}

قراءة في قصيدة بيسوا "دكان التبغ"

إسكندر حبش إسكندر حبش 26 نوفمبر 2024
تحلّ في العام المقبل (2025) الذكرى التسعون لرحيل شاعر البرتغال الكبير فرناندو بيسوا. ومن الآن بدأت بعض دور النشر الأوروبية تجهيز احتفالياتها الخاصة بهذه المناسبة، كما فعلت مؤخرا منشورات "كاراكتير" الفرنسية، التي أعادت - بطبعة فاخرة - إصدار قصيدته "دكان التبغ" (مع قصائد أخرى)، لكن أهمية هذه الطبعة أيضًا، تكمن في أنها تستعيد الترجمة الأولى لهذه القصيدة (إلى الفرنسية) التي كان قام بها أرمان غيبير، الذي يعدّ أول من ترجم مختارات شعرية لـ بيسوا إلى الفرنسية.

القصيدة هذه ترجمت مرات عدة إلى العربية، وليست غاية هذه الكلمة الحديث عن هذه الترجمات، بل هي محاولة لاستعادة كنه القصيدة ومكانتها في مسار بيسوا الشعري، كي نجد موضعها في هذه الرحلة الكبيرة التي قام بها الشاعر. 

*** 

"لست شيئًا
ولن أكون شيئًا أبدًا
لا يمكنني أن أكون شيئًا
وهذا يعني، أنني أحمل في داخلي
كلّ أحلام العالم"...

في تلك الكوكبة من الشعراء والأسماء المتعددة، البديلة، التي تركها فرناندو بيسوا وراءه، كي يبني منها عمله الضخم المعقد والمتعدد، شيّد الشاعر البرتغالي عوالمه المختلفة غير المتشابهة، التي شكلت قوة الارتكاز الكبيرة في أدبه وشعره، لتلعب لاحقًا الدور الكبير في أصل إبداعه الأدبي الفريد من نوعه، لدرجة أن مؤلفها ومبدعها، بنى لكل واحد منها سيرة ذاتية مغايرة حتى يبرّر اختلافاتها عن بعضها البعض. من هذه الكوكبة، يبرز اسم ألفارو دو كامبوش جليًّا، حيث لا يمكن تجنّبه مطلقًا، بعد أن وقّع بيسوا بهذا الاسم العديد من قصائده الكبيرة، التي أفسحت له مكانة، قد تفترق عن باقي زملائه.     

كان ألفارو دو كامبوش مهندسًا ميكانيكيًا. وكان أيضًا "شاعرًا ميتافيزيقيًا يكره الميتافيزيقا". ونظرًا لكونه شخصًا معذبًا ومنعزلًا ومتناقضًا، فقد جسّد فكرة الرجل المعاصر المحبط في أعمال بيسوا. لقد كبّلته آلاف الأفكار وهاجمته، سحقته وعذبته ونخرته. من هنا، جاءت رؤيته للعالم، لتقف ما بين رغبة الحلم والواقع، ما بين وضوح الصراحة وخيبة الأمل تجاه هذا العالم وحالته الخاصة. أما ملاحظاته الكئيبة، وآراؤه الساخرة، فقد انتشرت في جميع أنحاء شعره المضطرب والحزين والرائع، حيث تنقلت تعويذاته على السجلات العاطفية بين الظل والضوء، بين النار والهواء، بين النفس الساخن والسوائل الجليدية، مثل مداعبة بعد ضربات...

من قصائد ألفارو دو كامبوش الكبيرة التي لا يمكن تجنّبها، قصيدة "دكان التبغ" التي كتبها عام 1928 ونشرها في عام 1934 في مجلة "Presença" بعنوان "طبكرية" (Tabacaria، أي قبل سنة من وفاته، وهي من القصائد النادرة التي نشرها بيسوا وهو بعد على قيد الحياة). اعتبرت القصيدة يومها أنها تبرز فعلًا هذه "المسيرة البطيئة والطويلة نحو الذات، نحو المعرفة" لهذا الكائن المتعدّد الذي يحدّد الإنسان والشاعر.

لنسأل: ما هي عليه في الواقع هذه القصيدة الموسومة التي حملت عنوان "دكان التبغ"؟ إنها قصيدة عن رجل ينظر من نافذة غرفته المطلة على شارع إلى ما يراه أمامه. ماذا يرى؟ دكان تبغ في الجهة المقابلة. في نظرته هذه، تبدأ أفكاره عن الوجود، بالهرب من داخله؛ يبدأ كلّ ارتباك الحياة الذي يصطدم في وجهه، ليجد نفسه عند هذه النقطة التي تقترب من اللاعودة، حيث أصغر كائن حيّ يستحق أكثر بكثير من نفسه، حيث لا يمكن للمرء أن يكون أكثر من نفس، ورقة في مهب الريح. إزاء ذلك كله، نتبع إحباطات هذا الرجل، هزيمته، بُعده عن العالم حتى يعيده إلينا دكان التبغ. قصيدة، أشبه بـ قصة قصيرة جدًا، تشكّل نصًا استبطانيًا نرى فيه معاناة الإنسان الذي يصرّ على إذلال نفسه، وعلى تدمير نفسه.

"لست شيئًا"، إنها الكلمة الأولى... طريقة قاسية للتعبير عن الاكتئاب. لكنه ومع ذلك سرعان ما يضيف أنه يحمل كلّ أحلام العالم. لكن يبدو أن الشاعر يتحول عند رؤية واقع العالم الخارجي المتمثل في بائع التبغ أو الزبون الذي يدخل إلى الدكان. من هنا، يبدأ شارعه في التأرجح بين ذهاب وإياب مستمر، كونه يشكل طريقًا مسدودًا للأفكار، ثم هذا التيه الذي يأخذ الشاعر نحو دروب الحياة حيث الموت حاضر، تتعفن الجدران ويبيض الشعر، تتجول الحقيقة والموت معًا. وفي النهاية، يتبدد يأسه في دخان سيجارة على الرغم من أنه يبقى بلا مُثُل. لقد أصبح فجأة هو المدخن، أصبح حرًّا في تنشّق هذا التبغ الذي يقطر رئتيه، ويمنحه القدر هذه الخدمة لتدوم هذه اللحظة: حرية التدخين.

أهمية هذه الطبعة تكمن في أنها تستعيد الترجمة الأولى لهذه القصيدة إلى الفرنسية التي كان قام بها أرمان غيبير


يقول الرجل الذي ينظر من النافذة "لقد فاتني كل شيء"، هل هذا الرجل الذي يقول "أنا"، ليس في المحصلة سوى بيسوا نفسه؟ كان هذا الأربعيني فريسة إدمانه على الكحول الذي قتله في النهاية، هو هذا الرجل الذي يشعر بخيبة الأمل، يواجه بائع السجائر هذا الذي يجلس أمام نافذته، في جمود كيانه، معزولًا في غرفته، ينظر إلى الحياة وحياته اليومية. كل دلائل القصيدة تشير إلى الشاعر، ولكن يمكن أيضا، أن نغض الطرف عن هذه السيرة الذاتية، كي ننطلق في فضاءات أرحب.

"ماذا أعرف ماذا سأكون عليه، أنا الذي لا أعرف ما أنا"؟...

كلمات، بسيطة جدًا، قوية كالعذاب، تُلقى إلى المرعى بقوة الشاعر "القلقة"، إلى فراغ مصائرنا الفلكي، إلى هاوية فراغنا الوجودي التي لا نهاية لها. الوجود، الفعل، الظهور، الصيرورة... كل هذه الأفعال تتم... من أجل ماذا؟ كل هذه الأشياء تمت مع الخوف المحزن من عدم ترك أي أثر. لكن القيادة إلى أين؟ كل هذه الأقنعة نختبئ خلفها. لكن ما الغاية منها؟

بين الأمل واليأس، بين الطموح واليأس، والتساؤل الدائم عن معنى الوجود وأسباب الأشياء، يغرق ألفارو دو كامبوش، من نافذة غرفة نومه الصغيرة، في سيل مضطرب من الأفكار الميتافيزيقية التي تقوده إلى حافة الإحباط. والذي يخرج منه في بعض الأحيان غضب لا يمكن كبته للعيش.

"أن تشعر بكل الطرق،
أن تجرب كلّ شيء من جميع الجوانب،
أن تكون نفس الشيء بكلّ الطرق الممكنة في نفس الوقت،
أن تدرك في نفسك الإنسانية الكاملة في كلّ اللحظات
في لحظة واحدة غزيرة ومنتشرة، الشامل والبعيد".

شِعر ألفارو دو كامبوش في قصيدته هذه، يبدو شعرًا من دون نظم ولا بناء، من دون قواف، من دون وحدة إيقاعية عائدة للبيت الشعري أو للجملة. هو شعر شبه منطوق، مونولوغ، مناجاة نفس في فوران وتدفق كلمات تنفجر بكل قوة الألم، وتطبع أثر الشعور الهائل بالوحدة.

"أنا وحيد، في عزلة لم يتمّ الوصول إليها أبدًا،
مجوف من الداخل، بلا مستقبل أو ماض".

تتعثر كلماته في البحث البطيء للضمير اليائس، لكنها مسلّحة بسحر "مسك الروم" القاسي والسام، مثل نبات جميل جدًا ينمو في الوحل، زهرة أوركيد ذات رائحة خفيّة تولد من روائح العقل المعذبة. فكر معذب ومجبر ومدنس، مع رغبة كبيرة في تحريفه والضغط عليه لإخراج ما هو مخفي في أعماق النفس، وبالتالي، هو عادل وصادق للغاية لدرجة أنه يصبح مضيئًا، ومتحمسًا، كما لو كان مُنارًا من الداخل وغنيًا بكل ذلك وينطوي على طريقة الأسئلة والتساؤلات.

البحث عن الذات، والرحلة الداخلية، جنبًا إلى جنب مع رغبة لا هوادة فيها في فهم الغرض من الوجود، إذا كان هناك هدف، ونهاية، في نفس الوقت الذي تزحف فيه شخصية الشك الكبير وتتسلل، وتلتصق بجدران الوجود المضطربة. فالعقل يستولي عليه بعمل الشبهة ليقوم بعمل التقصير. "كم هو صعب أن تكون على طبيعتك ولا ترى إلا ما هو مرئي"! وهناك شعور بالفراغ في كل كلمات الشاعر، مثل هذا الفضاء الذي يجب ملؤه، مثل هذا اليقين بالعدم... إنه مؤلم ولكنه جميل، ذو جمال جدي، تراجيدي، مؤثر، ساخر ولاذع.

"دكان التبغ" قصيدة "حزينة" تدفع الحزن إلى داخلنا، هو من ذلك النوع من الحزن الذي يمتدّ حجابه الضبابي من الحنين إلى الكائنات التي يلمسها ولكن لا يسعنا إلا أن نتصفحها ونواصل قراءتها، في ترديد كل كلمة، وتذوق نسغها السخي والسام، لنمتص إيقاعها الآسر والمؤرق لحرق "السوداد" البرتغالي. شعر متسامّ، يلامس الجليل، سواء كان حقيقيًا أقرب ما يكون إلى الواقع ومجرّدًا أقرب ما يمكن إلى الحلم...

"لذلك، غريبًا عن نفسي، قرأت
كياني مثل صفحات الكتاب.
ولا أتوقع ما سيحدث بعد ذلك،
أنسى الماضي.
وألاحظ على الهامش قراءة الصفحات
ما اعتقدت أنني شعرت به.
أقرأها مرة أخرى وأقول في نفسي: أهذا أنا؟
والله أعلم لأنه هو الذي كتبها".

وبينما يعبّر عن نفسه بأبيات معمارية جميلة، يعترف الشاعر بأنه ذلك الكائن المتألم في بيئة الحياة اليومية المبتذلة وهو في منزله مقابل هذا الدكان.

نص يتمتع ببراعة فنيّة كبيرة، على الرغم من تشاؤمه. فالشاعر لا يتوقف عن قضاء وقته في تشويه سمعة نفسه كشاعر أثناء كتابته، ولكن ربما لهذا السبب كان بحاجة إلى صورة رمزية لتوقيع هذه القصيدة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.