}

ذكرى فؤاد الخشن.. مواقف متميّزة في الإنسان والوطن والحياة

سليمان بختي سليمان بختي 6 ديسمبر 2021
استعادات ذكرى فؤاد الخشن.. مواقف متميّزة في الإنسان والوطن والحياة
فؤاد الخشن (1924 ـ 2006)
هل صحيح أن الشاعر اللبناني فؤاد الخشن (1924 ـ 2006)، الذي غاب قبل 15 عامًا، كان الشاعر الحداثي الأول في الشعر العربي الحديث، وسبق قصيدة "هل كان حبًا" للسياب، و"الكوليرا"، لنازك الملائكة. عام 1946، نظم فؤاد الخشن قصيدة "إلى ملهمتي الأولى"، ومطلعها يقول: "أنا لولاك لما كان غنائي/ يرقص الكون على لحن السناد". وحملها إلى ألبير أديب (1908 ـ 1985)، الذي نشرها في مجلة "الأديب" في (نوفمبر 1946)، وقد ترجم هذه القصيدة إلى الإنكليزية اللورد أربري ضمن عدة قصائد شعرية منوهًا بأن في هذه القصيدة كل صوفية الشرق وجماله. واعتبرت الناقدة سلمى الخضراء الجيوسي في كتابها "اتجاهات وحركات الشعر العربي والمعاصر" بالإنكليزية 1977 (ص 548 و547) وصدر بالعربية بترجمة عبد الواحد لؤلؤة، أن هذه القصيدة هي أول قصيدة حديثة نشرت في العالم العربي، أي قبل أن ينشر السياب (1926 ـ 1969) قصيدته "هل كان حبًا"، وقبل أن تنشر نازك الملائكة قصيدتها "الكوليرا" بأكثر من سنة، أي 1947. وتعطي الجيوسي للشاعر اللبناني فؤاد الخشن فضل الأسبقية في اجتراحه خطًا مختلفًا عما سبق في الشعر العربي الحديث. وعندما سألته الجيوسي كيف توصلت إلى هذه الطريقة أجاب: "بفطرتي الشعرية، ولا أذكر أنني قد تأثرت بأي شاعر سبقني في هذا". وتعتبر الجيوسي أن فؤاد الخشن هو أيضًا من شعراء المهجر، كما صنفه الشاعر جورج صيدح في كتابه "أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية". والحال، أن الشاعر فؤاد الخشن هاجر إلى فنزويلا، حيث مكث سبع سنوات، ثم عاد إلى الوطن. وينتمي الخشن إلى المناخ الشعري اللبناني في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ومن رموزه سعيد عقل، وصلاح لبكي، وصلاح الأسير.
ولد فؤاد الخشن عام 1924 في بيروت، ثم انتقل إلى الشويفات قرب بيروت بعد هجرة والده إلى البرازيل عام 1926. نشأ في ربوع الريف اللبناني الجميل، وترعرع يلهو في حقول الزيتون وكروم العنب وفي ظلال أشجار الصنوبر.
عرف الخشن سحر الطبيعة وجمالها، وفتح عينيه على أزرق البحر، وعلى جبل الغيم الأزرق. ويصف تلك الأجواء في قصيدة "أصداء": فهنا في الحقل يشدو حاصد/ جمع القمح وآوى مسكنه/ وهنا راح يبكي في كفه/ قصب الريح بما قد لقنه.




لبث الخشن على علاقة تفاعلية تواصلية مع الريف، وفي قصيدة "إلى رفيق ريفي" يختم: هربت من عمرنا أحلى المنى/ كل شيء هنا سهل المنال/ سره جاه وألقاب ومال. ويقصد بذلك أجواء المدينة. وفي قصيدة عنوانها "إلى الشاعر القروي" يصور الخشن توقه وشوقه للعيش في حضن الطبيعة التي نشأ في رفقتها وظلالها، ويقول: فيها أسافر نحو ألف جزيرة/ في الظن تسرب كالخيال وتعبر/ وشراعي الشوق الذي لا يهتدي/ إلا بومض نجومها ويسيّر. ولكن قبل أن يكتب قصائده بالعربية الفصحى، فهو بدأ ينظّم باللغة العامية، مثل العديد من شعراء الزجل في لبنان، ومتأثرًا بجده لوالدته سليمان نعمان صعب. هذه الإقامة الملهمة له في الريف لم تطل، إذ عاد والده من المهجر البرازيلي ليبدأ العمل في التجارة في بيروت. فانتقلت العائلة من جديد إلى بيروت، وأكمل فؤاد تعليمه في مدرسة "حوض الولاية". لفت الفتى فؤاد الخشن نظر أساتذته في المدرسة، ومدى تمكنه من العربية، وفي نظم القصائد التي نال عليها بعض الجوائز التشجيعية. أنهى دراسته التكميلية، ودخل دار المعلمين عام 1944، وقرر أن يمتهن التعليم. مكنته معرفته اللغة الفرنسية من قراءة كبار الشعراء الفرنسيين، من رومانسيين ورمزيين وكلاسيكيين. كما استطاع قراءة بعض الشعراء الإنكليز مترجمين إلى الفرنسية، أو العربية.
عام 1951، شارك فؤاد الخشن في تأسيس جمعية "أسرة الجبل الملهم" في بيروت، التي لم تعمر سوى ثلاث سنوات. وكان معه في هذه الأسرة الدكتور علي سعد، وأحمد أبو سعد، وأحمد سويد، ومحمد دكروب، ومحمد عيتاني، وغيرهم. فجأة، قرر فؤاد الخشن ترك مهنة التعليم، وسافر مع زوجته أديل إلى فنزويلا للعمل في التجارة في عام 1953. ولكن غربته لم تطل كثيرًا، فعاد إلى لبنان عام 1960. وقد أضاف إلى ثقافته غنى الاطلاع على شعر كبار شعراء أميركا اللاتينية بلغته الإسبانية. وبدا ذلك يظهر في شعره منذ منتصف الستينيات؛ إذ تحول من الشعر الوجداني والرومانسي إلى الشعر الوطني والإنساني.




حاز فؤاد الخشن على عديد الجوائز، إذ فاز في أوائل الأربعينيات بجائزة ترجمة قصيدة لامارتين "الخريف" التي نظمتها إذاعة الشرق الأدنى. وفي عام 1951، فاز في مسابقة شعرية نظمتها الإذاعة اللبنانية لأجمل قصيدة غزلية. وفي عام 1966، فاز بجائزة "أهل القلم" لمجموعته الشعرية "أدونيس وعشتروت". ثم نال جائزة أصدقاء الكتاب لمختارات شعرية صدرت عن دار المعارف في مصر بعنوان "سنابل حزيران". ونذكر أن للشاعر مجموعات شعرية هي: "سوار الياسمين" و"معبد الشوق" و"غابة الزيتون" و"الهوى وحديث العينين" و"سدوم والوجه الأخير" و"صلوات الشيخ الأزرق".
كتب فؤاد الخشن بداية أشعاره بملامح رمزية واضحة بدت في قصائد مثل "جوع السنين"، و"الراقصة السوداء"، وغيرهما. وإذا كان استخدم التعابير الرمزية، إلا أنه كان شاعر الحب والمرأة والبوح والألم. وشابت قصائده أجواء من الحزن والكآبة. وعلى صعيد الشكل، كتب الخشن قصائده على الشعر الحر والموزون والمقفى. وهو إذا لم يغرق في عبق الورد والزنبق والياسمين، فإنه سرح في مسافات الحنين والنفس والحب والبحث عن ولادات جديدة.



قصيدته "بيروت والمطر"، وهي مهداة إلى محمد عيتاني، تذكر بقصيدة السياب "أنشودة المطر"، إذ يقول: بيروت يا زانية فؤادها الجليد والسخام/ يا جسدًا يعيش في الوحول/ يستلذ بالحرام لو يغسل المطر. وفي الشعر الوطني والقومي، ناصر فؤاد الخشن فلسطين، ودافع عن حقوقها وشعبها. كتب "حزن في ليلة الميلاد": ففي ظلام المذود الحقير/ لن يولد المخلص الصغير/ والنجم لن يرافق المجوس/ لن يكون في وقوفه الإشارة/ لمدخل المغارة. وفي قصيدة "يوم الفداء": وفلسطين التي أعطيتها/ يوم إطلاق الهتافات فمك/ أعطها الآن دمك. آمن فؤاد الخشن بالصوفية المنبثقة من مذهبه التوحيدي، ولبث في سفر دائم نحو الوجد الإلهي. وفي قصيدة "شهقات في قنديل الشيخ سليمان": في قبو مختبئ ناء/ في آخر ضيعتنا المنسية/ شيخ منخطف بالله/ يسافر نحوه/ فوق جناح الوجه الطائر. وأصدر كتابًا شعريًا بعنوان "صلوات الشيخ الأزرق"، وفيه كل تلك الومضات الصوفية والتجليات الإشراقية. وكتب في أبطال المقاومة الذين فجروا أجسادهم في عمليات استهدفت الجيش الإسرائيلي بعد اجتياح 1982. كما هاجم فساد السياسيين الذين حولوا الوطن إلى سوق لمصالحهم ونفاقهم.
أعطى الشاعر فؤاد الخشن من ذاته، وتميز شعره بالغنائية، وأسلوبه بالطلاوة، وأبياته حفلت بإيقاعات بلغت حد التطريب. وحول ما إذا كان فؤاد الخشن أول من كتب شعر التفعيلة في العالم العربي، وبحسب د.سلمى الخضراء الجيوسي، فإن بعض النقاد يميل إلى اعتبار ذلك ممكنًا، ولكن شعراء العراق، السياب، والملائكة، والحيدري، والبياتي، كانوا أقرب إلى الحراك الشعري الذي تنبثق منه حركات التجديد والتغيير.




في 1 كانون الثاني/ يناير عام 2006، توفي الشاعر فؤاد الخشن منعزلًا في منزله في شبه انسحاب من الحياة، لمرض، أو لخيبة. كتب الشاعر شوقي بزيع في رثائه: "مات فؤاد الخشن أخيرًا، مات بعدما غرق في سباته العميق سنينًا طويلة، لم يره خلالها أحد، ولم يقف أحد على المرض الذي أقعده عن الحياة، كما عن الشعر".
هل ظلم الشاعر فؤاد الخشن في حياته وفي موته وفي شعره؟ بالتأكيد لم ينل حقه، ولكن شعره يظل يصدح، وتجربته ستظل رائدة، وكلماته ستصل من خلف أوراق الزيتون لتغني عالمًا جميلًا، وتشهد لمواقف متميزة في الإنسان والوطن والحياة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.