}

تعلم كيف تموت: قراءة في "فيدون" لأفلاطون

ماييل غارزان 24 ديسمبر 2024
استعادات تعلم كيف تموت: قراءة في "فيدون" لأفلاطون
لحظة تجرُّع سقراط السمّ، جاك لوي دافيد، 1787 (Getty)

 

ترجمة: إسكندر حبش 

تدور أحداث حوار أفلاطون "فيدون" في اليوم الأخير من حياة سقراط، وهو اليوم الذي سبق إدانته بالموت لأسباب كاذبة وملفقة. سُمح لبعض أصدقائه بزيارته في زنزانته قبل أن يشرب الشوكران. ثم تبدأ المناقشة حول موضوع الموت الجاد والكوني.

في مقالته هذه، يستعيد الباحث السويسري/ الفرنسي ماييل غارزان (مواليد عام 1987)، المختص بالفلسفة القديمة، حوار "فيدون" لأفلاطون ليركّز فيه على ثيمة الموت التي يجد أنها تشكّل عصب هذه المحاورة. وكان نشرها في مجلة "الفلسفة الإلكترونية" بتاريخ 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2020.

النص

سواء أكان ذلك من خلال العرض المسرحي الذي اقترحه أفلاطون (الساعات الأخيرة قبل إعدام سقراط) أو من خلال محتوى الحوار نفسه (خلود الروح والصلة بين الروح والجسد)، فإن الموضوع الرئيسي لــ "فيدون" هو الموت. ماذا يجب أن يكون موقف الفيلسوف في مواجهة الموت؟ هذا هو السؤال الذي طرحه وأجاب عليه حوار أفلاطون الذي حمل عنوان "فيدون".

يشكّل هذا النص إرثًا طويلًا في التأمل القديم في الموت، سواء عند رواقيي العصر الهلنستي والروماني، الذين اعتبروا سقراط نموذجا للحكمة والفضيلة في مواجهة الموت، أو عند الأفلاطونيين الجدد في العصور القديمة المتأخرة، الذين اعتبروا في قراءاتهم، كما في تعليقاتهم، أن [محاورة] فيدون تشكل أصل ممارسات تطهير الروح المنتشرة في كل مكان في طريقة الحياة الفلسفية.

ماذا يجب أن يكون موقف الفيلسوف من الموت؟ وكيف يجيب أفلاطون على هذا السؤال؟ بادئ ذي بدء، يرتبط موقف الفيلسوف تجاه الموت بمسلّمتين تمّ طرحهما والدفاع عنهما في محاورة فيدون: خلود النفس والارتباط بين الروح والجسد. ومن هاتين الفرضيتين تنبع مهمة معينة، يجب أن تكون من مهام الفيلسوف: العناية بالنفس. في الواقع، إذا كانت الروح خالدة، وإذا كان الأهم عندي هو الروح وليس الجسد، فإن روحي هي التي يجب أن أعتني بها كأولوية، وليس جسدي:

"وهكذا، بشكل عام، فإن هذا الرجل [الفيلسوف]، بعيدًا عن الاعتناء بجسده (στο σόμα)، ينفصل عنه قدر استطاعته، ويوجه انتباهه نحو روحه (النفس) (ψυχή)".

(أفلاطون، فيدون، المقطع 64 e .)

ممّا تتكون العناية بالروح؟ بالنسبة إلى أفلاطون، فإن الاعتناء بالروح يعني فصل الروح عن الجسد قدر الإمكان:

"ولذلك فإن الفيلسوف يكشف عن نفسه أولًا في حالات هذا النظام: عندما يفصل روحه قدر الإمكان، وأفضل من أي شخص آخر، عن التجارة التي توحدها بالجسد".

(أفلاطون، فيدون، المقطع 64e – 65a).

إن الاعتناء بالنفس يعني فصل الروح عن الجسد قدر الإمكان، فيكون الجسد بمثابة سجن للروح، فالجسد يحبس الروح أسيرة العالم الحساس، المادة، بينما يطمح، من خلال طبيعته غير المادية، إلى الانضمام إلى العالم المعقول، أو بمعنى آخر، للوصول إلى الحقيقة. إذا كانت النفس مسمّرة في الجسد (فيما لو استخدمنا مجدّدًا إحدى الصور من محاورة فيدون)، فلا يمكنها أن تنفصل عنه لتنضم مجددًا إلى الحقائق المعقولة التي تطمح إليها.

بالنسبة إلى النفس شديدة التعلق بالعالم المحسوس، يمكن للجسد أن يكون في الواقع عائقًا أمام تأمل الحقائق المطلقة (أو الحقيقة)، وهو ما يسميه أفلاطون في محاورة فيدون الفكر الخالص (أي الخالص من أي صلة بالجسد). لذلك يجب أن نركّز على الروح وحدها، وننسى الجسد. يتناول المقطع التالي هذا الجهد الضروري للنفس التي تبحث عن الحقيقة:

- متى إذًا، يقول سقراط، تبلغ الروح الحقيقة؟ في الواقع، عندما تتولى دراسة سؤال ما بمساعدة الجسد، فإنها تنخدع به تمامًا، وهذا واضح جدًا.

- أنت على حق.

- لذا، إذا ظهرت حقيقة كائن للروح، فمن الواضح أن هذا يحدث في فعل الفكر ذاته؟

- أجل.

- والنفس تفكر بشكل أفضل من أي وقت مضى، من دون أدنى شك، عندما لا تضطرب لا من السمع ولا البصر ولا الألم ولا اللذة، وعندما تنعزل في نفسها قدر الإمكان: تتحرّر من العالم. الجسد، ويقطع قدر الإمكان كل التجارة والاتصال به، فهو يطمح إلى ما هو موجود.

- هذا هو الأمر بالفعل.
- أليست إذًا روح الفيلسوف هي أشد احتقارًا للجسد، وتهرب منه، وتسعى إلى عزل نفسها داخل نفسها؟
- هذا واضح.

(أفلاطون، فيدون، 65 b-d).


لدينا في هذا المقطع تمييز واضح بين المعرفة الحسيّة الآتية من الحواس والتي تخدعنا من ناحية، وبين المعرفة المعقولة الآتية من الفكر المحض من ناحية أخرى. والفكر الأخير النقي هو وحده القادر على الوصول إلى الحقيقة الموجودة. والآن، هذا ما تطمح إليه النفس: معرفة الموجود، أي قول الحقيقة. إن الاعتناء بنفسك يعني إذًا فصل الروح عن الجسد للوصول إلى الحقيقة بالفكر الخالص. هذه إذًا مهمة الفيلسوف: فصل الروح عن الجسد، والتركيز على النفس وحدها للوصول إلى الحقيقة بالفكر الخالص.

لذلك يمكننا أن نقول إن حياة الفيلسوف، بقدر ما يمارسها، طوال حياته، بانفصال روحه عن الجسد، هي استعداد للموت، لأن هذا بالضبط ما سيحدث عند لحظة الموت: ستنفصل الروح من الجسم. وبهذا المعنى يمكن تعريف الفلسفة بأنها تمرين للتحضير للموت، بنفس الطريقة التي يكون بها التأمل في الموت، عند ماركوس أوريليوس، تمرينًا يجلب الصفاء الضروري لسعادة الفيلسوف الرواقي. بهذا المعنى، التفلسف يعني ممارسة الموت:

 "إذا كانت النفس في لحظة انفصالها طاهرة ولا تأخذ معها أي شيء يخرج من الجسد (...)، ألا يعني ذلك القول بأن هذه النفس تمارس الفلسفة بشكل صحيح، وأنها تتدرّب على الموت بدون أي صعوبة. أليس هذا بمثابة ممارسة الموت؟".

(أفلاطون، فيدون، 80e – 81a).

إن التفلسف يعني ممارسة فصل الروح عن الجسد، وبالتالي فهو أيضًا ممارسة للموت. لماذا؟ لأنه طوال حياته، سيحاول الفيلسوف قدر الإمكان (ولكن ليس بشكل كامل) أن يفصل الروح عن الجسد، أن يفصل هنا في الأسفل، قدر الإمكان، الروح عن الجسد، وهو الانفصال الذي سيحدث بالفعل في وقت الوفاة.

إذًا، كيف يمكننا فصل الروح عن الجسد؟ ماذا يجب على الفيلسوف أن يفعل لفصل الروح عن الجسد قدر الإمكان؟ ماذا يعني، بشكل ملموس، ممارسة الموت؟ وعليه أن يقوم بفعل شيئين مرتبطين ببعضهما البعض.

عليه أولًا أن يهدّئ الرغبات والأهواء، أي المسامير التي تربط الروح بالجسد:

"كل لذة، وكل ألم، كأنما لهما مسمار يسمران به الروح في الجسد، يثبته في ذاته، ويعطيه شكلًا هو شكل الجسد، لأنه يأخذ على أنه حقيقي كل ما يمكن للجسد أن يعلنه له على هذا النحو".

(أفلاطون، فيدون، 83c-d).

إن الابتعاد عن الملذات والآلام التي تسمر الروح في الجسد، هذا هو هدف الفيلسوف:

"لذلك فإن روح الفيلسوف الحقيقي تعتقد أنه لا ينبغي أن يعارض أي شيء هذا التحرّر [تحرّر الجسد]؛ فتبتعد عن الملذات والرغبات والآلام والمخاوف بقدر ما في وسعها".

(أفلاطون، فيدون، 83b ).

إن الابتعاد عن الآلام الجسدية والملذات لتحقيق استقلال الفكر هو ما يعنيه أفلاطون، أن يتعلم الموت، وهذا بالنسبة لأفلاطون تمرين الاستعداد للموت


لكن هذا ليس كل شيء. وبما أنه لا ينبغي له أن يتبع ما يقوله له الجسد فماذا يفعل؟ يجب عليه بعد ذلك أن يكرّس نفسه قدر الإمكان لما يسمّيه أفلاطون "الفكر الخالص"، والذي يسمح، من خلال فصل نفسه للحظة عن أي ارتباط بالجسد، بالتأمل في الحقائق المطلقة، أي ما هو موجود. هكذا يصف سقراط الحياة الفلسفية، وبالأخص حياة روح الفيلسوف:

"إنها تهدئ عواطفها، وتتبع خطوات التفكير، ولا تتوقف أبدًا عن الاهتمام، وتتأمل الحقيقي، والإلهي، وما لا يشكل موضوع الرأي هو قوته. تعتقد أنه يجب أن تعيش هكذا طوال حياتها، وأنها متى جاءت ساعة نهايتها ستتجه نحو ما يتوافق مع طبيعتها، نحو ما يشبهها، وأنها ستنجو من البؤس البشري".

(أفلاطون، فيدون، 84a-b).

إن الابتعاد عن الآلام الجسدية والملذات لتحقيق استقلال الفكر، هو، بشكل ملموس، ما يعنيه بالنسبة لأفلاطون، أن يتعلم الموت. وهذا بالنسبة لأفلاطون هو تمرين الاستعداد للموت.
الآن، إليك بعض الاعتراضات الشائعة على موقف سقراط تجاه الموت والتي أود الإجابة عليها بناءً على قراءتي لرسالة فيدون: انفصال الروح عن الجسد، أليس هذا بالضبط ما يحدث أثناء الموت الجسدي؟ بالنسبة لأفلاطون، في الواقع، عندما أموت، تنفصل روحي عن الجسد، ومن ثم يتم إنجاز ما حاول الفيلسوف القيام به طوال حياته: فصل الروح عن الروابط العنيدة التي تربطها بالجسد. في هذه الحالة، لماذا لا ننتظر الموت بهدوء، ونستمتع بالحياة في العالم المعقول، بينما ننتظر الموت الذي سيفصل الروح عن الجسد بدقة؟

وللرد على هذا الاعتراض، يحدّد أفلاطون ما يلي: ممارسة الإنسان طوال حياته لفصل الروح عن الجسد تسهّل انفصال الروح عن الجسد عند الموت. على العكس من ذلك، فإن الروح مثبتة على الجسد طوال حياتها، من خلال الآلام والملذات التي تعلّقت بها، والتي اعتبرتها حقيقية، ومن الصعب أن تنفصل عن الجسد في لحظة الموت. لا بدّ لي من الاعتناء بروحي، ليس فقط في لحظة الموت، بل طوال حياتي، لأن انفصال الروح عن الجسد ليس بهذه البساطة ويتطلب الكثير من الجهد. ولهذا السبب أيضًا تعتبر الفلسفة تمرينًا، أي جهدًا متواصلًا لفصل الروح عن الجسد. ومثل أي تمرين، يجب تكراره حتى يكلّل بالنجاح.

كيف يمكننا أن نفهم فرحة سقراط لحظة الموت؟ إن لحظة الموت هي لحظة تتويج حياة مليئة بالجهد تتمثل في فصل الروح عن الجسد قدر الإمكان. ومن هنا كان موقف سقراط من الموت. على العكس من ذلك، إنها ليست لحظة حزينة، ولكنها إنجاز لحياة بأكملها، حياة مليئة بالجهد تمّت مكافأتها أخيرًا. هذه هي الطريقة التي يجب أن نفهم بها صفاء سقراط في مواجهة الموت:

"إذا كان كل هذا صحيحًا، فإن هناك أملًا كبيرًا لأولئك الذين وصلوا إلى حيث أنا ذاهب الآن، في الحصول على كمية كافية، وهناك أكثر من أي مكان آخر، ما كان بالنسبة لنا هدف مثل هذا الجهد الكبير طوال حياتنا الماضية. كما أن هذه الرحلة، تلك الموصوفة لي الآن، مصحوبة بأمل نبيل، وهذا ينطبق على أي رجل يعتبر أن التفكير جاهز للممارسة، لأنه كما لو كان مطهرًا".

(أفلاطون، فيدون، 67b). 

فإذا كان الفكر هو أجمل هنا على وجه الأرض، فلا ينبغي للفيلسوف أن يحزن بالموت، لأنه سيجد الفكر النقيّ بعد الموت. سيكون من غير المنطقي أن يبدأ بالخوف من الموت في نهاية حياته، في اللحظة التي يستطيع فيها بسهولة تحقيق ما حاول تحقيقه بصعوبة بالغة طوال حياته. وهكذا رأينا أن الفيلسوف، بالنسبة لأفلاطون، يجب أن يعتني بروحه، وبالتالي يمكن تعريف الفلسفة الأفلاطونية بأنها شفاء أو علاج للروح. بالنسبة لأفلاطون، الفلسفة تعني الاهتمام بروحك، وفصلها قدر الإمكان عن الجسد والمادة. ومع ذلك، فإن الاعتناء بروحك يعني الاعتناء بنفسك. إن ما يميّزني، بالنسبة لأفلاطون، في الواقع، هو روحي أولًا وقبل كل شيء. أن تتفلسف هو، قبل كل شيء، أن تعتني بنفسك:

"من خلال الاهتمام بأنفسكم فإن كل ما يمكن لكم أن تفعلونه سيجلب السعادة. ولكن إذا كنت لا تهتم بنفسك، فحتى لو قمت بكل الالتزامات الممكنة، فلن تتقدم أكثر".

(أفلاطون، فيدون، 115b).

نرى هنا بوضوح كل ما تنطوي عليه الفلسفة الأفلاطونية. لقد رأينا أن العناية بالنفس تتطلب موقفًا معينًا من الفيلسوف تجاه الملذات والآلام، وانعزالًا عنها، كما أنها تتطلب منهم أيضًا مهمة محددة جدًا: أن ينغمسوا قدر الإمكان في الفكر النقي. ولذلك فإن العناية بالنفس تتطلب طريقة معينة للحياة، وتشمل حياة الفيلسوف بأكملها. أن تصبح فيلسوفا يعني الالتزام بطريقة معينة للحياة. لا يقتصر الأمر على الاعتقاد بأن بعض الأفكار صحيحة والبعض الآخر خاطئ، بل هو اختيار العيش بطريقة معينة، وفقًا لهدف محدّد: فصل النفس عن الجسد، والاستعداد اليومي للموت الجسدي وانفصال الروح من غلافها الجسدي.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.