}

ذكرى سعيد حورانية.. الكاتب الاجتماعي

راسم المدهون 17 مايو 2021
استعادات ذكرى سعيد حورانية.. الكاتب الاجتماعي
سعيد حورانية (1929 ـ 1994)
لم تعرف القصة السورية كاتبا حقق تأثيرًا في الأجيال التي جاءت بعده كما فعل، ولا يزال، سعيد حورانية، الذي رحل عن عالمنا منذ عقدين تقريبًا، وهو الذي كان قبل رحيله بوقت طويل قد توقف عن كتابة القصة في حالة نادرة لم تشهدها الثقافة العربية.
سعيد حورانية ينتمي عمرًا وتاريخًا إلى مرحلة الاحتلال الفرنسي لسورية، وهو بذلك عاش شبابه كله في زمن عاصف عنوانه الأبرز الكفاح من أجل الاستقلال والجلاء، ما جعل السياسة والفكر السياسي حاضرين في عقله وتفكيره وفي التزامه على المستويين الواقعي والأدبي، وظلا حاضرين كذلك طيلة حياته.
هو ابن دمشق، وبالتحديد ابن حي "الميدان" العريق، حيث "البيئة الشامية"، بتكويناتها الاجتماعية المعروفة، وأبرزها ميل الغالبية إلى ممارسة التجارة، والانحياز إلى العلاقات الاجتماعية المحافظة. كان ذلك واضحًا في مطلع شبابه، حين اندفع في ميوله نحو الالتزام بالتيارات الدينية أولًا، قبل أن يصطدم بتناقضاتها العميقة، ويذهب بكليته نحو فكر اشتراكي لازمه وظل معه، بل وكان له التأثير الأكبر والأعمق على إبداعه القصصي، وما حمله من مضامين اجتماعية تمزج عذابات الفئات الفقيرة بالواقع السياسي لبلاده سورية سنوات الخمسينيات، أو ما يعرف عادة بمرحلة الانقلابات العسكرية.



يمكن رؤية سعيد حورانية، أيضًا، من خلال رؤية أصدقائه الأقرب في تلك المرحلة، وطبيعة انتماءاتهم وميولهم السياسية، وكان أبرزهم الروائي السوري الأشهر، حنا مينة، والشاعر شوقي بغدادي، أولهما جاء من "لواء إسكندرونة" المحتل، والثاني لاذقي عاش حياته كلها في دمشق، وهي مرحلة تأسست فيها قراءاته الأدبية المتنوعة، التي راكمت لديه ثقافة واسعة في مختلف موضوعات الحياة.
لا أدب كان له تأثيره الأبرز على إبداع سعيد حورانية كما هو أدب الواقعية في القصص الروسية، وبالذات أنطون تشيخوف، في عمق رسمه لشخصياته القصصية، وبالذات في قدرته على "التقاط" تلك الشخصيات التي تحمل ملامح بالغة الخصوصية، ومواصفات نادرة يمكن لها أن تكون ذات جاذبية في الأدب القصصي وحكاياته. حورانية، بهذا المعنى، هو كاتب اجتماعي يرصد "فرادات" البشر في محنة العيش، فيمزج مصائرهم الفردية بالعوالم الاجتماعية ذات الخصوصيات الأشد قسوة، وهي عوالم لا تقف عند ناس العاصمة وأهلها، بل تذهب إلى التقاط أولئك الأبطال القصصيين من بيئات مختلفة، في منطقة الجزيرة السورية مرَة، وفي السويداء وجبل العرب مرَات أخرى، إذ أن المشترك دومًا هو في فداحة البؤس الذي يعيشونه، وتناقضه مع صورة الحياة المشرقة التي تسكن حلم الكاتب وقناعاته الفكرية والسياسية.
لافت في بدايات حورانية فوزه بالمرتبة الأولى لمسابقة للقصة القصيرة نظمتها "مجلة النقاد"، التي فوجىء القائمون عليها بسنه الصغير يومها، ما دفعهم إلى حجب الجائزة عنه، لرفضهم التصديق أن من في تلك السن يستطيع كتابة قصة ناضجة فنيًا بذلك المستوى الذي كانته قصته "الصندوق النحاسي"، التي حققت يومها نجاحًا كبيرًا، بل كانت بعد ذلك إحدى أبرز قصصه وأجملها.



مجموعته الأولى: "وفي الناس المسرَة" أحدثت زمن صدورها (1954) جدلًا نقديًا كبيرًا لفت الأنظار نحو كاتب متميز ومبشر قادم ويعد بالكثير. ويلاحظ من يعود إلى قصص تلك المجموعة اليوم اعتناءه بمصائر ومآلات شخصياته، من خلال رصد جزئيات أفعالها، وعلاقاتها بمحيطها الاجتماعي على نحو يضيء نظرته ورؤاه الفنية وبحثه عن نماذج اجتماعية تمتلك القدرة على التأثير رغم انتمائها، غالبًا، للقاع الاجتماعي، وهو ما سيتحقق في صور أسطع وأكثر تألقًا في مجموعته القصصية اللاحقة، والأهم في رأيي: "شتاء قاس آخر".
في "شتاء قاس آخر"، تحقق الكتابة أعلى درجات نضجها، فلا نستطيع أن ننسى بعد ذلك قصصًا مثل "وأنقذنا هيبة الحكومة"، أو "سريري الذي يئن"، و"الصندوق النحاسي"، و"الريح الشمالية"، و"شتاء قاس آخر" إذ هي قصص تبرع في انتقاء الألم الإنساني في ذروته، حيث البشر يقاومون أسباب اليأس، ويحلمون بعالم أجمل. في قصص تلك المجموعة، نقف على تنوع الأساليب والمناخات الاجتماعية، وحتى المكانية، ونقرأ قصصًا واقعية لا تبتعد عن مسحة حزن رومانسية، كما في "الريح الشمالية"، أو رمزية لا تخفى، كما "شتاء قاس آخر". ومن دون شك، واقعية آسرة كما في "الصندوق النحاسي"، التي تستعيد الأم في صورة لا تكتفي بملامحها، وبعض دورها، بل تنجح في إضاءة التخريب الذي يطال مصير الأم بسبب من الفوارق الاجتماعية.
سعيد حورانية عاش الحادثة الأبرز، بل الأشد عصفًا في حياته الأدبية، حين فقد مخطوطة روايته الوحيدة التي ضاعت على يد الشرطة اللبنانية التي داهمت بيته واعتقلته، واعتقلت روايته التي اختفت إلى الأبد. هل كانت تلك الحادثة صدمته التي أصابته بصاعقة التوقف عن الكتابة؟



في مسيرة القصة السورية، يمكن ملاحظة تأثر الغالبية بسعيد حورانية وأسلوبه وموضوعاته، إلى الحد الذي يجعله حاضرًا إلى اليوم، خصوصًا أن التيار الغالب في القصة السورية ينحاز الى أدبه، وهو في الأحوال كلها القطب الآخر الذي يجاور زكريا تامر في القصة العربية، مع ما بين الكاتبين من تمايز وخصوصيات. وهنا بالذات تبرز شخصيته من خلال علاقاته الاجتماعية المتميزة والواسعة، فرغم توقفه عن كتابة القصة القصيرة، واظب الكاتب الراحل على النشاط في الحياة الثقافية في دمشق، وظل حاضرًا بحيوية في أوساط المثقفين ونشاطهم الأدبية، وأيضًا في لقاءاتهم وسهراتهم.
لا أحد يستطيع الإجابة بنعم أو لا، ومع ذلك فالثابت لدينا، وعند أغلب من قرأوا هذا المبدع المتميز، أنه سيظل أحد أبرز الأسماء في القصة السورية والعربية، بما تركه لنا من قصص تتجدد في الحياة، وتتجدد الحياة بها على نحو بهي ونادر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.