كبقية الأشياء الباقية
ربما، لهذا السبب، أنا نفسي، لا أستطيع الادعاء أنني أحد اثنين أو أربعة، أو عشرة أصدقاء خالد خليفة الحميمين، رغم معرفة الجميع أنني أحد أشد أصدقائه قربًا في الآونة الأخيرة. وأكاد، في نظر الكثيرين، أشكل معه ثنائيًا على نحو ما. كيف؟ كلانا، كاتبان معروفان، هو محليًا وعربيًا وعالميًا وأنا قد يعتبرني البعض شيئًا من هذا، وكلانا بقينا! مرة ثانية أستسهل الجواب، رغم معرفتي مقدار التباسه. ولكن، نعم، كلانا كان يستطيع، وربما كان من الأفضل له، وربما أيضًا كان يجب عليه، أن يغادر. "جميع الذين من أمثالك غادروا"، قال لي مرتابًا أحد المحققين! لكننا لم نفعل، بقينا. بقينا كما بقي الناس الذين بقوا، كأخوتنا وأهلنا وجيراننا وأصدقائنا الذين نصبّح عليهم ويمسّون علينا، أو، بتعبير أشد شاعرية، ما أزال أضعه تحت صورتي على التويتر: "لا ندم ولا مأثرة، بقينا كبقية الأشياء الباقية".
شاعر بدليل مفقود
فاجأني خالد في إحدى زياراته إلى مرسمي، بإخراجه دفترًا ذا شريط معدني، وتسليمه لي باليد، وهو يقول دون أي أثر للمزاح: "هذا لك... أبطلت الشعر بسببك! قصائدك عن مصطفى عنتابلي جعلتني أحسم أمري بأنه عليّ أن أكون روائيًّا". "رائع... هذا ربما أفضل ما أستطيع فعله لأجلك!" أجبته دون أي أثر للجدية! فلقد كنت محقًا، على غير عادتي، وأنقذت خالد من أن يكون شاعرًا. غير أن ذلك، كما يبدو، لم يُنس له، ولم يُسامح عليه، لأن أغلب عبارات النعي، وخاصة التي صدرت عن وكالات الأنباء العربية كالخليج، والجزيرة، والشرق الأوسط، والعالمية كفرانس 24، والسكاي نيوز، ألحقت باسمه صفة الشاعر، أما تركيا الآن، ولايف العربية، فلقد سبّقت صفة شاعر على كل الصفات: "وفاة الشاعر و... السوري خالد خليفة". كل هذا وليس هناك مجموعة شعرية صادرة له، ولا قصائد منشورة في أي مجلة أو صحيفة أو موقع إلكتروني، أي أنه لا دليل... سواي!
منذ، لا يمكن لي أن أذكر، ولكن ما لا يقل عن 15 سنة، لليوم، والدفتر عندي يرقص رقصة الضياع، يتنقل من مكان إلى مكان، ومن رف إلى رف، ومن درج إلى درج، ناجيًا من غرق الغواصة مرتين واحتراقها مرة، وطوفانها مرات! إلى أن أيقظني خالد الساعة الرابعة قبل تفتق ضوء فجر أول البارحة وسألني: "أين دفتري؟" فولعت من فراشي كالمجنون ورحت أبحث عنه، حيث أنا في البيت بادئ الأمر، وفي المرسم حيث كنت أتوقع وجوده، ثم في شقة ابني الفارغة التي أضع فيها كتبي الناجية جزئيًا من الحريق، تغطي أغلفتها طبقة عنيدة من السخام، فلا تعرف ما هي حتى تفتحها وتنظر إلى صفحتها الأولى! ولا أجده. أجد بدلًا عنه أشياء كثيرة لا حاجة لي بها كنت قد نسيتها ولا حتى أذكر أنها كانت سابقًا عندي. وكأنه صحيح، ذلك الحكم الذي أطلقه الرب على البشر، ولا تسألوني أين ومتى: "الحق أقول لكم، إنكم إذا بحثتم عن شيء، تجدون كل شيء، ما عدا الشيء الذي تبحثون عنه!".
فاجأني خالد في إحدى زياراته إلى مرسمي، بإخراجه دفترًا ذا شريط معدني، وتسليمه لي باليد، وهو يقول دون أي أثر للمزاح: "هذا لك... أبطلت الشعر بسببك!" |
قرباطي بكمنجة ذات وتر وحيد
لكني وجدته! وجدته بعد استسلامي الكامل لفكرة أن هناك أشياء مخصصة للفقدان خلال حياتنا، نحن البشر، إلى أن نفقد كل شيء ذات يوم، دون أن يكون لنا حيلة لنحول دون ذلك! وكأنه كان يختبئ خائفًا بعد موت صاحبه، في زاوية خزانة غرفة الطعام الرومانية التي تتكدس فيها دفاتر مذكراتي ومغلفات مسودات قصائدي وألبومات صور العائلة. متنكرّا بغلاف آخر مختلف تمامًا عما كنت أتصور أنه غلافه!
يتضمن الدفتر 53 قصيدة، قصيرة بمجملها، منها قصائد لا تزيد عن سطرين! قصيدتان فقط تحملان عنوانًا، و5 مؤرخة بالسنوات دون ترتيب، موزعة على ثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان (كوتر وحيد في كمنجة متروكة) يتضمن 16 قصيدة متسلسلة وكأنها تشكل قصيدة واحدة تيمتها الحب. القسم الثاني (ورود للرجل الميت) يتضمن 22 قصيدة تتردد فيها كلمة "ورود" في كل قصيدة تقريبًا تزاحمها عبارة "رجل ميت". أما القسم الثالث والأخير بعنوان (مسرات الندم) فقصائده لا تزيد عن 10 كتبها من دون اعتناء ظاهر شاعر يودع الشعر، إضافة إلى خمس قصائد متفرقة لا رابط بينها، تجاورها تخطيطات ورسوم، تذكر بالرسوم التي انكب عليها خالد بكل ما يعرف عنه من شغف، آخر سنوات حياته.
اسمحوا لي، قبل قراءتكم ما نقلته من قصائد خالد دون كثير حرص أن تكون أفضلها، بأن أقوم الآن برد استباقي على من سيعترضون، وأظنهم متوفرين من دون شك، على نشري هذه القصائد، بحجة أنه لو كان خالد يرى بأنها تستحق النشر، ولو كان يرغب بأن يراها منشورة، لنشرها في حياته! وذلك بسؤالي لهم: لماذا، تظنون، أودع خالد دفتر أشعاره عندي؟ ماذا تظنون أنه كان يفكر، ماذا تظنون كانت غايته؟ لا ريب في أنه لم يكن يقصد رميه! وأنه، بوعي منه، أو بلا وعي، كان يعلم أني، يومًا، سأفعل شيئًا بخصوصه! فهو يعرف أن هذا من عاداتي! كما فعلت سابقًا مع أختي مرام ومع رياض الصالح الحسين ومحمد سيدة وهلال بدر، وها قد جاء الآن دوره.
1- وسائل إيضاح
جلس التلاميذ على المقاعد
قال المعلم: "لدينا قالبًا من الكاتو"
تألقت العيون الصغيرة
ابتسمت...
تلميذ عار كالجرود
باهت كبذلة المعلم الوحيدة
صرخ بشراسة:
نريد وسائل إيضاح.
(1982)
2- سجين
تحتويك الرغبات
والعيون تزنر وهجك
أيها المنذور
لصبح
لرقص
ليشرب الليل أيامك
ويرفع ما تبقى من كأسك
تحتويك القلوب
ويرسل الورد ضفائره
يسيج فرحك
ومجدك
وعلى الأرائك
تبقى شجيًّا
تنتظر الحرية وحدك.
(1986)
3-
مرة أخرى
قد تنام امرأة بين ذراعيّ
وتقول أحبك
قد تكتب لي امرأة بعيدة:
"اشتقت إليك"
قد تبكي امرأة أمام ورودي الذابلة
نادمة لأنها تركتني وتزوجت عدوي
ومن أجلي قد ترمي امرأة بنفسها
من الشرفة
قد تهجر امرأة متزوجة عائلتها
قد تنتظر امرأة أمام باب منزلي
حتى الصباح
غير مبالية بنظرات الجيران
ومفاجأة
تراني أصطحب غيرها...
4-
إن تركتني أغادر هذه الغرفة وحيدًا
سترتجف من الندم
لن تكترث بك الستائر
وسريري لن يستسلم لألم مفاصلك
ستذوي وتموت
كوتر وحيد في كمنجة متروكة
قد لا تصدّق
إن رافقتني أمنحك ألف حياة
وتميتني
إن تركتني أغادر
هذه الغرفة وحيدًا.
5-
عشب
وتراب مبلل
وشاهدة
وامرأة مقرفصة تبكي
وأصدقاء
يتذكرون تفاصيل كاذبة
أليس هذا هو
الندم؟
6-
أخيرًا رأيت البحر
وطفولتي تقف على سياجه
رأيت الزمن ممدّدًا
كدت أقول لكِ
أنظري
إنه يفقد أعماقه.
7-
كيف أرسم وجهك
كيف أخطّ الحاجب
وأنزل إلى الشفتين
دون أن أنسى
أرنبة أنفك
ولوعة الفراق في أصابعك
حين أدير ظهري
وأترك ورائي
غرفتك.
8-
لا تخوني خبزنا
وخمرنا
وتتركيني لمسرات الندم.
9-
سأموت من أجل الورود
التي ستهدونني إياها
من أجل وقع خطاكم على درج منزلي
وجلوسكم في الصالون
منكّسي الرؤوس وحزانى
في حضرة امرأة
لم تبح باسمي
وبعد مماتي صافحتموها
وبكت كأي أرملة محترمة
مغمغة: "كنا سنتزوج السنة الماضية
أقصد القادمة"!
امتدحتم إخلاصها
وتهامستم بأني لم أكن جديرًا بها
وكنت أخونها مع نساء
أقل جمالًا وذكاء
وأني الآن رجل ميت
ليس من أجل الورود
ولا من أجل الأغاني
بل من أجل الموت
الذي لا يستحق أن يموت أحد
لأجله.
10-
تتساقط من يديه رائحة تشبه الموت
وخلفه تسير امرأة تحمل الورود البيضاء
ولا تصدّق أنه ميت
يلوح المشيعون بالكفن وأوراق الغار
يسرع النغش
إنه رجل ميت
لكنكم لا تستطيعون الإمساك به.