وشهد مخيما صبرا وشاتيلا في 16 أيلول/سبتمبر 1982 مذبحتين مروعتين، قام بهما حزب الكتائب اللبناني، بإسناد من جيش الاحتلال الصهيوني. وراح ضحيتهما مئات القتلى، منهم العديد من الأشخاص الذين قابلهم المخرج أثناء تصوير الفيلم.
عاد المخرج للعمل في الفيلم في عام 1986، وأعاد صياغة المشاهد وجمعها وقدمها في الشريط السينمائي الذي حمل اسم "المنام".
عزَّزه بعد سنوات بكتاب، نشرته دار الآداب عام 1991، حمل أيضًا اسم "المنام"، وثَّق فيه العالم الذي لم تنقله الصورة في الفيلم.
ذهب المخرج محمد ملص مع المصورين حازم بياعة وحنا ورد والمخرج عمر أميرالاي بوصفه مديرًا للإنتاج، إلى شخصيات فيلمه في بيوتهم وخنادق دفاعهم وأماكن عملهم، برغبة منه بالغوص في الصورة الواقعية ورصد تفاصيلها الدقيقة، وتحريرها من زيف المشهدية المصطنعة بالديكورات المبهرة.
تمكن من بناء ثقة أصيلة مع الناس، ساهمت في تحفيزهم على رواية أحلامهم محررًا ألسنتهم، التي استعادوا بها أبناءهم القتلى وأرضهم المحتلة ولقاءهم بقياداتهم الوطنية من أمثال جمال عبد الناصر وياسر عرفات، كأنّا بهم يطلبون حمايتهم. لم يسعَ لسرد قضية الشعب الفلسطيني في نكباته المتتالية، اعتمد على الحاضر المشبع بالدلالات، كمنصة لاستعادة الماضي واستشراف المستقبل.
كان حذرًا من إحراج شخصيات فيلمه، بتجنبه أسئلة الباحث الفضولي، المنشغل بملء جداول استمارات إحصائية. منحهم فسحة للكلام الحر، لا يمكن أن تتحقق إلا بجدل ضفائر الثقة والطمأنينة، إذ لا أحد يتحدث عن أحلامه إلا أمام أهل الثقة.
هذا ما مكَّنه من تصوير انكسار المرأة العاجزة ماليًا، والمرتبكة أمام تلبية طلب أطفالها بشراء البطيخ، وتغلبها على عجزها بتذكر أرض أسرتها في فلسطين، وكيف كان أبوها يزرعها بأنواع متنوعة من الخضراوات ومنها البطيخ، التي كانت تمنحهم الكفاية والشبع.
أكد المخرج على الحرية التي هي توأم التحرير، بل إنها بوابة الوصول إليه. تصر الشابة، التي اعتُقلت لأن العسكري الصهيوني شاهدها تقبِّل طفلًا من أشبال الثورة، على رفض الركوع امتثالًا لطلبه.
المعلمة التي حلمت بالانقلاب واحتلال مبنى المخابرات، وكتابة لافتة كبيرة تعلن فيها عن سبب الانقلاب "من أجل الديمقراطية"، لكنها تفشل بعد أن وصلت إلى الإذاعة، في نطق هذه الكلمات الثلاث، حتى الحلم لم يستجب لرغبة إعلانها عن مطلبها.
كذلك الصياد الذي اعتُقل في سجن أحد البلدان العربية، ليعود بعد إطلاق سراحه ليجد زورقه محطمًا، كأنه بذلك استعاد حريته لكنه خسر عمله، وباب رزقه.
حلم الأرض المفقودة ملازم لسينما محمد ملص، محمولًا دومًا بآلام الحنين والعجز عن الاستعادة إلا بتدفقات الخيال. هو المهجَّر من القنيطرة إلى دمشق، المدينة التي لم يتوقف عن استعادتها في جميع أفلامه القصيرة، والروائية، وهو الذي فقد أباه بعمر مبكر، يتكئ على المرأة- الأم، يستمد منها قوة التمسك بالحياة وخصوبة الصورة، والكفاح من أجل حياة جديدة.
لم يتبنَّ مرافعة مضادة للعنصرية، التي يواجه بها الفلسطينيون في لبنان، ساقها في كلام امرأة حلمت بأنها تسافر إلى فلسطين مصطحبة جاراتها اللبنانيات، لتشير لهن بذراعها: انظرن هذه الأرض الخضراء الممتدة هي أرضنا، وفي تلك القرى بيوتنا وبيوت آبائنا وأجدادنا.
كما منح فسحة للغة الآتية من الواقع الحقيقي، للشابة التي قضت عمرها في الكفاح العسكري وفي المنظمات الاجتماعية، تقف بثوبها المنزلي خلف وعاء الغسيل، لتتحدث عن أسرتها المنهكة بالموت ورجالها الأحياء يعملون في عدة بلدان عربية، وتفصح عن رغبتها بالهجرة إلى أي مكان، كأنها بهذا تطوي سجل انكسار ثوري غير قابل للمساءلة أو الإصلاح، لتكمل ما تبقى من حياتها بأي مكان آمن على هذه الأرض.
اعتمد محمد ملص في تجربته السينمائية الطويلة على التاريخ الموازي المؤسس على الذاكرتين الفردية والجماعية والثقافة الشفهية بمواجهة مع التاريخ السلطوي. مبتعدًا عن الخطابية الشعبوية، مستعينًا بلغة الأحلام، علَّها تساهم في تحريرها من سلطوية اللغة التلقينية وديماغوجيتها، التي اعتاد الناس تكرارها، من أطفال الروضة إلى أساتذة الجامعات، متماهين بدون تبصر ونقدية بأداة قمعية لا تقبل عنها لغة بديلة أو موازية.
تتحدث لا لتقول بل لتضبط الكلمات وتفسيرها الأحادي، عكست أينما سُمعت جفاف اللغة وجدبها، على نقيض لغة الحلم الحرة المتدفقة الخلاقة. استبدلها محمد ملص باللغة الآتية من الأحلام، علَّه بذلك يعفيها من المساءلة والعقاب، باعتمادها وسيلة تعبير عن القناعات المحجوبة.
الأمر الذي عكس عمق التزامه التحرري، وعزمه على الذهاب بعيدًا في الكلام وما يقابله في الصورة والمؤثرات الصوتية، التي استدعت الأغاني الشعبية الفلسطينية، وأغنية الذكريات التي كانت بمنزلة تحية ومرثية الفنان مرسيل خليفة للشهيد كمال جنبلاط وما يمثل تغييبه بالاغتيال عن قيادة الحركة الوطنية اللبنانية، وصوت محمود درويش يقرأ قصيدة أحمد الزعتر، كمرثية لشهداء مخيم تل الزعتر، الذي تنتسب إليه العديد من شخصيات الفيلم، الذين تمكنوا من النجاة تاركين خلفهم جثث إخوتهم وآبائهم.
وسورة يوسف من القرآن الكريم، التي تدخل الفيلم بأكثر من مشهد، لتقول بآيات وجيزة واقع نكران الأخوة لأخيهم. تسللت بينهم مشاهد تقول بدون أن تتحدث، المشهد الذي يتناوب الحديث فيه رجل وامرأة عن أحلامهما، وهما يقفان أمام آلة صنع الجزمات العسكرية، ومشهد شحذ السكين في المسلخ ورؤوس الثيران المقطوعة التي تنقلها الخطافات، ومشهد برادات الموتى، وشطف المشرحة بالمياه لإزالة آثار الدماء والجريمة، والمطبعة التي لا تتوقف عن طبع صور الشهداء، والمقبرة التي اختنقت أرضها بمئات القبور.
علم المخرج جيدًا أنه من العبث دفع الناس إلى الحديث عن انتصارات، بأذرعهم المقطوعة وعيونهم المفقوءة، وأصدقائهم الذين فقدوهم في ريعان شبابهم، والعائلات المتروكة بعد أن فقدت معيلها.
حرص على إظهار شخصياته كرماء ومضيافين رغم الفاقة، ونظيفين رغم الشوارع الضيقة الملوثة بمياه الصرف الصحي، وأغنوا عوالمهم الشاحبة بأصص الزهور وشتلات الحبق.
وأنهى فيلمه بمشهد رجل يستعد للنوم، تحدث بضع كلمات عن حياته اليومية، وهو يتدثر بالغطاء، بكونها انتقالًا لبضعة أمتار من البيت إلى الدكان، ومن ثم العودة إلى البيت. لكنه الآن يستعد للنوم، أي يتهيأ لحلم جديد.
باختصار وضعنا فيلم "المنام"، وجهًا لوجه أمام سيرة شعب، لم تتوقف عن أكله الذئاب وحماته متغافلون.