}

عن إريش فريد: الشاعر اليهودي الذي لم يهادن إسرائيل

نجاة علي 25 نوفمبر 2024
استعادات عن إريش فريد: الشاعر اليهودي الذي لم يهادن إسرائيل
إريش فريد وترجمة كتابه "وكنا نضحك أحيانًا"
لعل حرب الإبادة التي يشنها العدو الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، ويشهدها العالم على الهواء مباشرة، تستدعي التأمل والتساؤل عن موقف الأدباء والمثقفين في العالم كله من هذه الحرب، باعتبارهم ضمير الأمة التي ينتمون إليها، خاصة تلك الدول الداعمة بشدة لإسرائيل، وبشكل خاص ألمانيا التي تسودها حالة أشبه بالصمت تجاه ما يحدث من إبادة، إذ كثيرًا ما يتم تبرير ذلك بأن عقدة الذنب بعد الهولوكوست تجاه اليهود هي التي تقودهم الآن لهذا الموقف السلبي، غير أن ثمة آراء أخرى ــ أتفق معها ــ ترى أن هنالك مصالح أخرى أكثر تعقيدًا مع الكيان الصهيوني هي الدافع الأكبر وراء هذا الدعم غير المحدود.

ربما يجعلنا هذا نتذكر بكثير من التقدير المواقف الشجاعة للشاعر النمساوي المولد إريش فريد (1921 ــ 1988) ضد جرائم إسرائيل، والذي يراه كثيرون أحد رواد الشعر السياسي في المنطقة المتحدثة بالألمانية، ومن أبرز شعرائها في فترة الستينيات والسبعينيات.
عاش الشاعر إريش فريد مدافعًا عما يؤمن به من قيم إنسانية، وتمرد على كل التابوهات السياسية؛ فمثلًا وقف أمام الجيش الأميركي في فيتنام، ولم يلتزم الصمت أو التواطؤ أمام الجرائم الإسرائيلية وفضحها ــ رغم كونه يهوديًّا ــ ووجه نقدًا عنيفًا لها في ديوانه "اسمعي يا إسرائيل"، الذي أحدث ضجيجًا هائلًا في الأوساط اليهودية. وهو ما جعله ينال أيضًا نصيبًا وافرًا من الهجوم والاتهامات، فوُصف مرة بأنه "مدافع عن هتلر"، ومرة أخرى بأنه "يهودي معادٍ للسامية".
ومن هنا تأتي أهمية الترجمة التي قدّمها المترجم سمير جريس لمذكرات الشاعر إريش فريد إلى العربية، والتي صدرت مؤخرًا تحت عنوان "وكنا نضحك أحيانًا" عن دار صفصافة في القاهرة.
وبحسب المترجم في مقدمته المهمة، والتي بدتْ كدراسة وافية عن حياة هذا الشاعر ومواقفه السياسية وكتابته أيضًا، فقد ولد إريش فريد في فيينا ابنًا وحيدًا لعائلة يهودية، وكان يعاني من إعاقة حركية جعلتْ والده يعتقد أنه لن يعيش طويلًا، ولكن الطفل تجاوز إعاقته، واستعاض عنها بمواهب أخرى لفتت نظر المحيطين به منذ صغره، حيث بدأ في سنّ مبكرة في كتابة قصائده الأولى. وبعد ذلك، بدأ يشارك في تقديم مسرحيات للأطفال على مسارح فيينا.
ربما انقلبت طفولة فريد الهادئة جحيمًا مع وصول النازيين إلى الحكم عام 1933؛ إذ أُلقي القبض على أبيه بعد انضمام النمسا إلى ألمانيا عام 1938، فتحول من تلميذ نمساوي في المرحلة الثانوية إلى يهودي ملاحق. وبعد وفاة الأب من جراء تعذيب البوليس السري "الغستابو"، فر فريد في عمر السابعة عشرة من فيينا النازية إلى لندن. وفي الشهور التالية، استطاع أن ينقذ أمه ومعه أكثر من سبعين شخصًا.
في البداية، كما تخبرنا المذكرات، كسب فريد قوته من أعمال مشروعة، وأخرى غير مشروعة، في بعض المواضع، حتى تمكن من شراء تأشيرات هجرة إلى بريطانيا لمعارفه من اليهود.
وفي لندن، انضم فريد إلى نادي الشبيبة الشيوعي، غير أنه تركه في عام 1944 بسبب تفشي الستالينية فيه. وفي العام نفسه، نشر ديوانه "ألمانيا"، وفي عام 1966، نشر ديوان "وفيتنام و..."، الذي أثار جدلًا كبيرًا حوله. وخلال هذه السنوات لم يتوقف فريد عن إعلان مواقفه ضد الاحتكارات الإعلامية والقمع الستاليني والسياسات الإسرائيلية تجاه العرب والفلسطينيين، وهو ما خلق له كثيرًا من الأعداء.
وفي مطلع الخمسينيات، عمل إريش فريد معلقًا في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن "بي. بي. سي"، غير أنه استقال عام 1968 لاختلاف وجهات نظره السياسية مع توجهات المؤسسة الإعلامية، ليتفرغ للشعر والترجمة الأدبية. وقد اشتهر في البداية بترجماته المعاصرة لأشعار إليوت، وديلان توماس، وسيلفيا بلاث، ثم لمسرحيات وأشعار شكسبير.
اعتاد فريد على اختراق التابوهات السياسية بشجاعة، فأعاد تعرية جرح التاريخ النازي لألمانيا قبل أن يلتئم. ثم هاجم السياسة الألمانية في الستينيات، لأنها غضت الطرف عن الجرائم العسكرية التي مارستها الحليفة أميركا (آنذاك في فيتنام ونيكاراغوا)، ولأنها مثلت نموذجًا فجًا لإرهاب الدولة في السبعينيات في مواجهة مجموعات اليسار المتطرف، مثل مجموعة بادر ــ ماينهوف، التي اتهمت بممارسة الإرهاب.




وإذا توقفنا أمام مذكرات إريش فريد، سنلاحظ في الفصل الأول من هذه المذكرات أنه يستدعي لحظات طفولته التي امتلأت بالضحكات، ويروي أطرافًا من الحكايات المرحة للجدة التي أثرتْ فيه، وكان ذلك في بداية الحرب العالمية الثانية التي اندلعت عام 1939:
"وحكايات جدتي ليست مثيرة للضحك فقط، لأنها كانت لا تزال تؤمن بأشياء عتيقة بالية، أن المرء يصيبه الصرع مثلًا، أو على حد قولها ’المرض الذي يجعل الإنسان يسقط على وجهه’، إذا ابتلع شعرة قطة، أو ’أن الإنسان يسقط على وجهه’ إذا ابتلع نواة كرز، لأن شجرة الكرز ستشرع في النمو في المعدة، أو في المصران الأعور".
ولكن فريد يشير إلى أن حكايات الجدة التي يملؤها المرح لم تبقَ على حالها؛ إذ كانت تخفي مرارة ما، تلك المرارة التي ازدادت مع الأيام. فبعد شهور من دخول هتلر إلى النمسا عميت عين الجدة السليمة، بل إنه انتهى بها المطاف، وبعد عامين ونصف العام من اندلاع الحرب، إلى ترحيلها من وطنها في فيينا، حيث عاشت منذ أن بلغت عامها الثاني، إلى غيتو اليهود في "تريزينشات". وبعد فترة نقلت إلى أحد معسكرات الإبادة، وهناك لقيت حتفها خنقًا بالغاز وهي في عمر الثامنة والسبعين، قبل أن تنتهي الحرب بعامين.
ويمكننا ملاحظة أن نبرة الراوي في المذكرات تبدو هادئة، وتخلو من أية رغبة في ادعاء البطولة، أو إثارة التعاطف معه، أو حتى المبالغة فيما تعرض له من آلام ومحن في أثناء حياته. لكننا في الوقت نفسه، نلمح حسًا ساخرًا يهيمن على أسلوب السرد، وهو ما منح الكاتب مسافة كافية لتأمل ماضيه وحياته، ورؤية موضوعية أيضًا للأحداث التي مرّ بها.
وقد بدا فعل الكتابة في المذكرات أشبه بمحاولة لاستعادة الزمن والذاكرة التي بدت لصاحبها كأطياف عابرة، بخفة تارة، وكأشباح تطارده تارة أخرى. فمثلًا، يتذكر فريد انتماءه إلى جماعة المقاومة بعد اجتياح قوات هتلر فيينا، أي في النصف الثاني من شهر مارس/ آذار 1938. ويلتقط كذلك بعض التفاصيل الصغيرة في مرحلة الطفولة:
"دعوتُ عددًا من زملائي في المدرسة إلى منزلنا. كل منهم كان ابن والدين يهوديين مثلي، وأسست معهم جماعة مقاومة أقسم أفرادها على الكتمان التام حتى الموت أمام المصالح الحكومية النازية، كما تعهد كل فرد من أفراد الجماعة بأن يضع شَرطَة مائلة، تبدأ من اليسار، وتهبط إلى اليمين، على النصف الأسفل في أول حرف من اسمه".
هاجس التذكر، أو استدعاء الذكريات، قد يكون الحلم باعثه، كأنه محاولة لمقاومة العدم، فمثلًا يحلم فريد بصديقه "لازار"، بعد أربعين عامًا، وقد كان من فيينا، مثل فريد، وفي مثل عمره وقتها، حوالي الثامنة عشرة، أو التاسعة عشرة، وقد اصطحبه فريد إلى دائرته الصغيرة التي تضم لاجئين من ألمانيا والنمسا. كانوا يلتقون مرة، أو مرتين، كل أسبوع، في ربيع 1940 في وست هامبستيد في لندن، وكان كل منهم يحاول تقديم العون لأخيه، والبحث عن عمل له، أو البحث عن عناوين في بلاد محايدة يستطيعون من خلالها أن يبقوا على اتصال بأقاربهم وأصدقائهم الذين بقوا في "رايخ" هتلر.
وأتصور أن حالة التذكر هنا، أو محاولة الالتصاق بالذاكرة ــ إن جاز التعبير ــ أشبه بآلية دفاعية ضد الموت، أو العدم، الذي يقف قاب قوسين، أو أدنى، من فريد، ويبدو أن التقدم في العمر، والوقوع في أسر المرض، كانت دافعًا قويًا لكتابة هذه المذكرات. وهذا ما نلمحه في أكثر من موضع في الفصل الأخير من المذكرات:
"في الفترة الأخيرة قبل وفاتي، تعلمتُ على هذا النحو أن أرضى بعدم رضاي. نعم، بالتأكيد، طوال حياتي وأنا أُثمّن قدر عدم الرضى، وأدافع عنه كفضيلة عظمى وقوة دافعة. لقد كان دومًا هو القوة المقاومة لروح الخنوع والخضوع. لكني الآن ألاحظ أن عدم الرضى بحتمية الموت، مهما كانت عبثيته، في اللحظة الأخيرة، شيء ضروري وجيد للحفاظ على الحق في الحياة، والذود عنه حتى آخر رمق".
ونكتشف من خلال سرد حكاية "لازار"، موقف إريش فريد الرافض للأفكار الصهيونية، حيث كان ضمن المعارضين لسفر صديقه "لازار" إلى فلسطين، والذي كان مقتنعًا باعتباره من أنصار مارتن بوبر، الذي لم يكن يريد أن يطرد الفلسطينيين، أو يريد معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، لكن فريد حاول إقناعه وبعض رفاقه أن هذا وهم، وأن ذهابهم سوف يتسبب في جعل وضع الفلسطينيين أكثر سوءًا. لكن "لازار" أصر على السفر، وفي أثناء وجوده على متن السفينة التي تقله أوقف الإنكليز السفينة، وتعرض بسبب كسر نظارته وتحركه للاتجاه الخطأ حين أوقفه الجندي للقتل بالرصاص.
ومن هنا، يمكننا تأؤيل عنوان المذكرات باعتباره ينطوي على نوع من السخرية من الحياة المليئة بالتعاسة.
فكأن لحظات السعادة، أو المرح، هي الاستثناء في حياة البشر، وحياة فريد بالطبع، فهي لحظات موقتة، وعابرة، بينما كان الحزن والألم هو القاعدة.
وسوف نكتشف أيضًا في مواضع كثيرة رغبة الراوي في تعرية الذات لحظة الكتابة، عبر الاعتراف، أو ما يمكن أن نطلق عليه مجازًا "الإيهام بالاعتراف"، لأن الكاتب لا يصور الواقع، ولا يعيد إنتاجه مرة أخرى في أثناء الكتابة، بل هو بالأحرى يفككه ويعيد إنتاجه من وجهة نظره.
ومن هذه الاعترافات اعترافه بواقعة "السرقة" لبعض ثمار جوز الهند الصغير ــ حينما كان طفلًا ــ من دكان فاكهة، بينما صاحبة الدكان مشغولة، لكنها انتبهت لما يفعله فريد، وصرخت فيه، فاحتال وصرخ مكذبًا إياها:
"أمام الشباك الجانبي لدكان الفاكهة، تراكمت ثمار الجوز الهندي الكثيرة، في حين كانت صاحبة الدكان مشغولة أمامه. من دون تفكير، مددت يدي إلى شريحة من جوز الهند، ولكن صاحبة الدكان القبيحة كانت لها على ما يبدو عيون في كل مكان. فتحت الشباك وصاحت: ’امش من هنا يا حرامي’، فصرختُ في وجهها ’لستُ حراميا! أنا طفل متربي’"!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.