}

صلاح عبد الصبور.. التعبير بسلاسة عن الحزن النبيل

راسم المدهون 10 يوليه 2021
استعادات صلاح عبد الصبور.. التعبير بسلاسة عن الحزن النبيل
صلاح عبد الصبور (1931 ـ 1981)

من يتجوَل اليوم في تجربة الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور، سيتوقف، وربما طويلًا، أمام ذلك الجنوح للدراما، كوتر ينتظم جوقته الموسيقية التي لا يخفى حضور الغنائية فيها: هو شاعر ينتخب لقصيدته ـ غالبًا ـ بطلًا خفيًا يقف بين سطورها لا خلفها، ونكاد نلحظ الشبه الكبير بينه وبين الشاعر ذاته مرات كثيرة، وبينه وبين البطل التراجيدي الذي يلوح حضوره من تخوم الدراما قصيدة ومسرحية، بل، ولم لا حياة تبدو لنا هي الأخرى مثقلة برصيدها الباهظ، ووصلت في نهاياتها إلى "موت عاصف" نظل نتذكره كلما تذكرنا صلاح عبد الصبور.
هو "الفارس القديم" الذي أثقله حزن الواقع مثلما أثقلته قبل ذلك أحزان التراث، العاصفة، والمفتوحة على الظلم وعذابات البسطاء، وجنوح الحياة العربية نحو انحدارها الذي لم يتوقف منذ سقوط بغداد الأول، وخروجها من تاريخ الحضارة العباسية: صلاح عبد الصبور، بذهابه نحو تكوينات درامية لقصيدته شاء لها في الوقت ذاته أن تتحرَر ما أمكنها من الحلي الزائدة، والزخرف المجاني حين اختار ما أطلق عليه النقاد بعد ذلك "لغة الحياة اليومية"، كأنه يحدثك شعرًا، أو كأن الشعر ذاته يستعير دور "الحكواتي" في هذا المقهى، أو تلك الساحة الشعبية، ويتلو علينا كل ذلك السطو الهائل من الشغف بالدراما وأطياف الحزن النبيل التي تنوب عن أحلام هنا وهناك، وتلعب على مسرح الحياة من دون أن تتوقف عن خوض معاركها الكبرى، وفي القلب منها معركة الوجود الحيوي، الفاعل والمغمس بأحلام البسطاء وأفراحهم.
بين شعراء الحداثة الشعرية العربية، يتفرَد عبد الصبور بموهبة التعبير بسلاسة عن الحزن النبيل، وإن شئنا الدقة أكثر الحزن العميق القادم من أقاصي الزمن، ومن ذاكرة تمتح من رصيد الشجن الباقي، كسيف مشرع في وجه الأحزان. هو من جايل شعراء الكلاسيكية العرب، والمصريين منهم، فاختار أن يذهب إلى عصفه الشجي باللغة البسيطة، المباشرة، والمغمسة بأريج الغنائية الحيَة التي تزهر فيها السطور بأرجوان ربيع شعري يحتفي بالحياة وحيويتها لا برطانات البلاغة وزخارف الإنشاد. لغة صلاح عبد الصبور "اليومية" تتحد مع رؤاه، ومع مخيلته اليقظة لتأسيس بلاغة أخرى قوامها "النص" الذي ينتسب لذاته، ولقارئ الشعر، أكثر من انتسابه لأية نظريات نقدية معدَة سلفًا.




تجاورت تجربة صلاح عبد الصبور الشعرية مع تجربة زميله وصديق حياته الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، فارتفعا معًا بنشيديهما الشعريين المختلفين. ولعلنا نلحظ بيسر قوة رصيد الثقافة الحديثة، والموروث الأدبي العربي، معًا، وبالقوة ذاتها، على بنائياتهما الشعرية، وإن تميز عبد الصبور بعد ذلك بـ"خطابه" الشعري الشفيف، والذي يقطر أسى فاعلًا يستدرج ميراث الخيبات العربية، وما فيه من معاناة وقسوة، إلى ساحات القصيدة التي تشتبك مع الواقع، وتناطح السواد والقسوة: منذ ديوانه "الناس في بلادي"، حقق الشاعر الراحل حضورًا آسرًا وملموسًا في الحياة الأدبية، وفي الحياة الثقافية والاجتماعية، عمومًا، وأصبح واحدًا من فرسان الحداثة الشعرية العربية، إلى جانب نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري، ومعهم خليل حاوي، وأحمد عبد المعطي حجازي. صلاح عبد الصبور تجوَل بقراءاته في موروث الصوفية، وتأثر بالحلاج، وريلكه، وبودلير، وإليوت، وكان لافتًا أن يقارن النقاد بين "جريمة قتل في الكاتدرائية" لإليوت، و"مأساة الحلاج"، ولامس في الوقت ذاته تجربة فيدريكو غارسيا لوركا، حين قام بصياغات شعرية لإحدى مسرحياته التي عرضت في ستينيات القرن الماضي في القاهرة.
مع كل ذلك التنوع، بين الشعر والمسرح، يظل قارىء الشعر يتذكر بحنين وشغف مجموعته الشعرية الفاتنة "أحلام الفارس القديم": قصائد هذه المجموعة، وبالذات القصيدة التي جعلها عنوانًا للمجموعة، كلها تبدو أقرب لرثاء شخصي للذات أولًا، وللواقع الرديء، بعد ذلك. وفي "أحلام الفارس القديم"، استرجاع للروح في أشد حالاتها حلكة واقترابًا من اليأس، لكننا بقليل من التأمل العميق نكتشف أنه الحزن الذي ينير كهوف الواقع، وتسطع من شقوقه مصابيح الرؤية، الواضحة والجديدة والمفعمة بالرجاء والأمل. تراجيدية الموقف الشعري في "أحلام الفارس القديم" تحاكي تراجيدية حياته، والتي شهد فصلها الختامي وفاته بتلك الصورة العاصفة والفاجعة خلال جدل حاد مع بعض المثقفين ذات سهرة في بيت صديقه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وهي حادثة تناولتها الصحافة بسرديات متباينة ومتعددة التفاصيل والغايات تحدثت عن اتهامات أطلقها بعضهم ضده، وطالت موقفه السياسي في عهد الرئيس المصري الراحل، أنور السادات.




صلاح عبد الصبور أحد أبرز علامات التنوير في الحياة الثقافية المصرية والعربية عمومًا، عاش في قلب الحياة الثقافية والسياسية في مصر منذ جاء الى العاصمة المصرية من محافظة الشرقية التي ولد فيها عام 1931، وشهدت في مركزها مدينة الزقازيق لقاءاته بأصدقاء يفاعته، الشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز، والملحن المبدع كمال الطويل، والمطرب عبد الحليم، إذ أنتجت تلك الرفقة قصيدة "لقاء" التي لحنها الطويل، وغناها عبد الحليم حافظ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.