ليس بكاءً على الأطلال، ولا لأننا ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولّى، فلماذا إذًا؟
لماذا أنبش في الإرث الصحافي الدفين المجهول لمدينة اللاذقية؟ هل أتباهى بما كان، أم ألوّح بقدوة نقتديها؟ هل ألعن ما نحن فيه، أم أنشد بارقة أمل؟
بانتظار الجواب أحدثكم عن جريدة صدرت قبل تسعين سنة في مدينة صغيرة تبعد عن العاصمة دمشق ثلاثمائة وخمسين كيلومترًا. أما الجريدة فهي "القانون الطبيعي"، وأما المدينة فهي اللاذقية التي كان عدد سكانها في ثلاثينيات القرن الماضي لا يتجاوز 40000 نسمة.
أن تقرأ كلمتي "القانون الطبيعي" فقد يسرع إلى الذاكرة ما هو متداول من أن القانون الطبيعي ناموس فطري، مبادئ راسخة لا يغيرها الزمان، أو المكان، قواعد تنظم السلوك الاجتماعي... وهذا هو الفيلسوف الهندي غروشيوس ينصّ على أن القانون الطبيعي ليس غير تحكيم العقل. وقد أفادني صديق محام أن المادة الأولى من القانون المدني السوري تعد مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة مصدرًا احتياطيًا للقاضي، إذا لم يعثر على نص، أو عُرْف، يساعد على حلّ القضية التي يحكم فيها.
ولكن لعبد السلام جود (1892 ــ 1972) رأي آخر. فهذا الكاتب والشاعر والصحافي والناشط سياسيًا، سمى الجريدة التي أسسها عام 1936 بـ"القانون الطبيعي"، وذيّل الاسم بهذه العبارة (صحيفة صحية تناسلية قصصية). وقبل أن أتابع عليّ أن أحيّي ابن اللاذقية، الصديق المؤرخ والباحث هاشم عثمان، الذي أثرى المكتبة العربية بحفريات مؤلفاته الغزيرة في التاريخ السوري خلال القرن العشرين، ومنها في تاريخ الصحافة السورية "الصحافة في اللاذقية" (2002)، وهو الجزء الثاني من كتابه "الصحافة السورية ماضيها وحاضرها". ولهاشم عثمان أيضًا "تاريخ اللاذقية"، و"الأحزاب السياسية في سورية: السرية والعلنية"، و"المحاكمات السياسية في سورية"، و"صفحات مجهولة من تاريخ القضية الفلسطينية: الفلسطينيون في الساحل السوري"، عدا عن مؤلفاته عن العلويين، والدروز، والإسماعيليين، والوهابية، والشيعة، وعن الشعراء: بدوي الجبل، وعمر أبو ريشة، والمكزون السنجاري، ومنتجب الدين العاني... وقد تكرم هاشم عثمان فزودني من مكتبته العامرة ــ وبخاصة من الصحف المحتجبة ــ بما أفادني، فيما يتعلق بثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، أثناء الإعداد لروايتي "حجر السرائر" (2021). وكتابه "الصحافة في اللاذقية" هو المرجع الأوفى عن جريدة "القانون الطبيعي".
عبد السلام جود
من التعريف بعبد السلام جود صاحب جريدة "القانون الطبيعي"، يذكر جميل مخلوف (1920 ــ 2008) في كتابه "محطات قومية"، أن جود كان المسؤول الأول في اللاذقية عن الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أسسه أنطون سعادة عام 1932. وقد أسس عبد السلام جود، الذي كان ماسونيًا أيضًا، في اللاذقية، جريدة "الغول" عام 1936، وفي ذيل اسمها أنها (صحيفة نقد وأدب وفكاهة)، وكان شعارها من شعر أحمد شوقي: "قف دون رأيك في الحياة مجاهدًا/ إن الحياة عقيدة وجهاد"، وهو ما سيكون شعار جريدة "الحياة" التي أسسها كامل مروة في بيروت عام 1948. ومع "الغول" كان عبد السلام جود شريكًا في جريدة "الخبر" اليومية السياسية التي أصدرها في اللاذقية محمد الريس. وإلى الصحافة والسياسة، كتب جود القصة الطويلة ــ أو الرواية القصيرة: النوفيلا ــ وصدر له منها: "عزمي بيك" (1935)، و"عاكفة امرأة" (1936)، كما ترجم "أسرار القبور" (1936). وكانت جريدة "القانون الطبيعي" تصدر نشرات وكتبًا في الثقافة الجنسية، ومنها لعبد السلام جود كتاباه: "العادة السرية" (1937) و"البغاء" (1946). وكأن كل ذلك لم يكف الرجل، فكتب الشعر أيضًا، ومنه ما جاء في قالب قصصي، وآخره ما كتبه على فراش الموت، ومنه "يا رب قد عظم المصاب وليس لي/ إلاك في يأسي وفي كبواتي/ وإذا النهاية قد دنت ساعاتها/ فاغمر بنورك مرقدي ورفاتي". ولعل عبد السلام جود هو صاحب القصيدة التي تعارض قصيدة ابن زريق البغدادي "لا تعذليه فإن العذل يولعه/ قد قلت حقًا لكن ليس يسمعه". وقد نشرت "القانون الطبيعي" القصيدة المعارضة تحت عنوان "شبّان شيك"، ومنها في هجاء هذا الشاب: "في كل يوم بتنظيف الخدود وفي/ حلق الشوارب شغل ليس يقطعه/ كذا التواليت والتطييب إنهما/ كمن له عهد صدق لا يضيعه". والمعارضة هنا هي لبيت ابن زريق "من عنده لي عهد لا يضيعه/ كما له عهد صدقٍ لا يضيعه". وجاء في الجريدة: "وفي تبرجه لم يحكه قمر/ بالكرخ من فلك الإزراء مطلعه". بينما قال ابن زريق "أستودع الله في بغداد لي قمر/ بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه". ومن الجريدة أيضًا: "إن كان يرقص شارلستون تحسبه/ موكَّلًا بفضاء الله يذرعه"، في معارضة قول ابن زريق "كأنما هو في حلٍّ ومرتحلٍ/ موكّلٍ بفضاء الله يذرعه". وفي الختام جاء رأي الجريدة:
"القانون:
لو كنت أملك أمرًا أومحاسبةً/ لمثل هذا ففي البابوج أصفعه".
القانون الطبيعي:
ألغت الحكومة المركزية في دمشق قانون الداخلية في (دولة العلويين) فور إنهاء التقسيم وإعادة اللاذقية إلى حضن الأم سورية. وما إن خضعت صحف اللاذقية إثر ذلك لأحكام قانون المطبوعات المطبق في دولة سورية، حتى برزت مشكلة جريدة "القانون الطبيعي". ويكتب هاشم عثمان أن وجود الجريدة أثار زوبعة من الاحتجاجات بسبب الموضوعات التي تعالجها، فتعالت الأصوات مطالبة بإغلاقها. وقد وجه عبد السلام جود في 11/1/1944 كتابًا إلى محافظ اللاذقية، وإلى مدير المطبوعات، يتحدث فيه عن فرادة جريدته، وأنها "غير عادية"، و"تختلف كل الاختلاف عن بقية الصحف، لا في اللاذقية فحسب، بل في جميع المدن السورية". ويؤكد صاحب الجريدة أنها حافظت على هدفها منذ تأسيسها وهو "خدمة الجنس البشري بنشر الثقافة الصحية والرياضية، ومقاومة المسكرات والمخدرات والعادات الضارة والبغاء السري والعلني، والصراحة في حدود الحشمة في المسائل التناسلية التي كان ولا يزال جهلها داعيةً للنكد والشقاء في حياة الكثيرين. والإرشاد في المشاكل الشخصية التي يمنع الحياء الكاذب، وتضنّ التقاليد العمياء دون طلب الإرشاد فيه وتوجيه الشباب إلى حياة الطهارة والعفاف وإلى المثل العليا للكرامة القومية الصحيحة". وينفي عبد السلام جود أن تكون الجريدة سياسية، وينوه بأنها نشرت قبل الحرب (العالمية الثانية) في أعدادها الأسبوعية عشرات الكتب، منها كتاب "العادة السرية"، وكتاب "الأمراض الزهرية"، وكتاب "لماذا تضلّ الفتيات". كما نشرت النشرات الصحية والرياضية والجنسية، ووزعتها مجانًا، بينما كان بدل الاشتراك السنوي في الجريدة ليرة سورية واحدة!
وبدلًا من مؤازرة هكذا جريدة (كما في "البلاد المتمدنة")، لم تلاقِ "القانون الطبيعي" أية مناصرة، بل جرى تعطيلها في كثير من الأحيان، وحكم على صاحبها بالسجن والغرامة، والحرمان من الإعلانات القضائية، والتقتير عليها في كمية الورق، وتعرضت لمختلف أنواع الأذى والاضطهاد. ويتحدث عبد السلام جود عن حاجة الشباب إلى أقلام الكتاب والمفكرين كي توجههم إلى "حياة الرجولة الكاملة، وإلى الابتعاد عن حياة الفجور والمسكرات التي تقلل الرجولة وتصرف الشباب عن واجباته الوطنية، والتي هي بلا ريب من أمضى أسلحة الاستعمار". كما يتحدث عما يسميه "إضراب الناس عن الزواج بسبب ما يحسه معظم الأزواج من الشقاء في الحياة الزوجية، ولن يستطيع الزوجان أن ينظما هذه العلاقات وهما يجهلان القيام بها على الوجه الصحيح، وليس ذلك بالشيء الهين، على أنه ليس بالشيء الصعب أيضًا إذا اتخذنا إليه سبيل العلم والاختبار الشخصي والتفاهم النزيه بين الزوجين. تلك هي العدة التي أُعدّت عليها هذه الجريدة في جزء من برنامجها في سبيل نشر الثقافة الجنسية طيلة تسع سنوات".
يكتب هاشم عثمان أنه كان من الغرابة صدور جريدة مثل "القانون الطبيعي" في بلدة صغيرة محرومة من كل سبل الرقي، جريدة تهتم بالمسائل التناسلية والجنسية، في وقت كانت الكتابة في مثل هذه المواضيع من المحرمات. لذلك عُدّت "القانون الطبيعي" خارج دائرة الحياء من الأوساط المغالية في محافظتها، وانهالت اللعنات على رأس صاحبها الذي صمد بجرأة متناهية في وجه الحملات التي استهدفت صحيفته. لكن الحكومة أغلقت الجريدة الاستثنائية.
منذ البداية، حدد عبد السلام جود غاية جريدة "القانون الطبيعي" بالبنود الخمسة التالية: "أولًا: تحسين الصحة وتقوية الجسم والعلاج بالطرق الطبيعية والحماية من أضرار الأدوية والعقاقير. ثانيًا: الصراحة في المسائل التناسلية التي كان جهلها داعية النكد والشقاء في حياة الكثيرين. ثالثًا: الإرشاد في المشاكل الشخصية التي يمنع الحياء الكاذب بدون طلب الإرشاد فيها، وتقف هذه التقاليد العمياء دون هذا الإرشاد. رابعًا: تشجيع الحياة الزوجية وتوفير أسباب السعادة لها ومقاومة البغاء السري والعلني والعادات الضارة. خامسًا: نشر حوادث الحياة على حقيقتها المكشوفة وليس على النحو الذي يصوره الكتاب الخياليون". ويكتب عبد السلام جود أن المشروع الثقافي والاجتماعي لجريدته اعتمد على مؤازرة أطباء ومؤلفات وأبحاث ونظريات واستنتاجات أعظم علماء التشريح والتناسل في الشرق والغرب "في عصر المدنية والنور، وفي الزمن الذي تحترم فيه الحرية الفكرية". وبسخرية مريرة يتابع الكاتب أنه قد كوفئ، ولكن بسلسلة من الشتائم والإهانات والضرب والغرامة والسجن "وبكل ما استطاعت الرجعية والمحافظة أن تصيبنا، فإننا لم نكد نخطو في مشروعنا بضع خطوات حتى ثارت علينا ثائرة الرجعيين والمحافظين، فأخذوا يدعون لمقاطعتنا، ويتهموننا بالكفر والزندقة والخروج على الأدب والأخلاق متعامين عن نبل مقصدنا وحسن نيتنا". ويذكر جود المحرم اللغوي في الحملة عليه وعلى جريدته، بدعوى "استعمال ألفاظ قضت إليها الضرورة، وقد سبقتنا إليها الكتب السماوية، وأنهم يريدون من هذه الجريدة أن تكون أكثر حشمة من التوراة والإنجيل والقرآن ومتجاهلين تلك الصحف الأجنبية والعربية الخليعة الداعرة التي تباع بالأسواق وبأيدي الباعة، وتُعرض بصورها المكشوفة المثيرة في واجهات الحوانيت". ويعدد جود مما أنجزت جريدة "القانون الطبيعي" خلال فترة قصيرة أنها كشفت الستار "عن كثير من المخازي والرذائل التي يمارسها الشبان والشابات، والتي تجري في كثير من البيوتات الراقية، مثل العادة السرية، والصوفات (قطع من الصوف ن. س)، التي تستعملها العجائز للمرأة العقيمة بداعي أنها مغموسة بعلاج يسبب الحمل، وهي لم تكن مغموسة إلا بمني رجل آخر. وكم سببت هذه الصوفات من أمراض زهرية للكثيرات من النساء الشريفات. وبيّنا الأضرار الصحية والاجتماعية التي تنجم عن عدم وجود التكافؤ الجنسي بين الزوجين، واضطرابات الحيض، وتحديد النسل، والبرود التناسلي، والهيجان التناسلي، والحالات النفسانية التي تعتري المرأة تبعًا لدورتها الشهرية، وأخطار المسكرات والمخدرات والبغاء السري والعلني، وكثيرًا من هذه الأبحاث القيمة التي لم يتسع بنا المقام لذكرها".
بعد إغلاق جريدة "القانون الطبيعي"، جاءت جريدة "الغول"، التي ستصبح جريدة "الإخلاص" الأسبوعية، بمشاركة الصحافي أمين الحداد. ويخبر عبد السلام جود أن "الإخلاص" ستصدر شهريًا عددًا ممتازًا أشبه بمجلة، في ستين صفحة، يترأس تحريرها أمين الحداد، ويساهم في تحريرها نخبة من الأدباء الممتازين، وموضوعاتها شتى، منها موضوعات جنسية.
هكذا كانت الصحافة، إذًا، في اللاذقية، التي ليس فيها اليوم غير صحيفة "الوحدة" الإلكترونية، بينما كانت فيها عام 1958 إحدى عشرة صحيفة، أغلقت في عهد الجمهورية العربية المتحدة والوحدة بين مصر وسورية (1958 ــ 1961). ولما وقع الانفصال وانتهت الوحدة عام 1961، صدرت في اللاذقية تسع صحف. وإذا كان الأمر كذلك في مدينة عدد سكانها 66000 عام 1960، فكيف كان الأمر، إذًا، في سورية كلها؟ وإلى أي منقلب انقلبت سورية، وفي أي دركٍ، إذًا، هي اليوم؟!