}

ذكرى أنطون غطاس كرم.. نقده يقارع الشعر ويحاكي الإبداع

سليمان بختي سليمان بختي 8 أبريل 2021
أنطون غطاس كرم (1919 ـ 1979) أديب وناقد أكاديمي شكل حالة مميزة في المجالات الثلاثة، وطبعها بجذوة روحه المتّقدة، وإبداعه الأصيل، وأناقته التامة.
ولد الدكتور أنطون غطاس كرم في جزين، في 12 نيسان/ أبريل 1919، وتلقى تعليمه في دير مشموشة، ثم أكمل دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، ونال شهادة الماجستير سنة 1947، ومنها إلى جامعة السوربون في فرنسا، حيث حاز شهادة دكتوراة دولة في الأدب بدرجة مشرفة جدًا سنة 1959، وموضوع أطروحته "جبران خليل جبران". درس الأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، وفي الجامعة اللبنانية، وكلية بيروت الجامعية (اللبنانية الأميركية) ردحًا. كما شغل منصب عميد كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، وكان عميدها الأول (1960 ـ 1963)، لكنه لم يطل المكوث فيها، فقد بدأ كالطائر الغريب. عاد إلى الجامعة الأميركية رئيسًا لدائرة اللغة العربية وآدابها (1971 ـ 1974)، وكان أستاذًا زائرًا في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية (1967 ـ 1968)، وأستاذًا زائرًا في جامعة بيركلي في كاليفورنيا (1974 ـ 1975).
كنت أراه في شوارع رأس بيروت يغذّ السير بهدوء من الجامعة الأميركية إلى BUC، وبين الجامعتين منزله. ودائمًا في تمام أناقته يضع البرنيطة الإنكليزية، وقفازيه، ومظلته، والحقيبة. وإذا تبين ملامحك ابتسم بثناء وطيبة. لعلها الأناقة عينها في أسلوبه وعباراته وأدبه وسلوكه وتهذيبه.

كان أنطون غطاس كرم يتريّث ويتروّى حتى يسلس له المعنى قيادة إلى سحر البيان. وكان الالتزام الجمالي لديه نابعًا من داخل غنيّ بالجمال.
يروي زميله، الدكتور ميشال جحا، أنه كان يحلو له أن يردد هذه الأبيات لإيليا أبي ماضي:
"كلما استولدت نفسي أملًا… مدّت الدنيا له كفّ اغتصاب
أفلتت مني حلاوات الرؤى… عندما أفلت من كفي شبابي
بتّ لا الإلهام باب مشرع… لي، ولا الأحلام تمشي في ركابي
جعت والخبز وفير في وطني… والسنا حولي وروحي في ضباب"
كان أنطون غطاس كرم أكاديميًا ضليعًا، وأديبًا مثقفًا، وناقدًا متعمقًا. استوعب آداب عصره بالعربية والإنكليزية والفرنسية. أما حياته وديباجته فإشراق ولمع ورؤى.
من أول كتبه "أبعاد" (1944) "الرمزية والأدب العربي الحديث" (1949)، وهو بالأساس موضوع رسالته في الماجستير. "إعلام الفلسفة العربية" مع كمال اليازجي (1957). "محاضرات في جبران خليل جبران، سيرته وتكوينه الثقافي ـ مؤلفاته العربية" (القاهرة 1964). "صراع القدماء والمحدثين في القرن الثالث للهجرة" (1958). "التراث العربي في العلم والفلسفة" (1974). ولكن كتابه "عبدالله" (1969-1979) هو الذي ترك صدى واسعًا، إذ كان مرآة لذاته، ومزج فيه الأدب وصفاء الفكر بالتصوف بالذاكرة، وجمالية الشكل وعمق المضمون. هو فعل الكشف المتوهج بين العلاقات والرؤى، وهو البيان المنقى والشفاف. وكتب عنه نديم نعيمة في كتابه "الفن والحياة": "كم هو عظيم وناقد. بين كل الأصوات صوت عبدالله، إذ يقرأ علينا من سفر فجيعة العالم وعبثية وجوده".
ويعد كتابه امتدادًا للأرقش، والنبي، وخالد ومرداد. الأدب والفكر والنقد أدواته. وهو إذا كان مقلًا في التأليف الإبداعي، فقد كان غزيرًا في الكتابة عن الأدب العربي الحديث. والنقد عنده يقارع الشعر، ويحاكي الإبداع.
عدَّ أنطون غطاس كرم الرموز وسيلة للتعبير عن زوايا غامضة، وأبرز الرمزيين العرب الذين توقف عندهم: بشر فارس، وتوفيق الحكيم، ويوسف عطوي، وسعيد عقل، وصلاح لبكي. كما عد تأثير جبران على الأدب العربي أشبه بتأثير غوته على الأدب الرومنطيقي في أوروبا.
كان يسعى إلى نحت الحروف والمعاني، فكلمة nuance، مثلًا، استنبط له كلمة ظلال المعاني، أو موشور المعنى. ويقول تلميذه الراحل، رمزي نجار: "أما ما كان ينحته فينا طلابًا، قراء، أو مستمعين، فهو صقل للشخصية، واحترام عميق للإبداع، وحافز ملحّ للمحاولة، للمقارنة، ولتوليد الفكرة، أو لصياغة العبارة". وكتب عنه تلميذه، الشاعر قيصر عفيف "كان سيدًا أنيق الكلمة، أنيق الملبس، حلو المجلس، غني الثقافة، ما درس عليه أحد إلا وازداد علمًا وثقافة". كان أنطون غطاس كرم صاحب رؤية ثاقبة، فقد كتب في رسالة لابنه في 12 آذار/ مارس 1979 يقول: "العالم العربي مقبل على أحداث جسيمة، ربما قلبت أوضاعًا، وبدّلت حدودًا، وقوضت نظمًا".

أسهم الدكتور أنطون غطاس كرم إسهامًا مميزًا في نقد الأدب، فكتب في "كتاب العيد" (1967) دراسة بعنوان "مدخل إلى دراسة الشعر العربي الحديث" شدّد فيها على دور الثقافة، وعلى أن التبويب التاريخي للشعر الحديث قد لا تُسعف على فهم التطور العام الذي أصاب الشعر في قرن ونصف القرن. ومع قدرته المتمكنة من النقد، فلم يقدر النقد على الإبداع أبدًا. وكان يسجل اعجابه بجبران، الذي عدَّ أنه يخلق اللغة بمقدار ما يستطيع خلق الحياة. وكذلك تقديره الكبير لميخائيل نعيمة، الذي قال فيه في المهرجان الدولي لتكريمه في 1978 "علمتنا شرف القلم، وبهاء الكتابة، أنها فعل حرية، وموقف. وعلمتنا أن المحبة وحدها هي الطريق إلى قلب الحياة".
اهتم لفترة بالترجمة، ونقل إلى العربية "بايرون" لأنديه موروا (1948)، و"النبي" لجبران من الإنكليزية إلى الفرنسية (1955)، و"في السلطة" لبرتران دي جوفينال (1956)، وكتاب ألكسيس دي توكفيل "الديمقراطية في أميركا" (1960)، وكتاب "فلسطين" لميشال شيحا (1960).
حاز في عام 1974 جائزة الدولة اللبنانية لمؤلفاته الأدبية والنقدية.
توفي في بيروت في 12 حزيران/ يونيو 1979، إثر ازمة قلبية لم تمهله. وحاز وسام الأرز من رتبة ضابط.
أمضى الدكتور أنطون غطاس كرم حياته في التعليم والتأليف والترجمة وفي دفء الصداقات. وهو أحد الذين رفعوا سقف النقد الأدبي الحديث في لبنان والعالم العربي، مرسيًا ثوابت إبداعية نقدية للأدب المقارن. صنفت اليونسكو كتابه "عبدالله" من التراث العالمي. وصدرت أعماله الكاملة (النهار للنشر 1979)، وسمي شارع باسمه في الأشرفية ـ بيروت.
نرفع له التحية أديبًا وناقدًا وأكاديميًا لبنانيًا وعربيًا من عيار الذهب الخالص.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.