إلى إشارات القمع الجنسي للنساء صغارًا وكبارًا. في روايتها الأخيرة "ساعة النجمة"، التي نشرت قبل شهر من وفاتها قدمت للجمهور جانبًا جديدًا يتعامل مع موضوعات القمع الاجتماعي والاقتصادي من خلال شخصية أنثوية فقيرة وغير متعلمة ولا تحمل سمات البطولة. من خلال الصوت السردي المعقد حكت ليسبكتور كيف أن المقاومة غير البطولية، المقاومة اليومية البسيطة ضد كل الصعاب، تمثل شرارة حياة كثيرًا ما يتجاهلها العالم. هذه الشرارة هي ما يميز كلاريس ليسبكتور كامرأة ومؤلفة وإنسانة.

مصادر:

https://jwa.org/encyclopedia/article/lispector-clarice?fbclid=IwAR2Y4Sx8TaFOcXIyPE4ynW6HAx2JKSTC4Lkmo3_ULbJL6qul0Kr0_KMwDck

https://www.newyorker.com/books/page-turner/the-true-glamour-of-clarice-lispector?fbclid=IwAR0u_T30wy7fhtPX7PoW3kTT4E_mXjGnAlwx2Dx61kTuFeZ4F2ccUeqC-XU

https://www.vice.com/en/article/wdpbwy/the-dark-logic-of-clarice-lispector?fbclid=IwAR2sfYZBUDa7pvLLr7UZZJ1JdnaG7y6W9e62dASrXGV_V2w8MeM8CTsUBFc

https://benjaminmoser.substack.com/p/an-interview-with-clarice-lispector?fbclid=IwAR0Ht3zN1ZiegjRFGSHm3FUH4-6sp3JR1IOJK65qFa0Q3O9lBOtFq7J31fg

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.