}

فاغنر في ذكرى ولادته.. الفنّ والمستقبل والعدالة

سمير رمان سمير رمان 5 يونيو 2021
استعادات فاغنر في ذكرى ولادته.. الفنّ والمستقبل والعدالة
تمثال نصفي من البرونز لريتشارد فاغنر في بايرويت/ألمانيا (11/4/2010/Getty)
تمثال نصفي لريتشارد فاغنر في حديقة تيرغارتن  في برلين/ ألمانيا (17/ 5/ 2013/Getty)


قبل أيام، مرّت الذكرى الثامنة بعد المئتين على ولادة الموسيقار والفيلسوف الألماني، ريتشارد ويليام فاغنر/Wilhelm Richard Wagner(*)، الذي يعد واحدًا من عظماء الموسيقى في ألمانيا، والعالم. برع فاغنر في الأوبرا بشكلٍ خاصّ، وترك بصماته جلية في نقل الأوبرا إلى مستويات أعلى. كان فاغنر من أوائل من أطلق تقاليد الطوباوية الجمالية، أي المدينة الفاضلة، التي يتولّى فيها الفنّ مهمّة صياغة مُثُل المجتمع الجديد العليا، ويكون فيها وسيلةً لبنائه. في هذا المجال، لا يمكن تجاوز فاغنر إطلاقًا، ليس لتفرّده بين معاصريه في هذه الأفكار (أفكارٌ قريبة اعتنقها كلٌّ من الناقد الإنكليزي الشهير، جون روسكين/ John Ruskin، الأكثر روعةً في العصر الفيكتوري، والشاعر والناشط الاشتراكي والنسّاج الرائع، ويليام موريس/William Morris)، بل لأنّ الأوبرا في القرن التاسع عشر كانت تحظى بمكانةٍ مميزة، وكانت تلعب دورًا هامًّا، لأنّها كانت فنًّا جماهيريًّا بالفعل.
يرى الفيلسوف ألكسي لوسيف/ Aleksei Losev (1893 ـ 1988) أنّ فاغنر: "كان مفكرًا ثوريًّا أدرك محدودية الثورة البرجوازية. وموسيقيًّا عبقريًا مثاليًّا صاغ تعبيرًا مثاليًّا لما نسميه "العبقرية". كانت العبقرية، وفق معايير القرن التاسع عشر، تنطبق تمامًا على فاغنر بالذات. كان العام 1850 عامًا بالغ الأهمية بالنسبة لحياة ومسيرة فاغنر، حيث ألّف فيه كتاب "الأعمال الفنية في المستقبل". وفي عام 1849، كان فاغنر يقود فرقةً موسيقية، وكان ناشطًا في صفوف القومية الاشتراكية الألمانية، ودعم (كومونة دريسدن)، التي اندلعت ضدّ استبداد الحاكم فريدريك. بعد الهزيمة، انتقل فاغنر إلى المنفى في سويسرا، حيث بقي فيها 12 عامًا.
يعتقد فاغنر أنّ الفنّ لا يخلق الجمال، بل يخلق مجتمعًا جميلًا، وأنّه يتوجّب على الإنتاج الفني في المستقبل إنقاذ العالم من المظالم التي يعجّ فيها النظام الاجتماعي. وينطلق من أنّ السبب في وجود أناسٍ محتاجين يكمن في البذخ والثراء الفاحش الذي يغرق فيه بعضهم، وبالتالي يستحوذ بعض من في المجتمع على ما هو ضروريّ للمجتمع حقًّا.

 بيتر سيفرت (وسط) وبيترا ماريا شنيتسر (يمين) يتدربان على أوبرا ريتشارد فاغنر "ركوب المشاة/ Ride of the Walkyries" في مسرح شاتيليه في باريس (14/ 10/ 2005/فرانس برس)                


في معرض تصوره لدور الفنّ في بناء المجتمع الجديد، يتساءل فاغنر: "من سيصبح فنان المستقبل؟ المؤلّف الموسيقيٌّ، أم العازف، أم النحات؟". يجيب: "إنّه الشعب"، فماذا يقصد بالشعب؟ يعرّف فاغنر الشعب بأنّه "مجموع أشخاص تربطهم حاجات مشتركة، وإليه ينتمي جميع من يعدون أنّ احتياجاتهم هي ضرورة عامّة، أو جزءًا أساسيًا من الضرورة العامّة، ويكرّس كلّ قواه للحصول على حاجته التي يعتبرها عامّة. ويعتقد فاغنر أنّ الحاجة الملحّة وحدها هي الحاجة الحقيقية، ومن هذه الحاجة وحدها تتفرّع جميع الاحتياجات الحقيقية الأخرى، والأقلّ إلحاحًا. ويرى أنّ الحاجات المادية في مجتمع النظام العالمي الحقيقي ستكون بلا معنى.



ومن هنا، فإنّ المسألة ليست في تحقيق العدالة المادية، بل في الوصول إلى نظامٍ عالميٍّ حقيقي. وهنا يأتي دور الفنّ الذي يرى فاغنر أنّ في استطاعة الفنّان الحقّ خلق الإرادات، وفي مقدوره الاندماج مع بنية النظام العالمي الحقيقية، والمساهمة في بناء المجتمع الجديد. ولكن يبقى أن نعرف الكيفية التي تمكّن الفنان من القيام بدوره! لكن ليس من دون صعوبات تواجهه. بالطبع، قد يحالف الحظ الفنان، كما يمكن أن يخفق بشكلٍ محزن. ولتجنب ذلك، لا بد من الرجوع إلى ما يسعى إليه الشعب. فالإرادة الفردية قد تكون مشوّهةً، ولكنّ إرادة الناس ليست كذلك، لأنّها حسٌ ونوعٌ بيولوجيّ للوجود، فلا يمكنها أن تكون خاطئة. بالتأكيد، سيكون هنالك من يخالف إرادة الشعب، ولا يستطيع الاندماج معه. وهؤلاء، وفقًا لتصنيف فاغنر، "أعداء الشعب"، إنهم أولئك الذين لا يشعرون بالحاجة، والذين تنحصر دوافعهم الحياتية في احتياجاتٍ لا ترقى إلى درجة الحاجة، فهي احتياجات وهمية، كاذبة، وأنانية، ليس فقط لا علاقة لها بالحاجات العامّة، بل وتتعارض معها، لأنّها تتعلق بالحفاظ على الفائض، وهكذا بالضبط تكون الاحتياجات التي لا تبلغ قوة الحاجة. يعرّف فاغنر الأعداء بصورةٍ أكثر تحديدًا. ففي "إنتاج فنّ المستقبل"، يقول عن الأعداء: "إنّهم الأرستقراطيون والمثقفون. وفي كتابه الذي صدر بعد عامٍ واحد "اليهودية في الموسيقى"، أضاف اليهود إلى خانة الأعداء، بما يذكِّر بمفاهيم ظهرت لاحقًا، من قبيل: أعداء الأمة...أعداء الشعب..أعداء الثورة.
تركت إصلاحات فاغنر في الأوبرا تأثيرًا كبيرًا على الموسيقى العالمية، لترسم مرحلةً جديدة أعلى في الموسيقى الرومانسية، وأرست أسس التيارات الإصلاحية المستقبلية. وكغيره من الموسيقيين، بدأ فاغنر مسيرته المهنية بتأليف الموسيقى الرومانسية، ومن ثمّ ارتقى إلى مرحلةٍ جديدة ليحدث ثورةً في الموسيقى عبر مفهومه عن "العمل الفنيّ الشامل/ Gesamtkunstwerk"، الذي جمع فيه إلى الفنّ الشاعري، العناصر البصرية، والموسيقية، والدراميّة.



وفي سلسلةٍ من المقالات التي نشرها في الفترة (1849 ـ 1852)، وصّف رؤيته الثورية في عالم الموسيقى، وكرّس هذه الأفكار عمليًا في سلسلة أعمالٍ أوبرالية أسماها "دائرة النيبولينغن/ Ring of the Nibelungen"، لعبت فيها الأسطورة والتأمّل وسائلَ خلقٍ لـ"حاجات الناس" الجماعية، وكانت تعبيرًا حقيقيًا عن العالم (كما رآها)، على عكس الفكرة الخاطئة التي تقول بأنّ الأسطورة شيءٌ غير موجود. تدور فكرة "طوق النيبيلونغ" حول تسبّب الرغبة باقتناء الذهب بهلاك البشر والآلهة. لذا يرى فاغنر أنّ البشر في حاجةٌ حقيقية للتخلص من المال. كما يرى فاغنر أنّ الأسطورة توحِّد الأبعاد الجمالية والاجتماعية، وتعبٍّر عن رفض شعور الاغتراب الذي يسبِّبه المال. الأسطورة رفضٌ وإنكارٌ للقيم الرأسمالية برمتِّها، وهذه هي بالضبط قضية الثورات القياسية.

لودفيغ شنور فون كارولسفيلد، وزوجته مالوينا غاريغيز في أوبرا "تريستان وإيزوالد" في عرضها الأول في ميونيخ (10/ 6/ 1865/Getty)


في البداية، ارتكز فاغنر على تجربته في الأوبرا، وعلى الجمع بين الموسيقى والشعر والرقص والدراما في بنيةٍ فنيّة واحدة. لاحقًا، سيضيف فاغنر إلى هذا المزيج الفنّ المعماري، والنحت، والرسم. وانصبَّ اهتمامه على بناء وتشكيل المسرح، لكن اهتماماته لم تقف عند هذا الحدّ. ففي دريسدن، تعرّف فاغنر إلى مؤسس أوبرا دريسدن، المهندس المعماري، غوتفريد زيمبر/ Gottfried Semper (الذي كان أيضًا من مناهضي الدكتاتور فرديريك أوغست)، وهو من ابتكر لتوّه فكرة أسلوبٍ فنّيٍّ يوحِّد فنّ العمارة الرسمية، والنحت، والحرف اليدوية. عرض فاغنر أفكاره، بعد أن أضاف إليها أيديولوجيته الخاصّة. لقد كان جمع فنانين مختلفين في إنتاجٍ فنيٍّ شامل بمثابة التغلّب على فكرة تقسيم العمل. إن صهر الفنانين في عملٍ فنيٍّ كامل هو بمثابة البديل عن اتحاد الفنانين مع الشعب الذي روّج له فاغنر.



يرى كثيرون، ومنهم الفيلسوف الروسي، ألكسي لوسيف Aleksei Losev، أنّ فاغنر: "كان مفكّرًا ثوريًا أدرك محدودية الثورة البرجوازية، وموسيقيًّا عبقريًا مثاليًّا، أو بالأحرى كان تعبيرًا مثاليًّا عمَّا نسميه" العبقرية".
أمّا فريدريك نيتشه، فكان له رأيٌ آخر، عندما كتب في كتابه "حالة فاغنر": "لا طعم ولا صوت ولا موهبة. على المسرح شيءٌ واحد: الألمان.... ما الذي لن أسامح فاغنر عليه؟ لقد بدأ الاستجابة لمتطلبات الألمان، وأنّه أصبح ألمانيًا تابعًا للسلطة...". ربما كان نيتشه محقًا نوعًا ما، خاصّة بعد أن أُلبست أسطورة فاغنر القومية ثياب النازيّة. غير أنه من المهمّ أن نفهم أنه من وجهة نظرٍ طوباوية، فإنّ هذا عبارة عن بناءٍ جديد للمجتمع، حيث لا ضرورة للاقتراع والتصويت، ولا ضرورة للديمقراطية، ولا لمصادفات الصراعات الحزبية، ولا للاقتصاد الرأسمالي. في هذا المجتمع الجديد، يندمج كلّ فردٍ في المجتمع عبر وحدة الإرادة الجماعية، التي يتحّد من خلالها بالحقيقة، لأنّ الإرادة هي الحقيقة التي تعبّر عنها شخصيّة القائد ـ الفنّان.



من جانبٍ آخر، يرى ورثة فاغنر السياسيون، الذي يرفعون شعار "فلتسقط الديكتاتورية!"، أنّ أفكاره قد تحوّلت إلى شيءٍ آخر. وبالفعل، فإنّ فاغنر، بابتعاده عن المشاكل الكلاسيكية في الثورات الأوروبية، وعن شعارات الحرية والمساواة والتآخي، يكون قد انتقل في محاولاته البحث عن الحلول "العلمية" لها، أي من إيجاد حلولٍ قانونية، واقتصادية، واجتماعية، إلى مجرّد التعبير "الفنيّ" عن حاجات الناس، والبحث عن إجابةٍ لها في أساطير جديدة تعبِّر عن إرادة الشعب... أي أنّ أفكار فاغنر التي تحاول معالجة مشكلة الثورة تقول بأنّ ذلك يتمّ عبر إقامة نظامٍ أيديولوجيّ، وليس من خلال نظامٍ ديمقراطي.
وأخيرًا، هنالك قراءةٌ أُخرى لإرث فاغنر، قراءة مختلفة ربما، تأتي من رجال الفن والمعماريين والمهندسين، الذين قرأوا كتابه "الأعمال الفنّية في المستقبل". ولكنّ جميع هؤلاء يمكن أن يصبحوا، وفق منطق المدينة الفاضلة، خلاقين جدد في المجتمع الجديد المنشود، ليس باعتبارهم سادة الخلق والإبداع، ولكن كمبشرين بذلك. غير أنّ هذا يتطلب تضحياتٍ كبيرة منهم. عندما يصف فاغنر عمله الفنيّ المستقبلي، فإنّه يشبه من حيث المبدأ مسرحًا، ولكن مع فارقٍ واحد، فالمتفرّج فيه غير معروف. الكلّ يشارك في خلق عملٍ جماعيّ، ولا يمكن مبدئيًا أن يكون متفرجًا منعزلًا عن الإرادة الجماعية. ولأنّ المتفرّج الفرد غير موجودٍ، فإنّ الفنّان يبقى مجهولًا كذلك. ولكي يكون هنالك بطلٌ، يتوجّب تدمير شخصيّته، ويجب التخلي عن فكرة الخالق (المبدع).

هامش:
(*) Wilhelm Richard Wagner/ فيلهلم ريتشارد فاغنر: موسيقي ألماني (22 أيار/ مايو 1813 ـ شباط/ فبراير 1883) اشتهر بأعماله الأوبرالية. كان كاتبًا لامعًا، من أهم ما تركه في المجال الأدبي يومياته "حياتي". ومن أشهر أعماله الموسيقية: أوبرا فاوست Faust/ المأخوذة عن قصة غوته التي تحمل العنوان نفسه، وأوبرا الهولندي الطائر/ Der Fliegende Holländer (حكاية شعبية)، ودائرة النيبولينغن
(أوبرا Das Rheingold/ ذهب الراين، وأوبرا Die Walküre/ فالكيريا، وأوبرا Siegfried/ سيغفريد، وأوبرا Götterdämmerung/ هلاك الآلهة). ومن أعماله المتأخرّة أوبرا Tristan und Isolde/ تريستان وإيزولد، وأوبرا Parsifal/ بارسيفال.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.