}

ذكرى انتحار خليل حاوي.. مزج بين الحياة والكلمة والفعل

سليمان بختي سليمان بختي 3 يونيو 2022
استعادات ذكرى انتحار خليل حاوي.. مزج بين الحياة والكلمة والفعل
خليل حاوي



تصادف هذا العام ذكرى مرور أربعين عامًا على انتحار الشاعر خليل حاوي (1919-1982).

في 6/6/1982 وضع خليل حاوي حدًّا لحياته. مشى في شارع بلس إلى منزله وخرج إلى الشرفة وكانت بيروت تعاني سكرات الغزو الإسرائيلي. قال في سره: "أنا قرفان من كل شيء". وقف على الشرفة التي تطل على الجامعة الأميركية في بيروت وتحتها بحر رأس بيروت وأطلق على رأسه طلقة النور الوحيدة في ليل الذئاب. وتراني أسأل: هل رميت جرحك علينا أم رمينا عليك مآسينا؟ ها نحن نتسلل إلى نعاسك الذي يسقط الورق الأصفر فوقه في الجوار الأليف لقريتك ضهور الشوير، ونسأل هل اتحدت مع القصيدة فلا نستطيع أن نسمع صمتك ولا نستطيع أن نسمع صوتك. هناك مبدعون يعيشون الكارثة ويشهدون لها وآخرون يحترقون في أتونها. خليل حاوي الصادق في شعره وفي حياته لم يكن من هذه الفئة أو تلك بل حاول افتداء أمته بروحه التي هي أعز ما يملك. ولم يسأل هل خانه الشعر أم خانه البشر أم خانه القدر. مضى خليل حاوي وكان الليل غابات والفراغ كبير والأمل في شهقة الغيب.

كان خليل حاوي يردّد دائمًا أنه لا يمكن أن يكون فكر عظيم بدون ثمن؛ ولا يمكن أن يكون شرف ولا كرامة لأبناء البشر بدون ثمن. ذات مرة قال في إحدى محاضراته: "المهم في الشاعر أن يكون مخلصًا لشعره ولنفسه، لشعره أكثر من نفسه، وأن يترفع عن كل غايات خارج الشعر، فيمتلك تجربة متكاملة ويعبر عها بصدق ويسر".

كان في صميمه نبع من الحب يحفر عميقًا ولكن هذا الحب لم يتدفق سوى أجيال من الموتى المنكسرين الذين هم بحاجة إلى من يحيي في عروقهم دم الحياة والتجدد والانبعاث: "إن يكن رباه/ لا يحيي عروق الميتينا/ غير نار تلد العنقاء/ نار تتغذى من رماد الموت فينا/ في القرار/ فلنعان من جحيم النار/ ما يمنحنا البعث اليقينا". كان شاعر المعاناة العنيفة الصلبة التي مزجت بين الحياة والكلمة والفعل. لم يفصل أبدًا بين الذاكرة الحضارية والهوية القومية والحداثة الشعرية. أسئلة الشعر لديه هي أسئلة الوجود والوعي والكرامة. وهذا ما عرفه خليل حاوي وما مارسه حتى الرمق الأخير وحتى الطلقة الأخيرة. شاهد القرن وشهيد حزيران. عام 1983 كتب الشاعر محمود درويش شهادة من الجزائر قال فيها: "كيف أتتك كل هذه الشجاعة يا خليل بطلقة واحدة قضت على كل تلك الأسئلة المربكة ولغز اختلاط الأزمنة في ذاكرتك؟ زمن مضى لكنه لا ينتهي وإن هذا الزمن دفع بحاوي إلى الانتحار". إذًا هو الزمن اللبناني الرديء والزمن العربي الرديء ما دفع بخليل حاوي إلى الانتحار. ألم يقل "عبثًا كنا نهز الموت نبكي، نتحدى حبنا أقوى من الموت وأقوى جمرنا الغض المندى".

في قصيدته "الناي والريح" يقول خليل حاوي:" أترى حملت من رؤى الصدق ما لا تطيق". شاعر صادق قتله الصدق لأنه رأى الكذب والنفاق والرياء والوجوه والعقول المستعارة في حياتنا. رأى كيف يموت الأمل وتنتحر الأشواق. وإذا كانت لنا من عبرة اليوم نستمدها من سيرة حاوي فهي كيف يكون الشاعر العربي حرًا صادقًا في هذه الأمة بالرغم من كل شيء.







أتذكره يغذ السير في شارع المكحول في رأس بيروت إلى بيته القريب يلوح بسبحة ويردد بيت المتنبي: "جاء الزمان بنوه في شبيبته فسرهم وجئناه على الهرم". يتذكر حاوي شاعر العرب المتنبي الذي سكنه طويلًا وقد وصفه غير مرة: "تأمل في أمة وتألم عن أمة وصار ضمير الأمة أكثر من حكام وأمراء عصره". كما لو أنه كان يصف نفسه. يتذكر المسيح، وجبران، وأنطون سعادة. كتب في قصيدة " الذرى البيضاء": "في ضمير الليل مصباح وأشباح ومغدور طريح/ في ضمير الليل عين شهدت ما كان مصباح شحيح/ أترى تحتفل الشمس بذكراه فتحكي عنه يوما وتبوح".

في 6/6/1980 جاءته رسالة من غسان تويني، ممثل لبنان الدائم في الأمم المتحدة، يعلمه فيها بأن مارك ودكوث سيصل الى لبنان ليخرج فيلم "جبران: النبي وشعبه". وقد استوحى العنوان من دراسة خليل حاوي وأطروحته عن جبران التي قدمها بالإنكليزية في جامعة كامبردج. كان خليل حاوي قد أنجز مراجعة ترجمة الكتاب إلى العربية؛ أفرحه هذا الخبر وأدخل الى قلبه السرور.

ترك خليل حاوي خمس مجموعات شعرية عنوان كل منها يتألف من كلمتين متناقضتين أي تدل على الشيء ونقيضه: "نهر الرماد" 1957 و"الناي والريح" 1960 و"بيادر الجوع" 1965 و"الرعد الجريح" 1979 و"من جحيم الكوميديا" 1979.

عام 1981 كان حاوي يستعيد الذكريات الجميلة على دروب ضهور الشوير ومطل الدير والغابات والعرزال. يعرف كل تلة وكل مطل ويعرف القادوميات والمعصرة والبيدر ومقاعد الصخور وأكواز الصنوبر وعيون المياه ومقهى الحاوي في الساحة. لم يقطف خليل حاوي من شجرة الزمان ثمار المجد، ولكنه أوقد مرجل النهضة ومضى قبل أن يرى البذور والهامات تعلو وتغطي المكان وتحرثه وتحرسه. والشعراء لا عمر لغيابهم ولا عمر لحياتهم ولا هم يموتون. إنهم يعيشون بالحروف والكلمات والقصائد والرؤى. إنهم يحتفلون بالحياة ويعيدون كتابة الزمان مثلما تكتب القصائد بيتًا وعجزًا حتى الروي الأخير.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.