}

"قلم حمرة".. لا يزال يلوّن شفاه الثورة السورية

ميسون شقير ميسون شقير 19 أبريل 2021
استعادات "قلم حمرة".. لا يزال يلوّن شفاه الثورة السورية
يم مشهدي
في الذكرى العاشرة على بداية الحراك السوري، وبعد كل هذا الموت والتشرد والخراب الزلزالي الذي أصاب شعبًا تجرأ وحمل أحلامه ورفعها عاليًا في حناجر كانت مليئة بالأمل وبالتحدي الأسطوري لأكثر نظام قمعي عرفته المنطقة في تاريخها الحديث.. في الذكرى العاشرة للمرة الأولى التي أطلقنا فيها ذاك الصوت الذي تمتلكه حبالنا الصوتية، والتي حاولت فيها منذ أكثر من أربعبن عامًا أن تصرخ، في هذه الذكرى التي عبرتنا منذ شهر، تعود بنا الذاكرة إلى كل تلك البدايات التي ما زلنا نستجير بها كي نحمي ما تبقى منا، فتنهض بنا مظاهرات درعا الأولى، ثم مظاهرات حمص، وتستفيق فينا مظاهرة المثقفين في حي الميدان في دمشق، التي حاول فيها عدد كبير من المثقفين السوريين، فنانين، وكتابًا، ومخرجين، وروائيين، وكتاب سيناريو، ومنظرين، وأكاديميين، جمعيهم حاولوا التأكيد على أن الحراك كان حراكًا شعبيًا حقيقيًا، وليس مؤامرة خارجية، أو خطة إسلامية متطرفة، كما ادعى النظام منذ اللحظة الأولى، مبررًا إطلاقه الرصاص الحي في أول يوم، وقتله لأربعة شباب مدنيين.

وفي تذكرنا لمظاهرة المثقفين هذه، نذكر اعتقال النظام وضربه الوحشي لكل من الشهيد المخرج، باسل شحادة، والفنان رامي العاشق، والفنانين الأخوين ملص، وسالم حجو، وعبدالعزيز الدريد، ومحمد أبو زيتون، وعبدالرحمن الحصني، وعبدالحكيم بازرباشي، وخلدون الخطيب، والفنانة الشهيدة الراحلة، مي سكاف، والكاتبة ريما فليحان، وغيفارا نمر، وسارة الطويل، ودانا بقدونس، وساشا أيوب، ورنا شلبي، ومجدولين حسن، وإياد شربجي، وفادي زيدان، ونضال حسن، وبلند حمزة، وكاتبة السيناريو السورية، يم مشهدي.
يم مشهدي، التي عاش اسمها وكبر في المسافة بين نصوص مسلسلاتها، وبين تجربة الاعتقال في سجون نظام الأسد، لأنها وقفت مع صوت الحناجر المقهورة في شوارع سورية، الأمر الذي جعلها تعيش تجربة مرعبة وخاصة ومؤثرة، وجعلها، بكل ما تحمل من خزين فكري وروائي، وقدرة على إعادة الإنتاج لهذا الخزين، أن تقدّم لنا عملًا من أهم وأصدق الأعمال التي تناولت الثورة السورية.


مسلسل "قلم حمرة" المرآة المكبرة العاكسة لقعر المجتمع السوري، ولحقيقية ملامح أحلامنا التي خربتها هذه السنوات العشر، والمسلسل العربي الأول الذي يطالب المشاهدون، وفي سابقة لم تحصل من قبل، بتحويله من مسلسل، أو من سيناريو عمل درامي، إلى رواية، وذلك بسبب غناه المضموني، وبسبب خصوصية وعمق وصدق الحوارات الأيديولوجية فيه.


حاولت يم مشهدي في "قلم حمرة" أن تقول كل ما يجب أن يقال، وأن تقرع أجراسًا يجب أن تقرع خوفًا على انتفاضة السوريين، وعلى المجتمع السوري بعد الزلزال الذي شكلته الثورة فيه. كما حاولت أن تؤكد على أن هذه الثورة هي ابنة شرعية لهذا المجتمع بكل ما فيه.
في مسلسلها، تمثل شخصية ورد شخصية يم مشهدي بحقيقتها، حيث تمثل ورد شخصية المثقف والفنان والكاتب وعلاقته مع الثورة، وتعدّد الجبهات التي فرض عليه أن يحارب ضدها، وتؤكد على تعامل الحكومات العربية، بشكل عام، والنظام السوري، بشكل خاص، بعنف مفرط مع كل مثقف وقف مع الثورة، لأن يم تعرف تمامًا أن الثائر المثقف هو أخطر على النظم الاستبدادية من الرصاصة نفسها، وتترك شخصياتها تتكلم بمساحات طويلة في العمل، مقدمة الحوارات التي تعيد فيها خلخلة المُشاهِد، مصرة على خلق تلك الزعزعة والخلخلة الخلاقة التي تتمثل في طرح أسئلة تهزّ المطلق الذي كنا قد بنيناه فينا، وتقيم ثورات عليه، وذلك من خلال الإضاءة على مدى عمق القهر الذي يعيشه معتقل الرأي، وعمق العذاب الذي يتعرض له، العذاب الجسدي والنفسي ضمن طرح تفاصيل جريئة ونادرًا ما تناولها أحد قبلها، فمثلًا الإشارة إلى العذاب الذي تعانيه المعتقلة حين يأتي وقت دورتها الشهرية، وكيف تعتبره تقويمًا لأيامها، وكيف يغيب الزمن في السجن، ويتحول إلى مفهوم هلامي قاتل.
وفي العمل نفسه، تقدم يم، أيضًا، تفاصيل الحياة السورية خارج السجن، وتعدد المشاكل فيها، لكنها، وبكل شفافية وصدق وحيادية وتفوق على نفسها، تناقش من خلال شخصية المعتقلة الثانية، التي تلتقي بها ورد داخل المعتقل، وتمضي معها طيلة فترة الاعتقال، وحيدتين في زنزانتهما المرعبة، حيث يتناوب السجانون على حفلات تعذيبهما واغتصابهما. هذه الشخصية التي مثلت المعتقلة الثانية التي تعيش معها ورد في الزنزانة جسدت شخصية المرأة المتعلمة والإنسانية، ولكنها، أيضًا، المرأة المتدينة جدًا، التي كان أكثر أسباب ثورتها منحصرًا فقط بالخط الديني. وهنا ينمو هذا الصراع بين فارق مفهوم الحرية التي اعتقلت من أجلها الاثنتان معًا، فورد المثقفة المنفتحة غير المحجبة، والكاتبة القوية، التي كان لها علاقة مع الطبيب النفسي، عابد فهد، ومع صديقتها صاحبة البار في دمشق، تمثل شريحة واسعة وهامة من المتظاهرين السوريين، أما الشابة الثانية فهي صيدلانية محجبة، ومتدينة جدًا، وقد شاركت في الثورة من أجل قيام دولة تطبق تعاليم الإسلام، وهي شخصية طيبة مساعدة غير أنانية وغير منغلقة، وهذا، أيضًا، يمثل شريحة واسعة جدًا من الشارع السوري الثائر، وخاصة في ريف دمشق، وفي المدن الشمالية. ومن المؤلم والحقيقي أن تنهي يم العمل بموت الصيدلانية الطيبة، التي حاولت دائمًا أن تساعد ورد على حساب نفسها، وأن تدفئها، وتعطيها البطانية الوحيدة، كما حاولت حمايتها من المرض والالتهاب، لكنها في النهاية تموت في السجن بسبب شدة التعذيب، وتكرار الاغتصاب الوحشي الذي قامت به مجموعة سجانين معًا.

في المعتقل: لقطة من مسلسل "قلم حمرة" 


إن موت الصيدلانية المتدينة الطيبة، المختلفة تمامًا عن تفكير ورد وعن شخصيتها، لكنها المليئة بالإنسانية، يقتل روح ورد، والأهم من ذلك أنه يعرّي موت شريحة كاملة في المجتمع السوري، ويمثل تحوّل هذه الشريحة إلى حالة التزمت والتطرف الديني، وإلى قرار حمل السلاح بسبب القهر الإنساني الذي لا يحتمل، ويعري أن هذا ما كان يريده النظام تمامًا، عندما بالغ في تعذيب وقتل وسجن وضرب وإعدام هذه الشريحة بالذات، فهو النظام الذي اقتلع قلب الناشط السلمي الجميل، غياث مطر، وقدمه لأهله جثة بلا قلب بعد أقل من أسبوع من اعتقاله، محولًا الحراك السلمي الرائع الذي استمر في داريا لأشهر طويلة، إلى ثورة مسلحة، ومبررًا لنفسه قصف داريا، وقتل كل ناسها تحت أنقاض بيوتهم وأحلامهم.


جاء "قلم حمرة"، ليم مشهدي، وللمخرج الراحل، حاتم علي، ابنًا حقيقيًا لأعمال يم السابقة، مثل "تخت شرقي"، و"وشاء الهوى"، و"يوم ممطر آخر". فيم مشهدي، المولودة في دمشق في أواسط السبعينيات، هي تلك الصبية التي حملت منذ طفولتها روحًا متمردة وصادقة، وكانت تتمنى أن تصبح صحافية كي تغطي أماكن الحروب لأجل أن تعرف حقيقة طعم الحياة هناك، أو أن تصبح باحثة ومنقّبة عن الآثار، كي تفتش في الحجر عن الحياة، كما تقول، لكنها مع كل أمنياتها هذه، أرادت أن تفعل شيئًا مختلفًا، لذا فقد درست أخيرًا في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، النقد والأدب المسرحي، وتخرجت فيه، لتبدأ، وبسرعة قياسية، فرض اسمها في ساحة الدراما السورية والعربية، ولتثبت منذ أعمالها الأولى أنها صاحبة قدرة خاصة بكتابة السيناريو للأعمال التلفزيونية، وصاحبة تجربة حاولت فيها تقديم أعمال تحاكي بكل عمق وجرأة ورشاقة حقيقية ما كنا نعيشه، وذلك من خلال إحياء السؤال الدائم فينا من جديد، ومن خلال طرحها الشفاف والقاسي في الوقت نفسه لتفاصيل من خرابنا الفكري والروحي والاقتصادي والسياسي والإنساني التي كنا دائمًا نهرب من مواجهتها.



الكشف والحلم
عمرتنا يم بخرابنا، من خلال تقنية الكشف والحلم، فنحن لم نكن نتوقع يومًا أن نجد ذواتنا معروضة أمامنا بكل تناقضاتها وعمقها، بكل عريها، وبكل هفواتها، ومنابع ضعفها وقوتها، بتفاصيل بساطتها وتعقيدها، بجمالها، وفي الوقت نفسه ببشاعتها التي كنا نخجل أن نبوح بها حتى لأنفسنا، وذلك كله بطريقة شيقة ونابضة، ولم نتخيل أن نجد حزننا فيها حزنًا عاديًا، حزنًا حقيقيًا، صادقًا بكل تفاصيله، من دون أية رتوش وأصبغة.


لقد استطعنا مع أعمال يم الأولى العثور على هذا كلّه في مسلسلات سورية جيدة، من دون أن يتعكز النص فيها على التاريخ، أو على القصص المكررة الفارغة، ومن دون أن يستجر السيناريو العواطف في قوالب جاهزة من الحبكات التي تغير فقط نوع الألبسة والممثلين بين مسلسل وآخر، حيث قدمت يم أعمالًا مليئة بأشخاص عاديين من دون التمترس وراء انقسام الأدوار إلى شخصيات هي الخير المطلق، والصح المطلق، والتي غالبًا ما تكون مظلومة، ومن دون أيّة ذنوب، من جهة، ومن جهة أخرى، شخصيات هي الشر المطلق، بغياب شبه كامل لقوس قزح الذي يسكن شخصية كل واحد فينا، إذ كانت معظم المسلسلات السورية تتسابق في فنية الهروب من مواجهة حقيقة إشكاليات الشخصيات، التي توصل إلى حقيقة إشكاليات المجتمع ذاته. لقد تخرجت يم مشهدي من عمق مأساة هذا المجتمع المادية، ومن تخبطه الكارثي في إيجاد لقمة عيشه، ولم تتهرب من الإضاءة على ذعر الشاب السوري من غده، ومن السلطة الأمنية في بلده، ومن نفسه، وأهله، وأستاذه، مراهنة على تعدد الشخصيات والمحاور، وعلى إظهار كل الوجوه لكل شخصية، وعلى الرشاقة والخفة في طريقة تقديم الشخصيات، وتحولاتها مع أحداث هي غالبًا منفصلة ومتصلة في الوقت نفسه. وقد اعتادت يم مشهدي أن تخلق في نفوس مشاهديها زلزالًا هادئًا يعيد ترتيب غرف الروح المهملة، فهي تناقش الرجل في أكثر كهوف تفكيره، وتستدرج المرأة إلى خطورة ضعفها، وإلى منابع قوتها الحقيقية، وتقيم فينا ثورة على واقع جماعي يتمثل بالانهزام السياسي والعسكري والمادي، وعدم الأمان، وتعرّي هروبنا جميعًا من مواجهته، باصطناع قوة هشة تجعلنا نريد أن نرى أنفسنا أبطالًا، حتى ولو على من هم حولنا، أو على أقرب الناس وأغلاهم علينا. وركزت يم في "قلم حمرة" بالذات على كيفية قدوم ثورات الربيع العربي، كقدوم حلم عتيق لم يصدق فيه الإنسان العربي المقهور لعقود أنه قادر على ما كان مستحيلًا، وهذا ما جعل كل منا يشعر بالزّهوّ على الرغم من كل الرعب، وجعلنا ولأول مرة نرى أنفسنا قادرين، وغير مستلبين، ومتحوّلين من حالة عدم الفعل إلى حالة الفعل، فمجرد نزول هذه الشعوب إلى الساحات، بعد أن عاشت قرونا تحت سلطة الرعب الفكري، كان ضربًا من المستحيل، لذا فقد كانت يم مشهدي حارسة الحقيقة والصدق، وقارعة الأجراس مبكرًا، و"قلم حمرة"، الذي رغم المحاصرة الإعلامية له، حصد عددًا كبيرًا من نسب المشاهدة، وفرض نفسه بسبب قدرته على محاكاة ما يشغل كل عربيّ، بشكل عام، وكل سوري، بشكل خاص، هو شارة قصتنا الطويلة التي امتدت لعشر سنوات، وهو ما بقي لنا كي يذكرنا بأنفسنا، وبأحلامنا، وكي يحيك لأقدامنا التي هربت من الموت والخراب، آثارًا لا تموت ولا تجف.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.