}

ذكرى عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى).. زيتونة فلسطين وشاعرها

راسم المدهون 12 سبتمبر 2021
استعادات ذكرى عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى).. زيتونة فلسطين وشاعرها
عبد الكريم الكرمي ـ أبو سلمى (1909 ـ 1981)
بين كبار كلاسيكيي الشعر الفلسطيني، يقف الشاعر الراحل، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، في مكانة خاصة تجمعه بصديقي حياته، إبراهيم طوقان، شاعر الوطنية في مرحلة الانتداب البريطاني وبدايات التواطؤ على تحقيق المشروع الصهيوني، وعبدالرحيم محمود، الثائر الذي سقط شهيدًا وهو يحمل السلاح في معركة الشجرة عام النكبة الكبرى.

عبد الكريم الكرمي عاش حياة أطول زمنيًا من رفيقيه، وهو لهذا السبب بالذات أنتج شعرًا أغزر بكثير منهما، بل انفرد عن كليهما في حضور النكبة، وحضور عقود أخرى من حياة اللجوء خارج وطنه فلسطين.
الكرمي المولود عام 1909، في عنبتا قرب طولكرم، عاش صباه الأول في "العهد العثماني"، قبل أن يعيش وبلاده زمن الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، أي أنه كان دومًا في قلب الأحداث العاصفة، ما أخذه بكليته تقريبًا نحو القصيدة الوطنية الغاضبة والموشاة في كثير من الأحيان بشجن خاص عبَّر من خلاله عن عمق أساه وإحساسه بمأزق اللجوء والتشرد، وإصراره طيلة حياته على الكفاح في سبيل العودة وتحقيق الاستقلال.
درس أبو سلمى في طولكرم في فلسطين، قبل أن يحصل على الشهادة الثانوية من "مكتب عنبر" في العاصمة السورية دمشق، ويلتحق بعدها بمدرسة الحقوق في القدس، ويتخرج فيها محاميًا يمارس المهنة في مكتب مشترك مع صديقه المحامي والمناضل، حنا نقارة، ليمارس مهنته بعد ذلك في دمشق، قبل أن يلتحق بصفوف منظمة التحرير الفلسطينية، ويشارك في مؤتمراتها ومجالسها الوطنية منذ تأسيسها الأول عام 1964، خصوصًا عمله في "لجنة التضامن" التابعة للمنظمة.




الفلسطينيون على اختلاف مشاربهم، بمن فيهم غير المتابعين عادة للشعر، يتذكرون لأبي سلمى قصيدته الشهيرة "لهب القصيد"، التي أطلقها منتصف ثلاثينيات القرن الفائت، أي تمامًا في زمن ثورة فلسطين الكبرى، والتي كانت صرخة عالية النبرة وحادة الكلمات في مواجهة الواقع الرسمي العربي وحكام تلك الأيام، والتي تعرض فيها لبعض الحكام العرب بالأسماء، وتناقلتها الأجيال العربية بعد ذلك:
"أنشر على لهب القصيدِ
شكوى العبيد إلى العبيدِ
شكوى يرددها الزمان غدًا
إلى الأبد الأبيد".

هي روح الغضب الثوري، الذي يحذر من التهاون الرسمي وغياب الإرادة الفاعلة في مواجهة المشروع الصهيوني الذي كان يتشكل وينمو برعاية سلطة الانتداب، وهي قصيدة لم تهمل العلاقة بين ذلك كله، وما كانت تعيشه البلدان العربية في تلك الأيام من تخلف واستبداد وجنوح عن رغبات الشعب وإرادته، ما جعل الشاعر يواجه منع الدخول لغير بلد عربي لسنوات غير قليلة جعلته بعد ذلك يكتب واحدة من عيون قصائده يوم دخوله القدس لأول مرة منذ النكبة عام 1957:
"زحفت ألثم أرضي وهي باكية
والقلب باك وراحت تنتشي القبل
وعدت أنشق من عطر التراب هوى
في ظله التقت الأجداد والرسل
أهلي على الدهر تضنيني جراحهم
في ظلهم يتساوى العذر والعذل".

تجربة عبد الكريم الكرمي الشعرية تزخر بكثير من الموضوعات الاجتماعية، ففائض الوطنية والسياسة الذي يبدو واضحًا عنده لا يحجب اهتمامه شعريًا باليومي والمعاش من قضايا الناس، بل ومن قضاياه الشخصية أيضًا. ومن المهم، هنا، الإشارة إلى جماليات فنية عالية نهضت عليها تجربته الشعرية، فهذا الشاعر الذي جاور إبراهيم طوقان في رحلة الكفاح ضد الانتداب والخطر الصهيوني معًا برع في المزج بين مضامينه الوطنية والاجتماعية، وبين لغته الفنية التي رأينا فيها بساطة التعبير وسلاسته، إلى جانب حرصه على الصورة الشعرية المشغولة بعناية. عبد الكريم الكرمي هو بكل المقاييس أحد أبرز كلاسيكيي الشعر الفلسطينيين والعرب من أبناء جيله والأجيال التي جاءت بعده.




جانب هام من شخصيته وتجربته يقع في الحيز السياسي والاجتماعي، حيث عاش أبو سلمى حياته كلها في قلب النشاط من أجل فلسطين، فكان عضوًا مؤسسًا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأحد أعضاء مجلسها الوطني الأول عام 1964، وظل كذلك حياته كلها، إذ عمل في صفوف المنظمة من خلال "لجنة التضامن"، ومشاركاته الواسعة والحيوية في مؤتمراتها واجتماعاتها، ومن خلال نشاطه البارز في "اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا"، وحصوله على جائزة "اللوتس" تقديرًا لمكانته الشعرية، وهي الجائزة التي جعلت الأوساط الرسمية والشعبية الفلسطينية تمنحه أرفع الأوسمة والجوائز، وتمنحه معها لقب "زيتونة فلسطين"، الذي حمل رمزيته وقيمته العالية.
سنجد كثيرًا من شعبية أبو سلمى ومكانته في أوساط الفلسطينيين من خلال المشاركة الشعبية الحاشدة في جنازته يوم رحيله عام 1981، والتي كان لافتًا فيها عفويتها، إذ لم يسبق لشخصية أخرى أن حظيت بتلك المشاركة الشعبية الحاشدة لراحل ليس زعيمًا سياسيًا ولا قائدًا في هذا الفصيل الفلسطيني، أو ذاك.
أبو سلمى عاش مسكونًا بفلسطين والشعر، وكرس حياته ووقته كله من أجلهما، وظل لليوم الأخير وفيًا لصديقَيْ حياته إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، فأحبته الأجيال الجديدة من شعراء فلسطين، وكان بيته وسط العاصمة السورية دمشق مزارًا وموئلًا لهم، فهو صديقهم ومعلمهم الذي لا يتعالى عليهم، والذي يواكب تجاربهم الشعرية، ويمنحهم النصح والرأي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.