بعد ذلك اللقاء، كنت أحرص في كل زيارة أؤدّيها إلى تونس على لقاء رضا الجلالي إلاّ أن ذلك لم يتمّ إلا في مرات نادرة وسريعة. أما الأخبار التي كان ينقلها لي أصدقاؤه فكانت تشير إلى أنه يعيش حياة مضطربة، وأنه لا يستقرّ على حال، وأنه يتعمّد تدمير جسده بشرب الكحول القوية بحيث يظلّ غائبًا عن الوعي ليوم أو يومين. وقد دأب على ذلك الانتحار البطيء إلى أن توفي في السابع عشر من شهر كانون الثاني/ يناير 2000 وكان آنذاك في التاسعة والثلاثين من عمره. وهكذا التحق بكوكبة من المبدعين التونسيين الذين احترقوا وهم في عزّ الشباب والعطاء مثل أبي القاسم الشابي، ومحمد العريبي، وعلي الدوعاجي، والحبيب المسروقي، وآخرين...
والحقيقة أن الظروف توفرت لرضا الجلالي لكي يُجنّب نفسه تلك النهاية المأساوية. فقد عمل في التعليم، وفي وزارة الثقافة. كما أنه عمل صحافيًا في جريدة "الشروق" الواسعة الانتشار. وكل هذه الوظائف كان يمكن أن تؤمّن له حياة مُريحة ومستقرة، خالية من المنغّصات والمتاعب المادية. إلاّ أنه لم يكن يشعر بالأمان والطمأنينة في جميع هذه الوظائف مُعتقدًا أنها قد تفسد موهبته، وتحبسه في أقفاصها فلا يتمكن من ان يُحلق بخياله بعيدا ليكون في النهاية شاعرًا فاشلًا مثل أولئك الشعراء الرسميين المُهذبين الذين كان يحتقرهم، وينفر منهم. لذا اختار عن طواعية حياة التشرد والصعلكة، زاجًّا بنفسه في جحيم العدمية القاتلة. وفي نصّ السيرة الذي تركه بخط يده، وعنونه بـ"سيرة بغل"، هو يتشبه بـ"قُعيْس" الذي ضربت به العربُ المثل في من ينزل إلى أقصى درجات المهانة والمذلة والاحتقار. وتقول كتب التراث إن قُعيْس رجل جاهلي كان قد حنّ إلى طلعة عمّته العجوز التي يُحبها فقرر زيارتها مُتحملًا عناء السفر في الصحراء. لكن بعد السهرة، فضّلت العمّة النوم مع كلبها داخل الخيمة، تاركة قُعيْس في العراء ليهلك بردًا. وفي السيرة يسرد رضا الجلالي الخيبات المرة التي تجرّعها. فالناشرون يرفضون نشر قصائده، بل يسخرون منها. والمشهد الثقافي في تونس موسوم بالزيف والكذب والحسد والانتهازية والنميمة المُغْرضة، وفيه تكاد تكون الصداقة مُنعدمة. وفيه الشعراء على استعداد دائم لبيع ضمائرهم بأبخس الأثمان مقابل الحصول على وظيفة أو على جائزة... وكلهم "مُعاقون إعاقة جسدية أو نفسية. فمن الأقرع إلى الأعور والأطرش والأعرج والأعمى". ومنهم "الشاب المغرور والشيخ المتصابي وخريج مستشفى الأمراض النفسية والعقلية والمهووس جنسيًا"... أمّا الشاعرات اللاتي تعرّفَ عليهنّ، فنازحات مثله، و"مطلقات وقبيحات". لذلك يطرح رضا الجلالي السؤال التالي: "فهل صار الشعر والأدب ملجأ الشواذّ والمعاقين والمعاقات". ثم يضيف قائلًا: "لقد قال العرب سابقًا: "الشعر ديوان العرب". لكني أقول اليوم: "الفن والأدب عند العرب... ديوان الكذب". وقد حاول رضا الجلالي أن يعيش قصة حب تلهمه وتسمح لخياله بالتحليق بعيدًا إلاّ أن الصدمات تتابعت لتزيده نفورًا من المدينة. فكل فتاة جميلة يقترب منها ليبوح لها بحبه تفرّ منه فرارها من الشيطان حالما تعلم أنه شاعر، وأن محفظته الجلدية لا تحتوي على أوراق نقدية بل على قصائد اجترحها من سُهاد لياليه، وعذابات نهاره... وكل هذه الخيبات دفعته إلى اختيار العيش مشردًا بهيئة مُتسوّل ينام في أماكن سيئة، وفي البيوت المهجورة، وفي حضائر البناء "صحبة القطط الشريدة وكلاب المدينة المريضة المهزومة التي لا تقدر على النباح والعراك". ومرة قال لصديق مُشرد مثله كان معه في واحدة من هذه الحضائر: "صديقي... لقد انتحر في ظرف خمس سنوات شاعران وجنّ كثيرون... فما رأيك لو نموت"؟ فأجابه الصديق ضاحكًا بمرارة: "ننتحر لنموت؟ ومتى عشنا حتى نموت؟". ومخاطبًا أصدقاءه المزيفين، يكتب رضا الجلالي قائلًا: "مثل كبير الفيلة/ حينما أهرمُ/ سألمّ قمامات عمري/ وأمضي إلى غابة مُهملة/ ثم أموت/ فاستريحوا إذن/ يا أصدقائي القتلة"... ويحلو لرضا الجلالي أن يتشبّه بقط مُشرد مثله، ويكتب قائلًا: "أيها المشردُ يُطاردك السكارى آخر الليل/ وينتظرك البرد تحت الجدار/ تعال إلى حضني/ فأنا مثلك تلتهمني الأزقّة والأرصفة/ لا بلاد اتسعت لخطاي/ ولا حبيب لي ولا بيت ولا موقد نار".
وفي أثناء تشرده في شوارع المدينة الكبيرة، يتذكر رضا الجلالي أهل مرو الذين يتحدث عنهم الجاحظ في "البخلاء" قائلًا بأن الأحذية تصلح عندهم وحدهم ستة أشهر بدل ثلاثة مثلما هي الحال عند أهل عصرهم. والسرّ في ذلك أنه كانوا لشدة بخلهم يمشون ثلاثة أشهر على كعوب أرجلهم، وثلاثة أخرى على مُقدّمات الأرجل. وهكذا فإن الحذاء لا يبيد إلاّ بعد ستة أشهر جزءًا فجزءًا. ومُتشبّهًا بأهل مرو، يكتب رضا الجلالي في "سيرة بغل": "طبّقت هذه القاعدة، فكنت أمشي على أصابع رجلي أيامًا مديدة وأيامًا أخرى على كعبيّ متحمّلًا في أحيان كثيرة سخرية الصبيان وعبثهم بي ظانين أني معتوه فكانوا يتحلقون حولي صائحين، ويرجمونني بالحجارة، وينخسونني مستعملين شتى أنواع العصيّ المختلفة الأحجام والأشكال".
وهناك سبب آخر دفع رضا الجلالي إلى أن يعيش حياته كمأساة يومية في العقدين الأخيرين من حياته، أعني بذلك الاصطدام المرعب بالمدينة التي هي العاصمة. ولعل ذلك يعود إلى أنه جاء إليها هاربًا من ريف الجنوب القاسي آملًا أن يجد فيها ما يُلبي طموحاته، ويحقق أحلامه. إلاّ أنه سرعان ما عاين أنها "مدينة بلا قلب"، تطحن الكائنات الحالمة والهشّة، وتقسو عليها لتدفع بها أحيانًا إلى الجنون أو إلى الانتحار البطيء. ويمكن القول إن قصيدة: "فلامنكو تونس 1992" هي التي تُعبّر أكثر من غيرها عن إحباطات رضا الجلالي. فالمدينة هنا هي المعشوقة التي يتلهف الشاعر للقائها. وها هو "يرمي قلبه حصاة على شرفتها" لكنها "لم ترد". وهكذا تركته وحيدًا "مُفردًا في حاناتها يُلفّقُ باستمرار عيشه بمزيد من إتلاف الكبد". وهو سمّاها مرة "بوصلة الخليقة": وظل ينتظرها "سنوات من رمل الصحاري" لكنها "لم تعد" ليجد نفسه يتيمًا وطفلًا "لو يولد أو يلد". ويومًا بعد آخر يزداد وضعه تعاسة وشقاء: "أستجدي النوم في الفنادق كي أسألها: كيف أنام وروحي بيوت واسعة مجانًا/ تسكنها كل الخطايا التي لم يرتكبها أحد؟؟/ أفتش عني في الزوايا/ في المنعطفات/ في مواخير المدن العتيقة/ في حقائب العابرات/ في جيوب المتسولين في المحطات لم يجدني أحد".
ومُشردًا يجوب الشاعر الشقي شوارع المدينة مُبعثرًا عمره كـ"الدراهم على طاولات المقاهي". ومع أنها تُجافيه وتقسو عليه، فإن رضا الجلالي يكتب في آخر قصيدته: "تونس روحي بل أنا روحها/ لذا سأظل هنا / بعد أن أتلف هذا الجسد". وعندما يحتدّ شعوره بالغربة، يصبح الوطن بأسره ضيّقًا مثل زنزانة أو قفص: "كم ذرة رمل/ كم صخرة/ كم شجرة لتكون لك بلاد؟/ أيها الطفل المسنّ/ تشقق فخار البدن/ ولا غزالة لك في هذه الصحاري الغامضة/ ولا دليل/ لاهثًا مثل كلب الغجر/ ترعى غيْمًا ضليل". وحين يشعر أن الخلاص من مصيره المأساوي بات صعبًا، بل مستحيلًا، يتضرع رضا الجلالي إلى الله قائلًا: "يا حبيبي... يا الله/ لأيّ حكمة خلقت النجم والزهر والفراش والعصفور يطير/ وجعلتني ابنك الشاعر أسيرًا/ على رجلين أسير/ يا حبيبي/ لأيّ حكمة خلقت الشعراء طيورًا لا تطير؟".
قبل موته بسنة واحدة، كتب رضا الجلالي قصيدة عمودية قصيرة تعكس رغبته في الرحيل عن الدنيا بعد أن انطفأت كل الآمال وكل الأحلام فبات وحيدًا غريبًا بلا صديق وبلا سند: "أنا أعجوبة فوق التراب/ أنا وجع ترونه في ثياب/ إذا بكت النساء على فقيد/ حسدتّ فقيدهن على المُصاب/ وقلت لقد أضاع الموت حقي/ فحتى الموت حاد عن الصواب/ يُعاديني الزمان ولستُ أدري/ أيحسدني على عيش الكلاب؟/ وينتعش الغريمُ إذ رآني/ غريقًا في دموعي وانتحابي/ سؤال الناس عن حالي عناد/ أليس الحال تُغني عن جوابي؟/ أطمئنهم على حالي بقولي/ ستُفرجُ إن بدا شيْبُ الغراب"...
ولعلّ رضا الجلالي كان يتمنى أن يتمّ الاعتراف بموهبته بعد وفاته مثلما حدث مع شعراء ومبدعين آخرين من أمثال أبي القاسم الشابي، وعلي الدوعاجي، ومحمد العريبي، ومنور صمادح، إلا أنه حُرم من هذا أيضًا. والآن وقد مضى على رحيله ما يقارب ربع قرن، لم تقم وزارة الثقافة، ولا أيّ مؤسسة تابعة لها، بإصدار آثاره الشعرية وسيرته الذاتية. كما أن النقاد المهتمين بالشعر التونسي المعاصر لا يذكرونه إلاّ في ما ندر. حتى الأصدقاء الذين كانوا يتظاهرون له بالوفاء والمودة نسوه تمامًا وكأنه لم يعش بينهم ولم يقاسمهم الحلو والمر. لذلك يمكن القول إن مصير رضا الجلالي كان مأساويًا في الحياة وبعد الممات.