}

"ماما روما": إحساس الأمومة والواقع البليد

أحمد طمليه 24 نوفمبر 2024
استعادات "ماما روما": إحساس الأمومة والواقع البليد
ينتهي الفيلم بمشهد الابن مصلوبًا على سريره بدون حراك
من ضمن آلاف الأفلام السينمائيّة الروائيّة الطويلة على مستوى العالم، هناك عدد محدود جدًا من الأفلام شكّلت علامات فارقة في تاريخ السينما العالميّة، ولا يمكن تجاهلها، أو عدم الإشارة إليها، فما زالت محطّ اهتمام النقّاد، وتُدرج ضمن برنامج العروض في النوادي السينمائيّة المتخصّصة، وتلقى قبولًا ومتابعة من المشاهدين، منها الفيلم الإيطاليّ "ماما روما" للمخرج بيير باولو بازوليني Paolo Pasolini (1922-1975) ويعدّ ظاهرة ثقافيّة استثنائيّة إذ تميّز في عدّة مجالات، منها اللغة، والفلسفة، وأظهر في هذه المجالات براعة استثنائيّة مما جعله شخصيّة مثيرة للجدل، وحصدت أفلامه جوائز بعدّة مهرجانات سينمائيّة منها: مهرجان كان ومهرجان برلين السينمائيّ ومهرجان فينيسيا السينمائيّ.
ولعلّ أهمّ ما يميّز هذا المخرج أنّه صاحب فكر يساريّ قبل أن يكون مخرجًا سينمائيًا، وبالتالي فإنّ أعماله لا تخلو من وجهة نظر سياسيّة، تسبّبت في إثارة المحافظين والمتشدّدين، خاصّة أنّها قابلة للتأويل، ومن الصعب حسمها كما بدت على الشاشة، ولا أستبعد أن يكون هذا السبب الذي أدّى إلى قتله، فقد مات هذا المخرج مقتولًا لأسباب قيل إنّها مجهولة.
يأخذنا بازوليني في فيلمه "ماما روما" إلى ضواحي مدينة روما، ليرصد لنا واحدة من أعمق القصص التي تناولت إحساس الأمومة حين يصطدم بواقع بليد، وقد اختار المخرج أن يضع الأمّ التي يسمّيها الجميع "ماما روما" لحيويّتها المتدفّقة (قامت بدورها الفنّانة المتألّقة آنا مانياني) في حضيض الرذيلة، وذلك حين قدّمها غانية تعمل ليلًا في شوارع روما تبيع المتع للمترفين، غير أنّ هذا التقديم جاء كخلفيّة للفيلم، حيث لم يتوقّف المخرج أمام حياة الليل، فمن أوّل مشهد يقدّم لنا "ماما روما" وهي تشارك في حفل زفاف الرجل الذي كان يدير أعمالها كغانية.
تبدأ أحداث الفيلم بعد حفلة الزواج تلك، حيث أصبح لدى ماما روما ابن في سنّ المراهقة، وكلّ حلم الأمّ أن يعيش ابنها حياة صحّيّة نظيفة، بعيدة عن حياة الليل والحضيض والرذيلة. تتمنّى أن يكسب ابنها أجره من عرق جبينه لعلّ ذلك يغفر لها إحساسها بالذنب إزاء الحياة التي غاصت بها في زهرة شبابها.




هذه هي حبكة الفيلم: الأمّ تكسب عيشها من بيع الخضار على عربة متنقّلة تجول بها الشوارع، والابن المراهق إيتوري يقضي أوقاته في الحواري، بينما تسود وجهه ملامح محايدة حتى إنّك لا تعرف ما الذي يدور برأسه بالضبط، غير أنّ له حضورًا خفيًا يجعله قياديًا بين رفاقه، فهو الذي يمشي في مقدّمتهم، ويختال في الشوارع، وهو الوحيد من بينهم الذي تمكّن من إغواء إحدى الفتيات الفقيرات في الحيّ وممارسة الجنس معها.
تُصدم الأمّ عندما تعرف بعلاقة ابنها مع تلك الفتاة، فها هو الابن قد كبر وأصبح يبحث عن امرأة، والله يعلم عن ماذا سوف يبحث فيما بعد، فتشتري له درّاجة ناريّة، وتطلب من إحدى المومسات، وهي صديقة لها، أن تحاول إغواء ابنها لينسى حبّ تلك الفتاة، خاصّة أنّه بدا متيّمًا بها وصار يطلب من أمّه المزيد من النقود ليشتري لها الهدايا.
تواصل الأمّ قلقها على الابن الذي بدأت عيناه تتفتّح على الحياة، فتقرّر أن تجد له عملًا شريفًا يكسب منه رزقه، وبالفعل تتمكّن من إيجاد فرصة عمل له كنادل في مطعم الحيّ بعد أن قامت بابتزاز صاحب المطعم وتهديده بالفضيحة بالتعاون مع مومس صديقة لإقناعه بتشغيل ابنها. ويقدّم لنا المخرج مشهد الأمّ عندما تذهب بصحبة رفيقتها لمشاهدة ابنها وهو يعمل في المطعم، فتقف على مقربة من هناك في انتظار رؤيته، فيظهر الابن وهو يحمل الصحون إلى الموائد، وحين يرى أمّه تراقبه يبدأ بالاستعراض والمبالغة بحركاته فلا تجد الأمّ إزاء ما شاهدت إلا أن تجهش بالبكاء وهي ترى حلمها قد تحقّق على أرض الواقع، وترى جزءًا منها يسير على خطى نظيفة بعيدة عن الرذيلة.
يحدث الانقلاب بالفيلم عندما يظهر الرجل الذي كان يدير أعمالها في حياتها، فجأة، ويطلب منها مبلغًا من المال أو أن تعود لمواصلة عمل الليل، مهدّدًا إيّاها بإبلاغ ابنها عن ماضيها في حال رفضها ذلك، في هذه الأثناء يكون الابن قد أخذته الشوارع وبدا أنّ طموحه أكبر من أن يقبل بالفتات سواء الذي تقدّمه الوظيفة، أو الذي يأخذه من أمّه، فيجنح مع رفاقه إلى السرقة، ويتورّط في ذلك شيئًا فشيئًا إلى أن يُمسك متلبّسًا في إحدى المرّات، فيُقاد إلى الشرطة ويودع في السجن، وهنا يقدّم المخرج مشهدًا مثيرًا للحزن، حين يظهر الابن مقيّدًا من يديه وقدميه مصلوبًا على سريره ويصرخ مناجيًا أمّه طالبًا الرحمة دون مجيب.

الأمّ في الفيلم تكسب عيشها من بيع الخضار

ينتهي الفيلم بمشهد الابن مصلوبًا على سريره بدون حراك، فيُنقل خبر وفاته إلى الأمّ التي تكون في هذه الأثناء في السوق، وبمجرّد أن تسمع بالخبر تركض باتّجاه شقّتها فيلحق بها الجيران، تدخل الشقّة، تتّجه نحو ملابس ابنها، تحضنها، ثمّ تتّجه نحو النافذة، فترى أحياء روما الثريّة، يمسك بها الجيران خشية أن ترمي نفسها، غير أنّها تواصل النظر إلى مدينة روما من الجهة الأخرى، وكأنّها تحمّلها مسؤوليّة ما جرى لها، وينتهي الفيلم بمشهد للمدينة وقد غدت طرفًا في مجريات الفيلم، وفيما آلت إليه نهاية الفيلم.
عُرض الفيلم، للمرّة الأولى، أثناء مهرجان البندقيّة السينمائيّ في عام 1962. ثمّ عُرض بعد ذلك بشهر على نطاق واسع في صالات السينما في روما. وقد أثار في حينه ردود فعل غاضبة، بسبب مضمونه، والطروحات الأخلاقيّة الواردة فيه، من قبل بعض الأوساط المحافظة وبخاصّة من قبل المجموعات الفاشيّة، لدرجة تمّ فيها الاعتداء الجسديّ على المخرج للاعتقاد الذي تولّد لدى البعض بأنّ المخرج يكثر من استخدام الرموز الدينيّة وأنّه يقصد المسيح بمشهد الابن مصلوبًا على سريره. وقد توقّف عرض الفيلم 33 عامًا حتى أُعيد عرضه عام 1990 في الصالات الأميركيّة وأُعيد له الاعتبار كواحد من أهمّ الأفلام الواقعيّة السينمائيّة في بداياتها.
الفيلم، على بساطة قصّته، إلّا أنّه مليء بالرموز والدلالات، والمشاهد المفرحة التي تبدو أشبه بالرقص على الجراح، كمشهد الأمّ وابنها وهما يرقصان رقصة التانغو التقليديّة في الشقّة الجديدة، والمشهد الليليّ الذي يظهر ماما روما وهي تسير في الشارع وتكلّم نفسها بصوت عالٍ ومرح، وتتحدّث عن معنى الحبّ والصداقة وقسوة القدر، فيما يقترب منها على التوالي رجال عابرون ونساء شوارع، يخاطبها جميعهم بلقبها: ماما روما، ويعلّقون على حديثها المستمرّ ثمّ يبتعدون واحدًا واحدًا.




وقد أسهم اسم الفيلم بإسقاط أزمة الأمّ على مدينة روما برمّتها التي بدت في ذلك الأثناء تحتفي بحفنة من أبنائها، فيما البقيّة تعيش في الضواحي وحواف المدينة، يلتقطون فتات رزقهم، فيما تنتشر بينهم الرذيلة والسرقة وحياة الليل.
الفيلم فيه إدانة صارخة لواقع روما، آنذاك، حيث الفقر والعوز واستفحال الطبقيّة، وقد نجح المخرج في تصوير كلّ ذلك برشاقة وإبداع جاعلًا من حكايته موضعًا للجدال والنزاع، وهذا ليس بغريب على المخرج بازوليني فهو ينتمي إلى الجيل الذي ظهر بعد الواقعيّة الجديدة، وظلّ مسكونًا بهموم الناس في ضواحي المدينة والأحياء الفقيرة، مستخدمًا من موهبته الإبداعيّة أسلوبًا جديدًا في تقديم سينما تصل في نقدها للواقع إلى حدّ إثارة الإشكال والجدل حولها. فبازوليني، كما أشرت، قبل أن يكون مخرجًا سينمائيًا هو شاعر وقصصيّ وفيلسوف ماركسيّ، ولم يتّجه إلى السينما إلّا عام 1945.
الفيلم ليس بريئًا من إيحاءات المخرج وخاصّة وفاة الابن مصلوبًا، فقد صبغ الكثير من أفلامه بالصوفيّة، وبالنزعة الدينيّة، ففي أوّل أفلامه "القوّاد" إنتاج عام 1961، تقصّى حياة رجل يحاول أن يطهّر نفسه بعد أن انغمس إلى أدنى درك أخلاقيّ، إذ عمل قوّادًا يورد العاهرات، فنراه في أحد مشاهد الفيلم يتوسّل إلى حفّار القبور لكي يدفنه عندما يموت في بقعة تقع عليها أشعّة الشمس لعلّ ذلك يطهّره، ويذيب عنه ما اقترفه من ذنوب، ويضعه تحت الشمس، بعد أن انغمس طويلًا في حياة الليل. وسواء في فيلم "ماما روما" أو في فيلم "القوّاد" فإنّ المخرج في الحالتين يثير قضايا المنحرفين في الأوساط الشعبيّة في روما، يكشف عن تفاصيل حياتهم ومعاناتهم، ولكنّه يبقي اللعنة تلاحقهم ليس لذنب اقترفوه، بل لواقع جافاهم ولخرافات ملأت رؤوس العامّة، وإذا كان الفيلم الأوّل "القوّاد" قد مرّ بدون ضجّة، فإنّ فيلم "ماما روما" كان أكثر تأثيرًا إذ مسّ هذه المرّة الأمومة التي تعدّ أرقى وأنظف الأحاسيس الإنسانيّة.
ولا يمكن أن نختم الحديث بدون الوقوف أمام شخصيّة آنا مانياني بالفيلم، فقد جسّدت دورًا اعتُبر من وجهة نظر الكثير من النقّاد المعادل الأنثويّ لشخصيّة زوربا بطل رواية "زوربا" للكاتب اليونانيّ كازانتزاكيس، وذلك لتميّزها بضحكتها العالية وحيويّتها الشديدة، وقوّتها الملحوظة، وقد بدت في تواصلها وتفاعلها مع المحيطين أمًّا للجميع، فليس غريبًا أن يُنادى عليها بلقب "ماما روما"، حتى أنّ المشاهد الذي يتتبّع اندفاعها للحياة وقوّة شخصيّتها، ينسى أنّها كانت غانية، فمثل هذه الشخصيّة لا يمكن أن تكون مجّانيّة ولا يمكن أن تكون متاحة لمن يدفع أكثر، ويتعزّز نفي ماضيها لدى المشاهد من خلال أدائها المتقن لدور الأمّ التي لا ترى في الحياة أفقًا أرحب من رؤية ابنها صالحًا يكسب رزقه من عرق جبينه، غير أنّها تُصدم بالواقع فها هو كلّ شيء يأتي بعكس ما تمنّت، وكأنّ قدرها أن تبقى مسحوقة تحت أنين الوجع... ويا له من وجع... إنّه قلب الأمّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.