}

240 عامًا على ولادة واشنطن إيرفينغ: "القلم بيد همجيّ"!

سمير رمان سمير رمان 8 مايو 2023
استعادات 240 عامًا على ولادة واشنطن إيرفينغ: "القلم بيد همجيّ"!
واشنطن إيرفينغ (1783 ـ 1859) (Getty)

تصادف هذا العام ذكرى مرور 240 عامًا على ولادة الكاتب الكلاسيكي الأميركي واشنطن إيرفينغ/ Washington Irving (1783 ـ 1859).
تزامنت ولادة واشنطن إيرفينغ، الكاتب المستقبلي، مع اعتراف البريطانيين باستقلال مستعمرتهم السابقة في أميركا الشمالية، التي اتخذت لها اسمًا جديدًا: الولايات المتحدة الأميركية. وتعبيرًا عن فرحتها العارمة بهذه المناسبة، أطلقت الأم على وليدها الذي رأى النور لتوّه اسم واشنطن تيّمنًا بأول رئيسٍ للدولة الوليدة، الجنرال المنتصر جورج واشنطن، خاصّة أنّهم كانوا من سكان نيويورك نفسها. كانت العائلتان تعرفان بعضهما بعضًا بشكلٍ ما، الأمر الذي أكدته لوحةٌ لرسّام أميركي يظهر فيها الصبي ذو الست سنوات قرب الرئيس، الذي كان يمسح بحنوٍّ على رأسه.
كتب إيرفينغ كثيرًا، ولكن لا يخطر ببال أحدٍ اليوم أن يقرأ كتبه الضخمة من قبيل: "The Life of George Washington"، المكرّس بمجلداته الخمسة لحياة جورج واشنطن، أو كتابه الضخم الآخر: "رحلات واكتشافات رفاق كولومبوس/ Voyages and Discovers of the Companions Columbus".
ما يثير الاهتمام في أدب إيرفينغ أنّه كان أول كاتب أميركي ينال اعتراف أوروبا به، الأمر الذي حصل عن طريق المصادفة وحدها، إذ اعتقد الأوروبيون أنّ مؤلف قصة "ملك إكزيزوف"، التي نشرت تحت اسمٍ مستعار، في أثناء جولة إيرفينغ في أوروبا، تعود لكاتب إنكليزي. بطبيعة الحال، لم يكن يتصور أحدٌ في القارة العجوز وجود كتّابٍ في تلك البلاد البعيدة المتوحشة.
كتب إيرفينغ في مذكراته: "كان الجميع مندهشًا من رؤية أميركي يتحدث الإنكليزية بلغةٍ راقية. كان الأوروبيون يرون فيّ شيئًا جديدًا غريبًا في عالم الأدب، وبالأحرى كانوا يرون فيَّ رجلًا نصف متوحّش أمسك بيده القلم".
بشكلٍ أو آخر، كان ما حدث تدشينًا لحجر الأساس في الأدب الأميركي. في ما بعد، جاء الكاتب James Cooper/ جيمس فينيمور كوبر (1789 ـ 1851)، وتوماس ماين ريد/Thomas Mayen Reid، الذي بقي طيلة حياته مغمورًا في أميركا، وهنري لونغفيلو/ Henry Longfellow (1807 ـ 1882)، وEdgar Poe/ إدغار آلان بو (1807 ـ 1851).
قبل كتابه "ملك إكزيزوف"، كان إيرفينغ قد أصدر عام 1809 مجلدين بعنوان: "تاريخ نيويورك منذ خلق العالم حتى نهاية الإمبراطورية الهولندية"/ A History of New-York from the Beginning of the World to the End of the Dutch Dynasty، ولكنّ شهرة إيرفينغ جاءت بالتحديد بعد كتاب "ملك إكزيزوف". كثيرٌ من محتويات هذا الكتاب لا تشدّ انتباه القارئ إطلاقًا: الخواطر الفلسفية، وملاحظات عن الرحلات، لكنّ قصص "أسطورة سليبي هولو"/ Legend of Sleepy Hollow  (1819)، و"ريب فان فينكيل/Rip Van Winkle"، التي نشرت عام 1820 في كتابه "دفاتر جيفري كرايون"، فقد كانت أمرًا مختلفًا.
تمتزج أسطورة "هولو النائمة" بالفولكلور والمعتقدات الصوفية، التي سادت في ذلك الوقت، وتتم قراءتها بوضوحٍ شديد، يذكّر القارئ بـ"أمسيات في مزرعة بالقرب من ديكانكا"، وklutz Ripp van Winkle، الفتى سيء الحظّ، الذي قضى عشرين عامًا من عمره نائمًا. جاءت شخصية ريب فان فينكل نموذجًا للشخصية التي تناسب الأوقات والمراحل كافة، إذ تمكّن من النوم طيلة فترة الثورة وحرب الاستقلال، من دون أن يبدي أي انزعاجٍ بعد أن اكتشف وأدرك أنّه كان خارج الزمن كلّ تلك الفترة الطويلة، فتابع حياته ببساطةٍ كما كان يحياها في السابق. بعد كلّ هذا، كان فينكل يشعر بالرضى والمتعة وهو ينافش الأخبار في حانة القرية. وضعت الحرب أوزارها، فانتقل فينكل بسلاسةٍ من كونه أحد رعايا الملك جورج الثالث، ليصبح مواطنًا من مواطني الولايات المتحدة الأميركية، برئاسة الجنرال جورج واشنطن. كان يحمد الله على كلّ شيء، خاصةً على انتقال زوجته الطاغية إلى جوار ربّها، وعلى أنّ ابنته أحضرته إلى منزلها ليعيش في كنفها، وتتولى العناية به. كان من المهمّ بالنسبة له أن ينام في أثناء تلك المعارك المجيدة، وخلال الزلازل العظمى التي مرّ فيها العالم، وغمرته السعادة بالعودة إلى الحياة المعتادة، من دون أن يعاني من مشاعر الضيق والانزعاج.
رأى إيرفينغ نفسه كاتبًا رومانسيًا، وكان من دواعي سروره أن النقاد كانوا يطلقون عليه تلك الصفة. نجح الكاتب تمامًا في كتابة القصص القصيرة المعتمدة على المعتقدات السائدة، وعلى الأساطير والتقاليد المحلية. هكذا كان الأمر مع قصة "العريس ـ الشبح/ The Spectre Bridegroom"، التي كتبها في أثناء رحلته إلى أوروبا، وكذلك كان الأمر مع قصتي "البيت المسكون/The Haunted House" و"Dolph Heyliger"، اللتين كتبهما بتأثير أساطير القارة الأميركية.
تميّز إيرفينغ باعتناقه أفكارًا سياسية غريبة، وكان على معرفةٍ جيدة بتاريخ أميركا، بالإضافة إلى اطلاعه الواسع على تاريخ مدينة نيويورك، التي أطلق عيلها الهولنديون اسم "أمستردام الجديدة"، قبل أن تستولي القوات الإنكليزية على مانهاتن ومحيطها عام 1664. استمرت حرب الاستقلال أكثر من ثمانية أعوام (1775 ـ 1783)، توجت بإعلان استقلال الولايات المتحدة الأميركية عام 1783، وهو العام نفسه الذي ولد فيه إيرفينغ، الفخور دومًا بكونه أميركيًا (حتى أنّه أصبح سفيرًا للولايات المتحدة الأميركية لدى إسبانيا).




في عام 1824، أصدر إيرفينغ مجموعة قصصٍ قصيرة أسماها "حكايات المسافرين"، بطلها القبطان كيد، اللصّ المتميز، الذي استطاع انتزاع رخصةٍ من التاج البريطاني تتيح له القيام بأعمال القرصنة، أي أنّه كان، من الناحية القانونية (وفقًا لمفاهيم ذلك الوقت) يستولي على السفن الفرنسية، وينهبها بحماية القانون البريطاني. لم يكتف الكابتن كيد بسرقة السفن الفرنسية، بل قام أيضًا بسرقة سفن دولٍ أٌخرى، إن حدث وصادفها في عرض البحر. هنا كان خطأه، الذي جرّه إلى حبل المشنقة. تسبّب شنقه بإطلاق سيلٍ من الأساطير حول كنوزٍ عثر عليها على شواطئ أميركا الشمالية الشرقية. أمّا حقيقة تلك الكنوز فكانت في مكانٍ آخر: كان كثير من الناس يسعون ولسنواتٍ طويلة وراء تلك الكنوز. وحيث تطوف فانتازيا اللاهثين وراء الكنوز، تكون فانتازيا الكتّاب والأدباء كنوزًا، قراصنة، أشباحًا، وأيضًا حماة الكنوز، سفن أشباحٍ غامضة، كلّ هذا وصفه إيرفينغ في روايات: "Treasure Hunters"،"The Devil and Tom Yokep" ،"Pirate Kidd"، و"The Black Fisherman Incident". جاءت تفاصيل ذلك في كتب لإيرفينغ على لسان رجلٍ عاديّ كان قد نأى بنفسه بعيدًا عن حالات التغيّر وعن المآثر البطولية، ولكنّه يقوم، بإعادة سرد الشائعات على مسامع أحد الجيران.
في أثناء جولته في إسبانيا، كتب إيرفينغ المجموعة الثانية من قصصه بعنوان "Alhambra/ الحمراء". في هذه المجموعة، يبدو افتتان الكاتب بالنكهة الإسبانية، وبفولكلورها وأساطيرها، ولم يكن المكان قد أخذ حقّه بعد في الأدب الإسباني، إذ لم يكن في إسبانيا تلك الأيام، مع كلّ تاريخها الغنيّ وأدبها المميّز، كاتبٌ يكتب بأسلوبٍ رومانسيّ قصصًا وحكاياتٍ عن الخلفاء المسلمين من عربٍ ومغاربة، ولا عن الحكماء والأمراء، ولا عن المغاور المخيفة المسحورة. لا يجد المرء في الأدب الإسباني شيئًا عن الفاتحين العرب الذين استولوا تقريبًا على كامل شبه جزيرة البيرينيه، ولا يجد أيضًا إلا ما ندر حول إعادة هيمنة المسيحية على البلاد من جديد، وعن توحيد البلاد في دولةٍ واحدة. وهنا جاء الأميركي إيرفينغ ليكتب عن كلّ شيءٍ.
طرحت الشاعرة الروسية آنّا أخماتوفا فكرة تقول إنّ بوشكين نفسه قد استخدم، عند كتابته "حكاية الديك الذهبي"، الحبكة التي كان إيرفينغ قد سبقه إليها في كتابه "حكايات عن المنجّمين العرب". غير أنّ الشاعر الروسي العظيم قام بتبسيط الحبكة، من دون أن يمسّ شخصية الملكة شيماهان، بل أضاف إليها حكاياتٍ عن ابني (دادون) اللذين قضيا نحبهما في صراعٍ مميت للفوز بقلب الملكة.
تدور أحداث الروايات: The Pilgrim of Love/ "رحلة حجّ الحبّ"، و"أسطورة إرادة المستنقع/The Legend of the Will of the Moor"، وكذلك رواية "أسطورة الأميرات الثلاث/The Legend of the Three Beautiful Princesses"، وغيرها من قصص المجموعة حول أحداث إعادة استيلاء الممالك الإسبانية على أراضي خلافة غرناطة وخلافة الأندلس. في أثناء كتابته تلك الأساطير، يظهر الكاتب تعاطفًا واضحًا مع الفرسان والسحرة المغاربة، الذين استولى الإسبان على قلاعهم، وصادروا جميع ممتلكاتهم. حتى الآن، ما زالت هنالك أساطير حول الفرسان المسيحيين الذين اسرهم الجيش الموريتاني، والذين أطلق سراحهم بعد دفع فديةٍ ضخمة بعد أن أخذوا معهم أميرات من المسلمين.
كان إيرفينغ يعمل كثيرًا، فكتب بالإضافة إلى القصص التي كانت بالنسبة له على ما يبدو مجرد استراحة من روتين العمل اليومي. في الأعوام 1828 ـ 1831، كتب إيرفينغ سيرة كريستوفر كولومبوس في ثلاثة مجلدات، بالإضافة إلى "أخبار فتح غرناطة". بعدها، عاد إيرفينغ إلى أميركا، متوجًا بأكاليل الغار، كأول كاتبٍ اميركي يلقى القبول في أوروبا. بعد مرور عشر سنوات، يتوجه الكاتب إلى أوروبا من جديد، ولكن هذه المرّة سفيرًا للولايات المتحدة الأميركية في إسبانيا.
وفي عام 1846، عاد إلى نيويورك، بعد أن أصبح مشهورًا كأديب، وكرجل دولة. تلقى غير قليل من العروض للعمل ضمن الطاقم الحكومي، إلا أنّه اختار أن يكرّس بقية عمره للكتابة عن حياة الناس العظماء. في هذه الفترة كتب إيرفينغ كتابه:
"حياة النبي محمد وخلفائه"/ History of Mahomet and His Successors (1849)، وقام بترجمة العمل التاريخي للكاتب الإسباني مارتين فرنانديز دي نافاريتي: "مجموعة الأسفار والاكتشافات التي أنجزها الإسبان منذ نهاية القرن الخامس عشر". كما كتب وأصدر سيرة جورج واشنطن في خمسة مجلداتٍ كاملة. ولكنّ أفضل ما في أدب غيرفينغ كان نجاحه في كتابة رواياتٍ تشبه الخيال العلمي. يعتقد بعض علماء الأدب أنّ هذا النوع من الحكايات كان من اختراع إيرفينغ، الذي أسماها "Tales"، وهي ليست بالحكايات الخيالية الخالصة، ولكنّها قصصٌ يتداخل فيها الخيال مع وقائع الحياة العادية. في ما بعد، لجأ كتاب أميركيون آخرون: من بينهم إدغار آلان بو، وهيرمان ميلفيل، إلى استخدام هذا الأسلوب الأدبي.
أخيرًا، واعتبارًا من عام 1896، خلّدت السينما إيرفينغ في مجموعةٍ من الأفلام التي اعتمدت قصصه، وخاصةً رواية "ريب فان فينكل"، الذي نام لمدة عشرين عامًا، وانتهاءً بفيلم "الفارس مقطوع الرأس" عام 1934.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.