}

السياسة فرضت عبئًا أثقل على الكاتب الفلسطيني

استعادات السياسة فرضت عبئًا أثقل على الكاتب الفلسطيني
سلمى الجيوسي- بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)


تميزت سلمى الخضراء الجيوسي، التي رحلت قبل أيام عن عمر يناهز 98 عامًا، كشاعرة مجددة وناقدة ومترجمة بارعة، ونشرت عشرات المقالات التي عالجت فيها قضايا أدبية. واستناداَ إلى آرائها وأبحاثها في الستينيات، كتبت رسالتها الجامعية: "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث"، ونالت عليها شهادة الدكتوراه من مدرسة العلوم الشرقية والإفريقية (SOAS) في جامعة لندن (1970). وعملت في التدريس الجامعي في السودان والجزائر والولايات المتحدة الأميركي. ودُعيت في 1973 من قبل "رابطة دراسات الشرق الأوسط في أميركا الشمالية" (MESA) للقيام بجولة محاضرات في الولايات المتحدة وكندا شملت 22 جامعة، وبقدر ما حملت هذه الجولة من تقدير الأوساط الأكاديمية الغربية لمكانتها العلمية، بقدر ما أدركت سلمى من خلالها مدى جهل الغرب بالتراث الفكري العربي. نشرت كتابها بالإنكليزية عن الشعر العربي الحديث (1977)، واستمرت في السبعينيات تنشر مقالاتها في العواصم العربية كالقاهرة والخرطوم وتونس والكويت.

دعتها كلية بارنارد في جامعة كولومبيا لإلقاء المحاضرة السنوية العامّـة في عام 1979، واقترح عليها مدير دار جامعة كولومبيا للنشر التعاون في نشر مجموعة من الأدب العربي الحديث مترجمًا، وكان لهذا التعاون الفضل في توجّهها فكرًا وعملًا نحو تأسيس مشروع خاص بها للترجمة يهدف إلى نقل الثقافة العربية إلى العالم الناطق بالإنكليزية. وشاهد مشروعها النور في عام 1980، بالتعاون مع عدد من الأساتذة في جامعة ميتشيغان، وأطلقت عليه اسم "بروتا" Project of Translation from Arabic – PROTA.

كانت تتابع أعمال "بروتا" بالتفاصيل، وبالتعاون مع عشرات المترجمين والمحررين والباحثين المنتشرين شرقًا وغربًا، ولم يكن هناك مقر رسمي لمؤسستها، فكانت منازلها في بوسطن ولندن وعمّان بالإضافة إلى الفنادق هي مكان العمل. وباشرت في الثمانينيات من القرن العشرين في إصدار الكتب الأدبية الفردية المترجمة التي قامت باختيارها من أروع ما أنتج الكتّـاب والشعراء العـرب الحديثون والقدامى من شعر وقصة ورواية ومسرح. وصدرت أول موسوعة بالإنكليزية قامت بتحريرها وكتابة مقدمتها عام 1987 بعنوان "مجموعة الشعر العربي الحديث"، وتحتوي على قصائد لأكثر من تسعين شاعرًا. وتبعتها أنطولوجيا "الأدب الفلسطيني في العصر الحديث" عام 1992.

ومن التمهيد الذي كتبته لهذه الأنطولوجيا الأخيرة ننشر الفقرات التالية استعادة لذكراها حيّة وميتة.

(ضفة ثالثة)


على الرغم من أنني أوليت العوامل الاجتماعية والسياسية بعض الاهتمام في دراستي للشعر العربي الحديث وذلك بوصفها عوامل [خارجية] هامة وراء التغيرات التي طرأت على مفاهيم المبدعين العرب وعلى وعيهم فإن اهتمامي الأول انصب على التطوّر الداخلي للفن الشعري، وهو تطوّر حدّدت معالمه بالدرجة الأولى عناصر من طبيعة فن الشعر نفسه. يستند هذا المنهج على نظرة تقول إن الفن يمل قوانين نموه وتطوّره الخاصة به، وإن العامل الحاسم في تطور الفن هو حاجات الفنّ نفسه ومتطلباته وإمكاناته في لحظة من لحظات تاريخه، مع أن هذه القوانين تتأثّر أيضًا بقوى خارجية اجتماعية وسياسية ونفسية.

ويعتمد تطوّر الأدب على عوامل عديدة تعمل معًا لتؤثر على وجهة تطوّره. غير أن الآراء النقدية تتفاوت في مقدار الأهمية التي تعزوها لهذه المؤثرات. فهناك، أولًا، من يؤكد على الحتمية الاجتماعية بوصفها أساس التغيّر في الفنّ، ويرى أنّ الفن يعتمد على عوامل اجتماعية (وسياسية) تقرّر اتجاهاته وأغراضه وأساليبه، وكتابات الناقد الفرنسي إيبولت تين Hippolyte Taine معروفة حق المعرفة في هذا المجال، كما هي حال كتابات أتباع ماركس marx وإنجلز من ذوي التوجه الاجتماعي. لكن هناك من مؤرّخي الأدب، أمثال شارل أوغسطين سانت بيف Charles Ausustin Sainte-Beuve ومن بعده أتباع فرويد Frued، من يعد العوامل النفسية المؤثرة على شخصية المؤلف هي المحدّد في عملية التطوّر الأدبي، غير أن ثمة فريقًا ثالثًا يرى أن الأدب بوصفه شكلًا فنيًا لا يتأثر بالعوامل الخارجية وحسب، بل بدينامية خاصة في الفنّ نفسه تدفعه إلى التغيير أو تعيقه عنه. أما العوامل السياسية فكثيرًا ما تتدخل، بسبب ما لها من أهمية مباشرة، في العملية الفنية بحيث تحرفها عن وجهتها الطبيعية لصالح التزام ما أو فكر سياسيّ معيّن. غير أن تاريخ الأدب العربي يبيّن أن الفن له طريقته الخاصة في العودة إلى مجراه الطبيعي في مجال التطوّر والنموّ.

هذه هي، بشكل جليّ، حالة الأدب الفلسطيني كما سنرى، والشعر منه بخاصة، وهو أعمق الفنون العربية جذورًا. لكن يبقى هنالك فرق ملحوظ بين الطريقة التي تعامل بها الكاتب الفلسطيني المبدع مع العوامل الخارجية وتفاعل معها، وبين الطريقة التي اتبعها الكتاب الآخرون في العالم العربي، والهدف الأول لهذه المقدّمة لا يقتصر على وصف التطور التاريخي للأنواع الأدبية الفلسطينية الحديثة، فهذا يشكّل جزءًا من تطوّر الأنواع الأدبية العربية عمومًا - وهو موضوع تناولته ضمن سياق عربي عام في كتابات أخرى لي- بل الهدف الأول هو وصف الطريقة التي حقق الأدب الفلسطيني بها خصوصيّته أو التي اختلف بها أحيانًا عن غيره من الكتابات الأدبية المعاصرة في العالم العربي.

لا شك في أن السياسة تفرض عبئًا أثقل على الكاتب الفلسطيني، فهي تحدّد عادة أن يعيش هذا الكاتب ويكتب، وتستدعي قدرًا أكبر ما يكون، ملتزمين بأفكار سياسية معيّنة ومنتمين إلى صفوف المعارضة

الأدب الفلسطيني والأدب العربي

على الرغم من أن الأدب الفلسطيني جزء لا يتجزأ من الأدب العربي الحديث، وأنه ساهم مساهمة كاملة في كل التجارب الثورية التي شهدها الأدب العربي خلال هذا القرن، ومنذ عقد الخمسينيات بوجه خاص، فإنه تميّز باختلافات بيّنة في بعض النواحي، خاصة في علاقته بالمكان والزمان، وفي لهجة الخطاب والاتجاهات، وفي انشغاله الخاص بالقضية السياسية السائدة. وقد يمكن القول إن الأدب العربي برمّته مشغول هذه الأيام بالصراع الاجتماعي السياسي الذي يخوضه الشعب العربي، ولكن لا شك في أن السياسة تفرض عبئًا أثقل على الكاتب الفلسطيني، فهي تحدّد عادة أن يعيش هذا الكاتب ويكتب، وتستدعي قدرًا أكبر ما يكون ملتزمين بأفكار سياسية معيّنة ومنتمين إلى صفوف المعارضة. فهناك مشكلة الهوية بالنسبة إلى الفلسطينيين أن يقضوا حياتهم إما منفيين في بلاد أخرى، أو مواطنين من الدرجة الثانية في إسرائيل في حالة بقائهم في أرض أجدادهم، أو فاقدين، وذلك قبل تأسيس الدولة الفلسطينية، لصفة المواطنة تمامًا عندما كانوا يعيشون تحت الاحتلال العسكريّ الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة. هناك طبعًا كتّاب عرب كثيرون اختاروا أن يعيشوا منفيّين في أرجاء العالم بسبب ظروف القمع الموجودة في العديد من الأقطار العربية، ولكن هناك أعداد أكبر بكثير من هؤلاء ممن يعيشون - على عكس الفلسطينيين- في بلادهم المتمتّعة بالسيادة الكاملة.

إن التجربة الفلسطينية الحديثة قاسية لا ترحم، ولا تترك ناحية من نواحي الحياة دون التدخّل في أعمق أعماقها، وليس هنالك من فلسطيني يفلت من قبضتها، أو من كاتب يستطيع تفاديها. وهي تجربة لا يمكن نسيانها، كما لا يمكن تجاوز لوعتها. وسواء أكان الفلسطينيون في إسرائيل أم الضفة الغربية وغزة، أم في الشتات، فإنهم ملزمون، بحكم هويتهم الفلسطينية ذاتها، بأن يعيشوا حياة تتحكّم بها أحداث وظروف نابعة من رفضهم للأسر وضياع الوطن، مثلما تتحكّم بها نوايا الآخرين وشكوكهم ومخاوفهم وعدوانهم.

ليس ثمة من مهرب، فالكاتب الذي يفكّر في التوجه توجّها منفصلًا عن السياسة كاتب يتنكّر للواقع والتجربة، والانغماس في تجربة الحياة اليومية العادية معناه خيانة حياة الفرد ذاته وخيانة شعبه. هذا يعني أن الكتّاب الفلسطينيين ليس لديهم مجال للهروب، لأن أحداث التاريخ المعاصر تجرفهم في تيارها حتى قبل أو يولدوا. وهم محرومون من نعمة اختيار ما أحبوا من ماضيهم، ومن انتقاء ذكرياتهم، ومن إعادة ترتيب العلاقات التي تتجاوز الأحداث والظروف الخارجية. لقد أضحوا منفيين دائمًا: أضحوا ذلك النمط من الغرباء الأبديين، الذين يكافحون ضدّ عقبات من كل نوع وحجم. ولكن أعظم نضال خاضهُ الكتّاب الفلسطينيون وأعظم انتصار حقّقوه، هو رفضهم أن يكونوا ضحايا الإنسانية الخانعين في النصف الثاني من القرن العشرين. ومع أنهم لم يتوقّفوا أبدًا عن الإحساس بالمعضلة التي يحياها شعبهم، فإنهم يبدون من قوة التحمّل ما يعلو على المأساة ويتجاوز الضرورة. وهذا ما لوّن الأدب الفلسطيني المعاصر وحدّد وجهته ولهجته.

من اليمين: سلمى الخضراء الجيوسي، وفدوى طوقان، ونازك الملائكة، وخالدة سعيد


قد يميل النقّاد ومؤرخو الأدب إلى أن يتوقعوا الرتابة والتقليد في هذا الأدب إن لم يدرسوه، وقد يتساءل المرء عن المدى المتاح لكتّاب ارتبطوا بالوضع الفلسطيني ما دام هذا الوضع قد حدّد لهم مسار حياتهم الأساسي كله وأخضع هذا المسار لضروراته الخاصة، ولذا فإنه لممّا يبعث الدهشة والسرور معًا أن يكتشف الدارس أن الشعراء وكتّاب القصة والنثر الأدبي من الفلسطينيين كانوا، حتى ضمن هذه الحدود الضّيقة، مبدعين إلى حدّ بعيد، وأنهم برزوا في مقدمة الكتّاب العرب، ولم يكتفوا بالمشاركة في التجارب الطليعة الناشطة المتعددة التي لا تنقطع، بل كثيرًا ما قادوا الطريق نحو التجديد والتغيير.

كذلك يجب ألاّ يغيب عن بالنا أن هناك – رغم هذه الحدود المفروضة على الكتّاب الفلسطينيين من حيث الموضوعات – مادة غنيّة للأدب في الوضع الراهن للأزمة الفلسطينية.

فالنكبة الفلسطينية تحمل في طيّاتها مواقف كثيرة يمكن أن تتحول إلى رؤية مأساوية من ناحية، ورؤية بطولية من ناحية أخرى لمواقف المقاومة والأمل والإيمان بانتصار العدالة في النهاية. وما أكثر المواقف التي هي من هذا النوع، والتي تصلح للتناول الأدبي: الموت المجاني للضحايا والأبرياء؛ الموت الذي يسعى إليه الأبطال وهم في ريعان الشباب؛ المحاولات الدؤوب التي يصيبها الفشل؛ الاقتلاع الذي لا ينتهي من الجذور؛ المذلة التي يعانيها المهجّرون الفلسطينيون بتزايد مستمر في بقية أنحاء العالم العربي؛ ووضعهم المزري بوصفهم شعبًا لا وطن له؛ وهناك في الضفة الغربية وقطاع غزة، اللذين تسيطر عليهما إسرائيل، الاعتقالات الضخمة التي مارسها العدو، وعمليات الإبعاد، ونسف المنازل، وإغلاق المؤسسات التعليمية، ومصادرة المياه والأراضي العربية، التي تشجّع الحكومة الإسرائيلية المستوطنين الصهاينة المتطرّفين على بناء المدن والمستوطنات فيها متحدّية بذلك قرارات الأمم المتحدة؛ وهناك الصراع العاطفي الذي يعاني منه عمّال الضفة الغربية وغزة وهم يستخدمون بأجور زهيدة لبناء إسرائيل ذاتها، وهناك الاغتراب المادي والمعنوي الذي لحق بالروح الفلسطينية في كل مكان.

غير أن هذه الروح تمرّدت على محنتها من خلال الانتفاضة، وهي الثورة غير المسلّحة التي قام بها آلاف الأطفال والشباب الفلسطينيين الذي صمّموا على النضال من أجل الحرية، مواصلين بذلك ما يقرب من قرن الصراع والمقاومة اللذين خاضهما الفلسطينيون ضد الاستعمار المنظّم، وقد حوّلت ثورة الحجارة التي بدأت في كانون الأول/ ديسمبر سنة 1987 واستمرت لسنوات، ما هو مأساوي إلى ما هو بطولي، وسعت إلى تأكيد كرامتها في العالم، فغيّرت بذلك نظرة الآخرين إلى القضية الفلسطينية، وظهرت لغة جديدة يتحدّث بها الناس للمرّة الأولى بدت معها المزايدات السلبية عديمة الحول والقُوّة تمامًا، وتبيّن للملايين في العالم أجمع أنهم هنا إزاء شعب يرفض الذلّ والهوان. ذلك أن الانتفاضة، التي سرعان ما باركها الفلسطينيون في المنفى سواء انتموا إلى منظمة التحرير الفلسطينية أم لم ينتموا، كانت ثورة عفوية انبثقت من قلب المأساة نفسها ومن ضمير الشعب الحي – كانت ثورة مسّت شغاف القلوب، وامتلأت بالقدرة على التضحية بالنفس، وخاطبت أعماق الضمير، حتّى كادت تكون شاعرية.

إن هذه المقدمة لن تتوسّع في التاريخ السياسي الحديث لفلسطين، فقد ثبتّ سردًا للمعالم الرئيسية للأحداث التي حدّدت وجه الأدب الفلسطيني خلال هذا القرن، في بداية هذا الكتاب. والقارئ الذي يريد المزيد من التفاصيل يمكنه الرجوع إلى المراجع المتخصصة بتاريخ القضية الفلسطينية وأبعادها. وستقدّم الهوامش المُدرجة، في متن هذه المجموعة شرحًا للأحداث التي تشير إلى المختارات كلما دعت الحاجة.

كان معظم الدول العربية يعمد إلى وسائل القمع في معاملة الفلسطينيين رغم انشغال تلك الدول سياسيًا وعاطفيًا بالقضية الفلسطينية

مجابهة الأدب الفلسطيني

عندما نتحدّث عن الأدب الفلسطيني المعاصر، فإننا، في واقع الحال، نُجابه بأدبين: أحدهما أنتجه كتّاب يعيشون على أرض فلسطين التاريخية، والثاني أنتجه كتّاب يعيشون في الشتات. ففي عام 1948، انشطرت الثقافة الفلسطينية ذات الجذور الراسخة، وظلّت الصلات المباشرة بين الكتّاب العرب الذين يكتبون في (إسرائيل) والكتّاب الذين يكتبون في المنفى شبه معدومة لما يقرب من عشرين سنة. واختلفت الحياة، تحت الاحتلال الأجنبي في (إسرائيل) اختلافًا كبيرًا في بعض النواحي عنها في الأردن (الذي ضم الضفة الغربية وكانت تعيش فيه أغلبية فلسطينية) أو في الشتات في بقية البلاد العربية، حيث كانت تعيش أعداد كبيرة من الفلسطينيين المنفيين بصفة لاجئين. وقد كان معظم الدول العربية يعمد إلى وسائل القمع في معاملة الفلسطينيين رغم انشغال تلك الدول سياسيًا وعاطفيًا بالقضية الفلسطينية، وهو وضع خلق مشكلات كثيرة للفلسطينيين لم يسبق لها مثيل. لكن جناحي الثقافة الفلسطينية في أرض فلسطين نفسها عادا إلى الاتحاد بعد أن فتحت الحدود بين إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة بعد حرب سنة 1967، وتفهّم كلّ منهما تجربة الآخر تفهّمًا كاملًا، وتمثّلها كما لو كانت تجربته الخاصة.

لكن بقيت هناك بعض الاختلافات الثقافية، فالكتّاب العرب في (إسرائيل)، الذين ترعرعوا في ظل ثقافة غربية عن ثقافتهم وتعلّم أغلبهم اللغة العبرية لغة ثانية له، نشأت لديهم وجهة نظر ربما أثّرت على كتاباتهم، كذلك ينبغي أن نلاحظ أن عددًا كبيرًا من الأعمال الإبداعية العربية، والقصة منها بشكل خاص، قد ترجم إلى اللغة العبرية، وذلك بالرغم من الإجراءات القمعية التي كثيرًا ما فرضتها إسرائيل على الكتّاب الفلسطينيين، مثل ثمة انقطاع فعلي في التفاعل الأدبي بين الثقافتين: الثقافة العربية المتجذّرة في اللغة والتقاليد الموروثة، منذ أقدم الأزمنة، والثقافة الأخرى، التي تسعى بلغتها المجدّدة وبتجربتها الحديثة، (وهي تجربة تحقيق الذات التي ظلّ اليهود يطمحون إليها طوال قرون) إلى إيجاد معنى (بل إلى إيجاد تبرير في كثير من الأحيان) لهذه التجربة الجديدة المتمثّلة بسيادة قائمة على الفلسطينيين في الشتات اتصالًا مباشرًا بالتجارب الأدبية الجذرية التي هيمنت على الأدب العربي منذ الخمسينيات، وساهموا فيها مساهمة كاملة ومباشرة في فترة من أغنى فترات الأدب العربي، وما أن انتشروا في هذا العالم حتى أخذوا يتميّزون ويكتشفون إمكاناتهم الأدبية الكاملة، كما أخذ الشعراء الفلسطينيون المنفيّون يحتلّون مكان الصدارة بين الشعراء الطليعيين في العالم العربي.

غير أن الأدب الفلسطيني لم يتميّز تاريخيًا بأيّ من هذه الصفات الطليعيّة، وقد وصف كاتب حديث وضع هذا الأدب في أوائل القرن العشرين قائلًا: حتى مطلع القرن العشرين كان الشعر مقصورًا على الإخوانيات والمديح المفتعل والمناسبات الاجتماعية الخاصة، وكانت تتكرّر فيه المعاني المتوارثة، والتشبيهات والاستعارات المستسهلة، وتنعدم فيه الهموم الإنسانية، ويصدر عن فراغ نفسي وفكري. ينطبق هذا الوصف على جانب كبير من الشعر العربي قبل النهضة الأدبية العربية الحديثة، التي بدأت في القرن التاسع عشر ثم نضجت في بعض مناطق من العالم العربي قبل تطورها في مناطق أخرى. غير أن السببين اللذين أوردهما لهذا الجدب – وهما أن فلسطين بلد مقدّس وأنها تخلو من المناظر الطبيعية الجميلة – لا أساس لهما من الصحة. فليس هناك ما يجعل قداسة المكان حائلًا دون الإبداع، فالإبداع الذي لا ينقطع في مدينة النجف العراقية، أقدس المراكز الشيعية في العالم، دليل على ذلك. أما الجمال الطبيعي فالواقع يخالف قوله، إذ إن فلسطين غنية بالجمال الطبيعي في بحرها وجبالها وبحيرتها، ولكن حتى لو كانت دعوى الكاتب الصحيحة فإن بعضًا من أروع الشعر العربي قد ولد ونضج في بيئة صحراوية خالصة. لكن ربما كان السبب هو أن فلسطين ظلّت منقطعة عن التيارات الثقافية الرئيسية التي كانت تنساب ما بين مصر ولبنان، وما بين لبنان والعراق... ولم تكن القدس في يوم من الأيام مركزًا لأي سلطة سياسية مركزية، خلافًا لغيرها من العواصم العربية، ولم يكن فيها أمراء أو رعاة للفنون يساندون الشعراء والكتّاب ويشجعونهم. غير أن ثمة ظاهرة ثابتة جديرة بالملاحظة في تطوّر الأدب الفلسطيني الحديث، وهي أن معظم أصحاب المواهب من الفلسطينيين الذين اشتهروا، قبل عام 1948، عاشوا ودرسوا خارج فلسطين، فكل ما كانت تحتاجه قوة الإبداع الفلسطينية فيما يبدو هو الاتصال المباشر بالحياة الأدبية المزدهرة التي لم تكن قائمة في تلك الأيام إلاّ خارج حدودها.

وقد يفسّر هذا أيضًا ذلك التفاوت الراهن بين الأدب الفلسطيني الذي ما يزال يكتب داخل فلسطين، وذلك الذي يكتب في المنفى. ومما لا شك فيه، أن جزءًا غير قليل من الكتابة داخل إسرائيل وفي الضفة الغربية المحتلّة وقطاع غزة المحتلّ يتّصف بالقوة والإبداع، إذ اشتهر العديد من الكتّاب الموهوبين هناك واكتسب بعضهم بجدارة شهرة عالمية لما في أعمالهم من أصالة وقيمة جمالية عالية. ولكن كفّة ميزان الأدب الفلسطيني، الذي كُتب في المنفى ما تزال راجحة بشكل بيّن، وهذا يصح على الشعر والنثر معًا، رغم أن التجارب الكثيرة في حقل المسرح داخل فلسطين تنقذ الوضع إلى حدّ ما.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.