}

"عشبة ضارّة في الفردوس": أن نلوم الهوية على كسورها

فدوى العبود فدوى العبود 30 أكتوبر 2024
استعادات "عشبة ضارّة في الفردوس": أن نلوم الهوية على كسورها
هيثم حسين

 

كل سؤال حول الهوية يضمرُ نظرية في الحرية، إذ ندرك أن ما يتعذر لمسه وهو (هويتّنا) قادرٌ أن ينزع منّا ما هو متاح حريّتنا!

فهل نسأل عن الهويات القاتلة عند أمين معلوف، والذي أراد من الهوية أن تدمج في ذاتها كل مكوناتها! أم نبدأ من نقاط المقاومة وأشكال الإخفاق وما يستَتِرُ في الخطاب الثقافي للمهيمن عند هومي بابا والذي اختار أن يبحر بعيدًا في مقاومات الهوية فلم يعثر على ما يُرضيه!

وهل هو جدل السيد والعبد بالمعنى الهيغليّ: لتصبح سيِّدًا عليك ألا تهاب الموت الفيزيائي! أو بمعنى آخر، حين يتواجه وعيان فإنّ كلًا منهما ينظر للآخر عبر ذاته.  شخصيًا أميلُ للتفسير الأوّل، لأنه من جهة أولى يعني لي الكثير، ولأني وفقًا للمنطق الهيغلي ذاته: "أقدّر فهمي لهيغل أكثر مما يعنيني ما يريد أن يقوله هيغل!".

وما دمنا في سؤال الهوية فيجب أن نتحدث كما يجدر بالذين يَعونَ اختلافهم ويفهمونه، فهناك هويّات بعدد البشر. والعلاقات بينها لم تكن يومــًا على ما يرام. وإنّ الرفض قدر الإنسان، لكن طريقة استجابته لهذا القدر هو حرّيته؛ فالذنب الذي يقع على الذات ليس في كونها أداةً، بل في استساغتِها لهذا الدور، وفي هذا الإطار وما دمنا ندور في فلك الذات والآخر فحين نتخلى عن أنفسنا من نلوم؟

هذه وغيرها من الأسئلة لقى يعثر عليها قارئ رواية "عشبة ضارّة في الفردوس" للكاتب السوري هيثم حسين (*)، والذي يجد نفسه في ممرّات مدينة دائرية، يضيِّق فيها المؤلف العدسة ويوجّهها لكشفِ مناطق مختلفة من كسور الهوية وجراحها؛ وليتحرّى عبرها ومن خلالها معنى أن تكون حياتنا تراجيديّة بدون أن تنتهي لمصائر مأساوية، وقد تكون نغمة مستمرة في المعزوفة ولا ضرورة لأن تكون الفصل الختاميّ في مسرحيّة حياتنا.

"لا أريد أن ينتشلني أحدٌ من غرقي"- هذا هو الصوت الذي نسمعه في أوّل السطور، إنه صوت هادئٌ وحانقٌ في ذات الوقت، إذ تحذّرنا الساردة من أنها لن تتجاوز صلاحيّات السارد العليم فحسب؛ بل ستملأ فجوات الحكايات، وهي تفعل ذلك مباغِتةً شخصيّاتها من فوق ومن تحت وفي الأعماق.

وهي إذ تستمد نفوذها من المؤلف الذي بدا مساندًا لها متخفيًّا في نبرتها، وهي تخبرنا عن العسف الذي لحق بها إذ عاشت حياتها شبه بكماء فصوتها "يجرح أسماع الآخرين ويخدش طبلات آذانهم ويثقبها".

لكن من هم الآخرون. الذين يجرحهم صوت شبه منسيٍّ وملغيّ، صوت ممنوع من الغناء ومن التعبير، هذا إذا نظرنا للحقبة الزمنية التي ترصدها الرواية وهي فترة الثمانينيات، وبالعودة لمن يزعجهم سماع صوتها المختلف يحيلنا النص إلى المساعد أول ومن على شاكلته، والذي ترقى عبر قيامه بسلسلة من الاغتيالات، لكن أوراقه السريّة ومذكرّاته تكشف عما هو أفظع، عن خطته التي تمرّرها لنا الساردة وهي ترافق والدتها إلى منزل زوجته. إن العلاقة بينه وبين ساكني المكان وهو الغريب عنهم، علاقة ارتياب وشكٍّ ورفض، بل إنّه يصاب بالهلع حين عرف "أن الناس اندمجوا مع الموسيقى لسابق معرفتهم بأنها موسيقى نشيدهم الكردي".

وفي الفصل المعنون "الخنجر"، يحدّد الرجل الذي يستثمر في أرض خصبة، الدرب المتوقع من ضحاياه أن يسلكوه، ويضع خطّته الممنهجة لمحو هويّة المكان وساكنيه؛ عبر قائمة بما يجب فعله لتركهم أسرى هوية تائهة، ولتعزيز الشعور لديهم أنهم تابعون ويبذل جهده- وهذا ضمن مذكراته- لتعميم الهوية الضبابيّة فيمتدّ للغة؛ وهو على وعي أن خطورة القضاء عليها تعادل القضاء على الإنسان ذاته؛ أو بتعبير أمين معلوف "لا يوجد ما هو أخطر من السعي إلى قطع الحبل السرّي الذي يربط الإنسان بلغته، عندما ينقطع أو يضطّرب بشدّة فينعكس ذلك بشكل مدمّر على شخصيّته".

وفي هذا الفضاء المسموم، يسخِّر الرجل الدين كهوية بديلة من خلال اتخاذ الإسلام وسيلة للتعريب وعبر "التأكيد على أن لغة أهل الجنّة هي العربية"؛ كما يكتب في مذكرّاته: وبذا يجب أن تركّز المساعي على خلقِ فجوة بين الكردي وتاريخه من جهة، وفجوة أكبر بينه وبين واقعه ومستقبله من جهة أخرى".


لكن ما الذي سنفعله نحن؟ تسأل الساردة شخصّياتها وأبطال حكايتها. ستكون الإجابة بصوت واحد: سنعيدُ عيوبنا التي يراها الآخر فينا والتي يتوقعها منا.

وهنا نلتقي وعلى طول الخط بالكثير من الشخصيّات، بعضها يعاني من التشوّه الجسدي (العمى أو العرج أو البَلَه)، وتبرز شخصية موروي الأعمى أو زوجته التي يلقبها الناس بالعرجاء. وضمن هذا الحيّز تتحرك الشخصّيات في المكان الذي تطلُّ أبوابه على ساحةٍ صغيرة، وبعدها ممرّات طويلة وقد لقبّت بالمغارة "وكنت أسمّيها منارة الخراب".

وهي إذ تحاول تخطّي أقدارها لكنها تمشي بأقدام ثقبّتها المسامير؛ وذوات فقدت أرواحها في فضاء سلطويّ وغير سوي؛ فتصبح كمرآة مضاعفة للعسف السياسيّ من خلال المحو وممارسة صنوف العنف الثقافي والإقصاء الجماعيّ. إذ وبمجرد ارتكاب فرد من فئة معينة لجناية، قد يجرّ معها العقاب على الجماعة كلها، باعتبارهم نوعًا يسهل ضرب بنائه الاجتماعي. كما إن جزءًا كبيرًا من الأزمة يتعلق بالسياسة وقسم آخر منها يتعلق بالأفراد وحسب قول الساردة "هذا شعب ينظر أفراده بعضهم إلى بعض بعين العداء، يحترفون النيل من أنفسهم، ويجيد الواحد منهم الفتك بالآخر"، وكل هذا يضعنا أمام عنف مركّب تعيد الشخصيّات إنتاجه في علاقاتها، فلا نخرج عن توقعات الآخر ومراميه وما يريده منها. وبمعنى آخر، ماذا لو كنا مسؤولين في عمّا آلت إليه حالنا؟

كيف نفسّر انتهازية بريندار الذي تسير حياته وهو يضع يده في يد المساعد أول وفق مبدأ "اضرب واهرب" والذي استيقظ لحظة تعذيبه وهناك "فتحوا عينيه على حقيقة هويته ووجوده". وحين هاجر إلى دولة أوروبية "أصبح كائنا بوليسيًّا بدون أن يدري، ينظر إلى الأمور من معيار الأمن والتآمر". والنسناس الذي يتنصّت في البريد على الرسائل، والذي احترف تهديد الفتيات وأخذ ينصب لهنّ الكمائن في الطرقات، إذ يحدّد أهدافه ويشتغل عليها ليقوم بعد ذلك بابتزازهن جنسيًّا وماديًّا، أما محجوب الذي يكتب التقارير فإنه "يشي بنفسه إن لم يجد من يشي به".

يا لها من دائرة تلك التي وضعنا سؤال الهوية فيها.

ثم ماذا عن العنف، الذي مورس على ابن "كلوكي" التي يلقبونها العرجاء، لاتهامه بعرضه. ألم يكن أقسى أنواعه! "تصوروا أنهم اتهموا العرجاء المسكينة المغلوبة على أمرها بأنها قحبة، اللعنة عليهم، حارة القذارات".

ليست الصورة النمطية التي استثمر فيها المساعد أول الذي راح يصف في مذكراته ملامح الشخصيّة الكردية (كالعناد، والاندفاع، والشعور بالاضطهاد) وكأنها قدرها الكامن في جيناتها. أقول: ليست هذه السمات هي ما يحدّد الشخصيات، لأنها لم تكن سوى تصور هذه الشخصية السلطوية وأفكارها عن المكان وساكنيه. لكن سؤال النص هو هذا بالذات: ما الذي نفعله لكي نفلت من توقعات الآخرين؟ للأسف لم تتحرّر الشخصيات من هذه النظرة، بل نراها تفعل ما يتوقع منها بالضبط؟ فأعطت الآخر مفاتيحها وحبست نفسها في متاهة تنغلق عليها.

وما يمكن العثور عليه هنا ليس سؤال أقليّة أو أكثرية، بل فاتورة حساب وطلب توضيحات تنطبق على كل ذات وكل هويّة فردية كانت أو جمعيّة، ورغم تشابك العلاقات فأيّ منها لم يكن سوى مبادلات ذواتٍ محطمة تعيش في فردوس خَرِبٍ ومدمّر، كل فرد فيه يرى الآخر عشبة سامّة!

هل هي رواية ذوات مغتربة، أم ذوات مهمّشة، أم ذوات تنازلت عن حريتّها فخسرت وجودها! إنّها كلُّ هذا ونقيضه. لأن أكثر ما يضرّ بالهوية هو ثباتها، فهي في جوهرها تغير وصيرورة وانفتاح، فالتبلور سمة للأشياء و"للوجود في ذاته" بالمعنى السارتري، والجمود للحجر أما الإنسان فهو شأن آخر!

وفي هذا الخصوص، نعثر في قلب سؤال الهوية على الحمض النووي للحرية. ماذا نكون وكيف نعيش وجودنا الشخصيّ، إنه سؤال موجه للشخصّيات وهو يُضمِرُ إجابةً مغزاها: إننا حتى في عزّ معاناتنا نستطيع أن نقرّر أن نكون فاعلًا في الوجود أو مفعولًا به!

وبحسب الفهم الوجوديّ نولد ثم نختار! وما دامت العلاقات الإنسانية قائمة على لصين ينهبان من بعضهما جنسًّا أو مالًا أو وشاية أو معلومةً أو حتى سر، فلن يتاح للهوية أن تتقدّم خطوة. وستبقى في إطار ما يُراد لها وكأنّ النصّ يقول: لن يستطيعَ الآخرُ إقصاءكَ إن لم تُقصِ ذاتك.

 

(*) هيثم، حسين: عشبة ضارّة في الفردوس. الطبعة الأولى. تونس: مسكيلياني للنشر والتوزيع، 2017. 226 صفحة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.