}

فنانون ألمان ضد الحرب.. الاختبار الأخلاقي

سمير رمان سمير رمان 21 مايو 2022
استعادات فنانون ألمان ضد الحرب.. الاختبار الأخلاقي
الأم وابنها الميت (كاثي كولفيتس)

يعيش العالم أوقاتًا صعبة على وقع الحرب الروسية على أوكرانيا. في مثل هذه الظروف، يجد الفنانون الروس أنفسهم في مواجهة اختبار أخلاقي للتموضع إلى جانب، أو ضدّ، الحرب. لكن قلّةٌ منهم من تجرؤ على تحدّي سلطات بلادهم، وإعلان شجبهم للحرب، والتعاطف مع ضحاياها الأبرياء.
قبل ذلك، وجد الفنانون الألمان أنفسهم في هذا الوضع، خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقف قلّة منهم ضد حرب بلادهم على دول أوروبا، كان في مقدمتهم الفنانون الذين عرفوا وقتها بالفنانين التقدميين، وعلى رأسهم: كاثي كولفيتس/ Käthe Kollwitz؛ غيورغ غروس/ Georg Gross؛ جون هارتفيلد/ John Heartfield؛ أوتو ديكس/ Otto Dix. ربما كان كثيرون على علمٍ بمواقف هؤلاء الفنانين، ولكن قلّة قليلة كانت على علمٍ بالثمن الذي دفعوه لقاء موقفهم.

كاثي كولفيتس (1867 ـ 1945)




بالقرب من إحدى كاتدرائيات مقاطعة كالينينغراد، توجد شاهدة حجرية صغيرة نقش عليها بحروف بارزة: نصب تذكاري لجوليوس روب، الداعية وعالم اللاهوت البارز، والسياسي في منطقة كونيغسبرغ. هذا النصب واحد من الأعمال الأولى لحفيدته، الفنانة الألمانية كاثي كولفيتس (1867 ـ 1945)، وهو عمل مرمم لعملها الأصلي الذي فقدت نقوشه الأصلية خلال الحرب العالمية الثانية، أنجزه النحات هارالد هاك عام 1991، وقدّمه هدية لكالينينغراد. في حوزة الفنان نسخة مضخمة من عمل كولفيتس المسمّى "Pieta"، وكذلك مجموعة نحتية "الأم وابنها الميت" (1937 ـ 1938)، نصبت عام 1993 لتغدو اليوم أهمّ نصب أقيم في ألمانيا تخليدًا لضحايا الحرب والاستبداد.
قبل وقوع كارثة الحربين العالميتين بوقت طويل، وتحديدًا في عام 1903، كانت كاثي كولفيتس، الأم السعيدة لطفلين يبلغان من العمر 11 و7 أعوام، تعمل على إنجاز سلسلة ضخمة عن حرب الفلاحين في ألمانيا. أثناء عملها، رسمت فجأة، على واحدة من أوراقها "امرأة مع طفل ميت": جثة عارية، بدينة وغير إنسانية تحتضن بيأسٍ وحشيٍّ جسد طفلها الغضّ الهامد. عندما سئلت الفنانة عن مصدر الإلهام لهذه اللوحة، أجابت: هو هاجسٌ كان يلاحقني. في ما بعد، سيكون موضوع الأمّ الحزينة الثكلى جزءًا رئيسًا في أعمال كولفيتس اللاحقة. في بدايات إبداعها، كان فنّها إنساني الصبغة، مناهضًا بالغريزة للحرب، ولكنّه تحول في ما بعد إلى فنٍّ نسويٍّ، مسالمٍ، اشتراكي البوصلة.

"مسيرة عمال النسيج" (1893 ـ 1897) (كاثي كولفيتس)


يثبت تاريخ الفنّ النسويّ أنّ المرأة تحتاج إلى ظروفٍ مناسبة خاصة كي تجد لنفسها موقعًا في عالم الفنّ الذكوري. في حياة كاثي، كانت الظروف متوافرة، كونها نشأت في كنف أسرةٍ مثقفة تحمل أكثر وجهات النظر ليبراليةً. قدمت الأسرة للابنة كلّ أشكال الدعم لتصبح فنانة. عند بلوغها الأربعين، كانت كولفيتس قد أنجزت مجموعة الرسوم الغرافيكية "مسيرة عمال النسيج" عام (1893 ـ 1897)، و"حرب الفلاحين" (1902 ـ 1908)، ليتعرف الوسط الفني على فنها، الذي ارتقى بفنّ الغرافيك الألماني إلى مستويات عصر الرسام وفنان الغرافيك ألبريشت ديورر/ Albrecht Dürer (1471 ـ 1528).




قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت حياة كولفيتس المهنية تسير على أحسن ما يرام، ولكنّ الحرب غيّرت حياتها، ليتحوّل فنّها إلى راديكالي صرف. في عام 1914، انتسب بيتر كولفيتس، الرسام الواعد، إلى الجيش، ليقتل سريعًا في أول معاركه، وهو لمّا يتجاوز الثامنة عشرة. على الرغم من الفاجعة، وجدت الفنانة في نفسها القوة لتبدأ مجددًا العمل على منحوتتها "الآباء الثكالى"/ Die Trauernden Eltern، التي جاءت ملامح الوالدين فيها تشبه إلى حدٍّ كبير ملامح كاثي كولفيتس وزوجها. بدعمٍ مباشر من ألبرت آينشتاين، تمكنت الفنانة عام 1932 من رفع هذا النصب في مقبرة الجنود في الفلاندرز الغربية (منطقة الفلمنك البلجيكية الناطقة بالألمانية). تنتصب نسخة ثانية من "الآباء الثكالى" في المقبرة العسكرية الألمانية في رزيف، حيث دفن بيتر كولفيتس، حفيد الفنانة والابن البكر لابنها الأكبر هان، الذي سمّي باسم عمه الذي سقط في الحرب العالمية الأولى، ولم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره.

منحوتة "الآباء التكالى" (كاثي كولفيتس) 


خلال العقود الثلاثة التي فصلت بين وفاة ابنها وحفيدها، كان فنّ كاثي كولفيتس يعكس صدمة الحرب العالمية الأولى، من خلال سلسلة أعمالها الخشبية "الحرب" (1918 ـ 1922 ـ 1923). كما توقع فنّها المأساة الوشيكة (الحرب العالمية الثانية)، من خلال سلسلة "الموت" عام (1934 ـ 1937). سريعًا، أصبح هذان العملان رمزًا للحركات المناهضة للحرب، التي اتخذت رمزًا لها واحدًا من أوضح ملصقات الفنانة المرئية والأكثر لفتًا للأنظار "لا للحرب/ Nie wieder Krieg, 1924"، الذي ترسَّخ في عالم الفنّ حتى يومنا. معاداة الفنانة للعسكريتاريا، وتعاطفها الصريح مع الحركة الاجتماعية ـ الديمقراطية، وكذلك رفضها للاشتراكية ـ القومية؛ كل هذا دفع السلطات إلى اعتبارها رسميًا شخصًا غير مرغوبٍ فيه في الرايخ الثالث، فطردت من الأكاديمية البروسية للفنون، وحرمت من عرض أعمالها. بعد اضطرارها لمغادرة برلين عام 1943، هربًا من القصف الذي دمّر ورشتها، بما فيها من رسومات وألواح النقش، انتقلت الفنانة إلى مقاطعة تورينغن، ثم ساكسونيا، لتموت هناك ميتة طبيعية قبل أسبوعين فقط من سقوط النازية، واستسلام ألمانيا.

إرنست بارلاخ (1879 ـ 1928)


يبدو أنّ الفنان إرنست بارلاخ/ Ernst Barlach (1879 ـ 1928) قد اختار كولفيتس عام (1927) لتكون موديلًا في عمله "الملاك المحلّق/ The Soaring Angel" القائم في كاتدرائية Gustrow، وهو العمل الذي غدا نصبًا تذكاريًا لتكريم الأمهات اللاتي فقدن أطفالهن في الحرب. لم يكن الاختيار ناجمًا عن دوافع تتعلق بالسيرة الذاتية فقط، بل أيضًا بسبب مظهر كاثي الهانزي. بالنسبة لفناني الجيل الثاني بعد كولفيتس، الذين خاضوا الحرب العالمية الأولى، فإنّ مسألة الانتماء إلى الأمة الألمانية، وفي الوقت نفسه الإحساس بالمسؤولية الجماعية عن العسكريتاريا الألمانية القديمة، والنازية الناشئة، ستصبح مشكلة أخلاقية.

الملاك المحلق  (إرنست بارلاخ)




ربما يكون هذا المأزق الأخلاقي هو ما دفع أعظم أساتذة الفن السياسي في جمهورية فايمار، جورج غروس (1893 ـ 1959)، وهلموت هارتفيلد (1891- 1968)، إلى التخلي عن أسمائهم الألمانية، واستبدالها بأسماء إنكليزية عام 1916، في ذروة الحرب الدعائية المعادية لبريطانيا.
في خريف عام 1914، التقى الفنانان بعد سوقهما إلى الجيش، ليصبحا صديقين على الفور. حاول كلاهما التهرّب من الالتحاق بالجبهة، متظاهرين بالإصابة باضطرابات عصبية. بعد تدربهما في مدرسة حركة الطليعة الفنية والأدبية الأوروبية (Dada) المناهضة للحرب العالمية الأولى، سيعلنان الحرب على العسكريتارية الألمانية، وعلى الاشتراكية الوطنية (النازية)، من خلال وسائل ساخرة: غروس ـ عبر الرسوم الكاريكاتورية على صفحات الصحف، ومن خلال الملصقات، أمّا هارتفيلد فلجأ إلى أسلوب الصور المركبة. سينضم كلا الفنانين إلى صفوف الحزب الشيوعي الألماني. في عام 1922، سافر غروس إلى الاتحاد السوفييتي، وهناك التقى لينين وتروتسكي، فأصيب بخيبة كبيرة، ليبدأ بعد عودته إلى ألمانيا القتال على جبهتي النازية، ومواجهة الشيوعيين. أمّا هارتفيلد فعاش أوائل الثلاثينيات سنتين في موسكو، حيث ساهم في إصدار الملصق السوفييتي الشهير "عملية البناء في الاتحاد السوفييتي"، وانخرط حتى النخاع في أوهام الكومنترن. انتهى كلاهما في المنفى، وسيصبح غروس، الذي صدرت في حقه كلّ أنواع العقوبات المالية، بسبب إهانته المشاعر الدينية، وغيرها من المشاعر، أول ألماني على القائمة السوداء للشخصيات الثقافية التي سيسقط النازيون جنسيته. بعد الحرب، عاد هارتفيلد إلى ألمانيا الشرقية، حيث وُبِّخ هناك على الفور بسبب فنّه الشكليّ، في حين فضل صديقه غروس البقاء في الولايات المتحدة الأميركية، ومنها انتقل إلى برلين الغربية في عام 1959، ليموت في وطنه بعد بضعة أسابيع.

كوابيس الحرب العالمية الأولى (أوتو ديكس)




واحدٌ من أشهر أساتذة فنّ فايمار المعادي للفاشية هو أوتو ديكس (1891 ـ 1969)، الذي شارك أيضًا في الحربين العالميتين. في الحرب الأولى، تطوّع في سلاح المدفعية ليشهد الحرب من ألفها إلى يائها، بينما استدعي للخدمة في الحرب العالمية الثانية عام 1945، فوقع سريعًا أسيرًا في يد الفرنسيين، ليرسم (لوحة: "صورة شخصية كأسير حرب" عام 1947). بعد أن أصبح معاديًا للفاشية، ونصيرًا للسلام، أصبح ديكس يشاطر غروس، وهارتفيلد، كراهية الفاشية، وازدراء الانتهازية البرجوازيةِ، فكرّس جهوده لشجب أهوال الحرب عبر الرسم. على سبيل المثال: إنجازه لوحة ضخمة موجهة ضدّ النهضة والرومانسية الألمانية، مستهدفًا بذلك مرتكزات الأيديولوجيا القومية ـ الإشتراكية. لقد كان كلّ ذلك عبارة عن محاولات يائسة لإنقاذ الثقافة الألمانية من جحيم الدعاية الفاشية. في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي، حظرت السلطات جميع أعمال ديكس، ومنعت مشاركته في المعارض.
على النصب التذكاري لجوليوس روب في كالينينغراد، نقشت كلماته: "كل من لا يعيش الحقيقة هو أخطر عدوٍّ للحقيقة نفسها".
على الرغم من أنّ الظروف لم تكن في صفهم، فقد بذل الفنانون Kathe Kollwitz، وGeorg Gross، وOtto Dix، وJohn Heartfield، قصارى جهدهم ليعيشوا الحقيقة التي يدعون إليها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.