لو كان الزمن الآن يوافق ما قبل الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، لهتفتُ يا عيسى الشيخ حسن، طالبًا جُهْدَ الصدى في تمكينِ صوتي من قَطْعِ بلادٍ ومدنٍ وقرى وضِيَعٍ وخِرَبٍ وأنهرٍ وجبالٍ وفيافٍ، قائلًا: "يا صديقي... أيها الباحثُ مثلي عن إجابةْ في الطريقِ؛ ضلّ أصحاب المغنّي وانحنى ظهر الربابةْ". وأمَّا وقد أُتيح لي مجْدُ الكتابة عنكَ/ ولَك/ وعن روايتكَ الجامعة الصادحة "خربة الشيخ أحمد"، في زمن سورية الجديدة (أحبّها بالتاء المربوطة حبيبتي سورية)، فإن هتافي اليوم: ظرفُنا بات مليانًا يا صاحبي... وها نحن صُبحان متآخيان من شمسٍ وأرغفةٍ... متلازما الحلمِ والنَّهجِ والأمنيات... متماهيا السَّوادي... وأننا جميعنا أبناء قحطان وعدنان، "من بلادٍ تؤاخي الموتَ... كي يقفا".
وإن كنتَ، مثلي، على قلقٍ كأنَّ الريحَ من غرْبِ الخَرابِ، فاطمئنّ يا ابن البلد الأصيل: "إنْ خرْبت وراها آذار، وإنْ عِمْرَتْ وراها آذار".
أنا يا ضيف (شاخصتي)* لم أزْجُر عينيَ اليُسرى حين بكت وجعَها السوريَّ الكبيرَ... ولا حلْم حين الغضبُ لوجهِ الحقّ، ووجدانِ الحقيقة، وحين يَجُزُّ هذا الحلْمُ (التسامح) أركانَ العدالة ولا {يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}. وتذكّر أنني ما أزال أردّد معك: "الغناء الذي جرحَ خدَّ الليل، طائرٌ صغيرٌ يبحثُ عن نَهار".
ما يزال النداء هو نداء إبراهيم ابن ناصيف اليازجي في صفحات خربتك الزاهية: "تنبّهوا واستفيقوا أيّها العربُ/ فقد طمى الخطبُ حتّى غاصت الركبُ"، فما أحوجنا اليوم عربًا وكردًا وأعاجم إلى الاستيقاظ وقد انكشفت المؤامرة الغربية الاستعمارية الصهيونية الكبرى التي بدأت قبل 225 عامًا، عن آخر خيوطها، فإمّا نحن وإمّا نحن، فلا خيار ثالث في جعبتِنا لأنّه خَيارُ اندحارِنا النهائيّ الحاسِم، بل قل لا خيار ثان، فتمسكّنا بوجودِنا ونهوضِنا من جديد، هو خيارنا الوحيد.
وما يزال الفلسطينيّ هو مضرب المثل بالشتات والضياع والظّلم الكبير، على (قولة) ياسين في متن الرواية: "يا اللـــ اااااااااـه... يا ربّ عفوك... صار علينا مثل الفلسطينيّة".
أتعلم يا صاحبي أنك لم تكن لتحتاج، لو كان من يقرأ "الخربة" أردنيٌّ، أو فلسطينيٌّ، لكل هذه الهوامش التوضيحية لمعنى مفردات ريفكم ولهجات (الشّوايا) في بلادكم، فقد رصدتُ (حتى تعبتُ وتوقّفت) عشرات المفردات المتشابهة بين لهجاتِنا على تباينِها، ولهجاتِكم على تنوّعها. ومنها للتمثيل لا للحصر ولا بأي شكل: شوفير، سياگنا، النوفوتيه، تالي الليل، زْلُمَة/ زَلَمِة، إيمتى، شنص، مصخّم/ مسخّم، يستعوگونّا (ولكن بدون شدّة على النون)، الورّادات، الطاسة (بمعنى الرأس)، يخسا الجوع، يتكشّف حسبنا، يروح بيها، الكاروك/ الكريك، التعليلة، سوالِف، لسّع/ لسّه، شـ وَدَّك منّو، حارِن، يخسا الجوع، دفْيان، شلونَچ، النشامى، خطلة، أُكْلِي. ومثلما عندكم ذيابات لدينا ذيابات عشيرة كبيرة من عشائر الرمثا شمال الأردن في قلب حوران. وكما كانت عاداتكم في ولائم المناسبات، كان يتسابق الأولاد عندنا بعد تناول الضيوف للطعام، مع أباريقهم البلاستيكية، وقطع الصابون الملوّنة، والبشاكير الملفوفة حول أعناقهم، يصبّون لهم الماء. وفي الأعياد كنّا نغنّي، كما كنتم تغنّون: (بكرة العيد وبنعيّد وبنذبح بقرة سعيّد). وجدّاتنا (حبّاباتكم) يحلّفون من يودّون استجوابه بـ(صلاة محمد). ونظرتنا لـ(المشرّقين) واحدة: (يا رايح صوب مشرّگ/ مشرّگ ما بو ربيعي). ومنجِزُ الثأر عندنا يقول (خذها وأنا أخوك يا فلان) وفي الرواية صرخ من حاول إنفاذ الثأر (وأنا أخوك يا حسن).
هي روايتُنا، إذًا، الجامعة، يئنّ جبل كوكب فيرتد الصدى وجعًا وحداءاتٍ ومواويلَ مصيرٍ مشتركٍ فوق جبال عجلون والشّراه والخليل. يجدبُ وادي الفُرات فتغرقُنا الصّحاري. تَعْقِدون للحَجِّ فتعمُرُ الدروبُ بالقوافلِ وتسبقُنا نحوَكم الأيائِل. ولكُم، كما لنا، من حلبٍ نصيبٌ كنعانيٌّ شآميٌّ حضاريٌّ عميمٌ تموسقهُ الأغاني، وينهضُ زادُهُ في الأضاحي. وربما لنا، كما لكم، نصيبٌ من بلقيس القحطانيّة المُتواريةِ في الكتب المقدّسة بانتظار سطوعِها من عدن مُسيّرةً فدائيةً نحو أمّ الرَّشْراش.
هذا ما كان منّي اندفاعًا وتناصًّا، لا بل ربما تماهيًا مع روايتك الأولى يا صديقي، الصادرة عن دار "موزاييك" للنشر والتوزيع، وتاليًا محاولة قراءة منهجية.
الرواية القصيدة
يستند الشاعر والأديب السوري عيسى الشيخ حسن، في روايته الأولى، إلى البلاغة الشعرية في السرد الروائي، بوصفها حاملًا وجسرَ عبورٍ نحو مقاصده في التأثير وتجويدِ مكامِنِ الرواية من حجرٍ وبشرٍ وشجرٍ ومواقعِ أحداثٍ وتقلّباتِ دروبٍ وقرى ومرابعِ صبْرٍ طويل، كأن يقول في واحد من هذه الإسنادات التي تحتشد بها الرواية: "كان ياسين ابن القريتين معًا، منذ تصالَحَ العجوزان اللذان فرّقت بينهما فرسٌ قديمة"، أو: "يتبادلان العتاب القديم، وصور القبيلة الآتية من الجنوب، ويتذكّران وقائع حروب قبليّة لم تهملُها قصائد الشعر، ولا أسماء الأماكن التي أُطلقت على التلال والأودية".
في هذا السياق، تكاد شعرية السرد تشكّل هوية من هويات الرواية التي يمكن النظر إليها بوصفها رواية تاريخية مكانية اجتماعية، ويمكن القول إنها قصيدةٌ جداريةٌ معلّقةٌ من أوّل جرابلس وحتى آخر نصيب، فلستُ مع من يرون فيها رواية (شاويّة) فقط (نسبة إلى شوايا سورية الذين يصفهم التعريف النمطيّ المُجتزأ من الشبكة العنكبوتية أنهم مجتمعات نصف بدوية، نصف متنقّلة، نصف مستقرّة، يوائِمون بين الضّرع والزّرع، طلّقوا الإبل، واقتصروا على الشاه). إنها تجوالٌ جماليٌّ تأمّليٌّ لا يبدأ من البوكمال، ولا ينتهي في حماة نحو الساحل. وفي كثير من سياقاتها السرديّة والتعريجيّة ترتقي إلى كونها تغريبةً سوريةً تستجلي مصائر تجمّعات صغيرة وعوائل منسيّة، لعِبت أحداث عامة سياسية واقتصادية ومجاعات وسيول وثارات وصراعات ومنافسات دورًا حاسمًا في تحديد هذه المصائر، وفرْضِ مآلاتها على هذه العوائل وأبناء العمومة وإِخْوة الأرض إنْ أقوَت أقوُوا، وإن نهضت نهضوا.
لا يتوقف المدّ الشعريّ في الرواية عند الاقتباسيْن أعلاه، فهو لا يقل عن الفرات جريانًا: "تحية الشمس الحارّة تلقيها على الزيتون العجوز في الحقول"، "منصرفًا إلى حواريّة الشمس والجبال"، "هم الأهل القدماء الجدد المضيَّعون المضيِّعون"، "شمس الضحى المواربة"، و"الظهيرة التي تسقط في مربع صغير وسط الغرفة"، و"المساء المتدرّج".
شعريّة تكبر حتى تصبح بحجم جزيرة، أو تدنو لتحدبَ على عصفورٍ "قفز ورفرف قليلًا ثمّ حطّ على الدالية"، أو ترهف السّمع والمجسّات فتحسُّ "بِعنادل وطيور تغرّد في تلك القرية البعيدة". شعريةٌ تؤنْسِنُ ما حولها من أشياء وجَمادات ومُفرداتٍ بيئيةٍ خاصة بأجواءِ الرواية: "طووا بيت العزاء بحزنٍ وافر، أناخوا البيت بهدوء وكأنّه جمل، لفّوا الحبال والأوتاد، وجاءت "تريلّا" سعيد المحسن، وحملت البيت إلى مستودعٍ كبير". إنها شعريةُ الوجْد والانحياز إلى أقدار أبطال الكتاب: "وحيد مثل هذا القطار، يمرّ بقرًى ومزارع مثل عابر سبيل". أما حَسْنة حبيبة ياسين وغنْدورة الدّير التي تشرقُ مع إشراقة ابتسامتِها الغُرَيْفة الصغيرة، ويأْنسُ الحوْش، وتتراقصُ العناصر، فقد خصّها الشيخ حسن بلحظة شعرية وارفة الظلال: "كانت حسنة تسمع الأغنية التي هربت من أناشيد المعركة، وهوساتِها، وبياناتِها العسكرية". لا تردد شعرية عيسى في معزوفته السرديّة الطويلة الأولى، من اقتحام فقرة تحليلية فلسفية معرفية، ومع ذلك لم يبخل عليها ببعضٍ من لغته الشعرية: "في سنوات الحرب تستيقظ الشرور الإنسانية الصغيرة، ولكنّ بصيصَ الإنسانية يتجمّر في شيءٍ ما: عود حطب، فتيل سِراج، نخوة عجوز، حكمة عابرة، وهذا ما كان، تجمّعت الجارميّة في وجه المجاعة والحرب، ومدّوا سفرةً واحدة، وشربوا من ضرع ماشية البدويّ، وأكلوا من خير الحقول المتناثرة حول الضيعة". شعرية في الوصف، تمامًا كما هي في السرد: "القرية النابتة في كفّ الصحراء مثل وشمٍ قديم". أو في قوله: "البيوت النابتة كأصابع في كفّ الحماد الممتدّ". أو في قوله: "الشمس الوحيدة تباريهم جهة الغرب فتغْطُسُ وتطْلعُ في حواريّة الجبالِ والأوْدية". شعريّةٌ لا تخرّب إيقاع السّرد، ولا تعْتدي عليه، بل تذوب معه في جَدْلِ عريشِ الحكاية، منهمكان، كلاهما، في إمتاعنا ببعديّ الإمتاع المُكمّليْن لِبعضِهِما: المبنى والمعنى، كما، على سبيل المثال، في هذه الجملة: "الندهة التي ذكّرت قاسم بنهرٍ صغيرٍ من الذكريات متخفٍّ هناك خلف تلّةِ البارود والنّار".
الرواية البطّوطيّة
كما أسلفتُ، تتجلى رواية "خربة الشيخ أحمد" بوصفها رحلةً بطّوطيةً قد تنحصر في سورية وحدها عند الحديث عن أسماء الأماكن، ولكنها تتّسع أكثر عند الحديث عن السّماتِ والعائلاتِ والعاداتِ والمأكولاتِ وتصيرُ قحطانيّة عدنانيّة، وربما أوسع من ذلك وأشمل.
إنها رواية التجوالِ الممتدّ: "طريق حارم حلو كتير، وخصوصًا بها الأيّام، بساتين وشجر وقرى ع الطريق، خان العسل بعدين أورم الكبرى وبعدين أورم الصغرى وبعدين تجيك الدانا... وبعدين سرمدا". وفي التجوال يصل بابًا يدعى "باب جنين". ويمرّ (البيك اب) على شارع حارم الرئيس، ثم "القلعة المهيبة والبيوت القديمة". ولِعرب الفرات في التجوال نصيب. وفيها أسماء أماكن قد تكون تغيّرت: "الروج، والعمْگ". ولا أدري حين يذكر الحمّاد، هل يقصد وادي الحمّاد (أو سيل أبو حمّاد) في القنيطرة على الحدود بين فلسطين وسورية، أم يقصد حمّادًا آخر في وادي الفرات؟ ولا ينسى المرور على "حمص وحَما"، تمامًا كما لا ينسى الشام: "يا زارع البزرنكوش/ ازرع لنا حنّة وجمالنا لـ غرّبن/ ع الشام ما جنّا". وفيها، جولات الرواية، قرية صغيرة اسمها الداوديّة، وفيها كفر هند، والسعيديّة، وتلّ عمار، ونهر العاصي، وقرية الشيخ رضوان بريف حماة، والشهيب، والسعن، والعقربات. ثم يمضي التجوال جنوبًا نحو "العيس فالحاضرة". تلّ الضمان اسم مكان آخر من أمكنة الرواية، وكذا الجنينة والسِّعن وجبلَيّ سمعان والحصّ والبلْعاس وقلعة ماردين وقرى الميادين، أمّا "الغنّامة" فقد تكون اسم مكوّنٍ كرديٍّ أكثر مما هي اسم مكان ما من أمكنة الرواية الكثيرة الوفيرة.
إنسانيةُ الخِرْبة
في "خربة الشيخ أحمد" مَدَيَاتٌ إنسانيةٌ لا يتّسعها المدى:
1 ــ العلاقةُ الإشكاليةُ المعقّدةُ المتداخلةُ بين الشيخ أحمد شيخ "خِرْبة الشيخ أحمد" وبين الشيخ العبد اللطيف شيخ قريةِ "الصفْرة". وهي علاقة رغم ما لمّحت إليه الرواية من ندبةٍ قديمة حول فرسٍ قديم، إلا أنها انتهت بانتصارِ البعدِ الإنسانيّ العائليّ البهيج، فجميعهم، حِسْبة أحمد وحِسْبة العبداللطيف غادروا، مرغمين، جنوبَهم، نحوَ مستوطناتِ وجودِهم الجديد. وجميعهم شوايا بحسبِ أهل المُدُنِ والمآرِب.
2 ــ حاجة الإنسان في شرقِنا (وأقصد قصّة ياسين) لسندٍ عشائريٍ مرجعيٍ لا لُبْسَ فيه.
3 ــ علاقة ياسين بربعِهِ الجُدُد؛ بأبناءِ إخوته بالتبنّي، بالمدى المُتاح أمامه أن يُحبّ، ويحضُن، ويدعَم، ويكُون.
4 ــ غيرةُ حسْنة الطبيعية الإنسانية من (مَخْوَل) ياسين الذين ظهروا فجأة، خصوصًا من نساء هذا المَخْوَل.
5 ــ الجامعُ الإنسانيُّ المشتركُ بين أهل سورية المطلوب منهم أن يروْا كلَّ ما فعله النظامُ الآفلُ ثمانينيات القرن الماضي، ومع ذلك عليهم أن يواصلوا حياتهم.
6 ــ البعدُ الإنسانيُّ الذي شفّ بوضوحٍ أحيانًا، وأحياناً بِموارَبة، حول طريقةِ متابعةِ أهلِ الجزيرةِ للحرب التي دارت رَحاها بين العراق وإيران مطالع ثمانينيات القرن الماضي، ومفردات الموقف الذي عليهم أن يتبنّوه حول هذه الحرب.
7 ــ حاجةُ الإنسان للبيتِ والدفءِ والأمنِ والعائلة.
8 ــ حاجةُ الإنسانِ للحُبِّ والقلبِ والجلّنار.
9 ــ حاجةُ الإنسانِ لِلكرامةِ والعَدالة.
10 ــ حاجةُ الإنسانِ لِلمعنى.
11 ــ حاجةُ الإنسانِ لِلمبنى.
12 ــ حاجتهُ لِلذكّرياتِ وَالمساحاتِ والملاعبِ والأترابِ و"الأتارِب".
13 ــ علاقةُ الإنسان بمفرداتِ وجودِهِ من آلاتٍ واختراعاتٍ ومُمْكِناتٍ.
14 ــ علاقةُ الإنسانِ بالفصولِ والمتوالياتِ والجَدْبِ والخَصْبِ والطبيعةِ صحراء كانت، أو مدى أخضر، أو متوعّدة، أو حانيَة، أو واعِدة، أو مُنْكَفِئَة.
15 ــ علاقةُ الإنسانِ بالكائناتِ حولِهِ؛ بالشجرِ والماشيةِ والدواجنِ والضّواري والقوارضِ وحشراتِ العَدوى.
16 ــ علاقةُ الإنسانِ بالشِّعرِ والأدبِ؛ محكيهُ وفصيحهُ ومتوارثهُ، بالأمثالِ، بالآمالِ، بالحكمةِ، بالنِّعْمةِ والنَّقْمَة.
ما أودّ أن أقوله إن "خربة الشيخ أحمد" روايةٌ إنسانيةٌ بامْتِياز، بأجلِّ وأجملِ آمادِ هذه الإنسانيةِ شجىً، تباريحَ بوْح، تصاريفَ قَدَرٍ، مُشْتركاتِ قِدْرٍ، وأنواءَ طبيعةٍ حاضنةٍ، قاسيةً أحيانًا، وأحيانًا حادِبة.
رواية ياسين
لا تمنحنا الرواية أي فرصة لعدم التقاط دلالات ياسين في الرواية ورمزيّته، فهي دلالات تعجّ بها، وأكثرُها لا يَتوارى خلف أيِّ لعبةٍ من ألعابِ البيان، بل يريدها صاحب النص دلالاتٍ مكشوفةً لِلعَيان؛ من سرد الاسم حتى الجدّ التاسع: "ياسين العبد العليم، الأحمد، المصطفى، الياسين، المحمد، الضامر، العلي، المطلق، الحسن، الضامر. نِرِد ع العتيج أخوْة ريّا"، كما ورد في صفحات الرواية الأخيرة، على لسان الحاج عبّود وهو يجيب عن سؤال (قرعة أبو من وين). مرورًا بقصة أن معظم نساء خربة الشيخ أحمد أرضعنه، فإذا به أخو جميع أبناء الخربة، تقريبًا، وبناتها بالرضاعة. وصولًا إلى تراجيدية قصته وملحميّتها، فإذا بنا أمام خصوصيةٍ طاغيةٍ يمنحها عيسى لِياسين، فهل في ياسين العبد العليم شيءٌ من عيسى شبلي؟ أم هل في عيسى قبسٌ من ياسين؟ على كل حال هذا ليس سؤالًا مندغمًا في صلب القراءة، ولا ينتظر جوابًا كي تكتمل. كما أن الرواية ليست سيرة ذاتية، وإن كانت سيريّة عند الحديث عن إلمامها بأدق تفاصيل حياة الشوايا، وانصهارِها مع مصائرِهم، ونهلِها من أدبيّاتِهم، وأعمقِ خصوصيّاتِهم، ومعرفتها الدقيقة بزرعِهم وضرعِهم، ونوْباتِ مواسمِهم، وأنّات نواحيهِم، ومصادرِ رزقِهم، وتجليّاتِ فرحِهم، ونُدوباتِ حزنِهم، ولطفِ سَكِينتهِم، وشموخِ وَقارِهِم، وما يتقنونَهُ من أخلاق الأنبياء، فـ"مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ".
يصف عيسى الشيخ حسن شمال شرقيّ سوريّة (المنطقة الكبرى التي ينحدر منها) بتوصيفٍ، يقول إنّه جغرافيّ، ويبدو أنه شائع هناك: (مُنقار البطّة). وأود أن أقول له: ها قد أنجب هذا المُنقار كل هذا الحشد من العلماء والثوّار والأدباءِ والشّعراء، أنا شخصيًا أعرف حق المعرفة والاحترامِ ثلاثينَ منهم على أقلِّ تقدير. أمّا البطّة فإن لها في الفرات نجْعةٌ لا بدّ تَرْويها.
* بدأتَ علاقتي بالصديق عيسى الشيخ حسن، حين أوردتُ، قبلَ أعوامٍ قليلة، اقتباسًا له، من دون أي سابق معرفة، في قصةٍ قصيرةٍ لي اسمها "شاخصة"، ولليومِ، لم تحظَ علاقتي به بلقاءٍ مباشرٍ من لحمٍ وَدم. لعلّه يتحقّقُ في سوريةِ الجديدة.