إنّ العمى، أو الصمم، أو الشلل، وغير ذلك من إعاقات، هي حالات مرضية تصيب الأفراد، لا الجماعات البشرية كلية، مهما كانت منتشرة، فلا يمكن اعتبارها جوائح مرضية عامة، حتى يتقاسم البشر التجارب والمشاعر عنها، وهذا ما عبّر عنه الشاعر والباحث الأميركي (Stephen Kuusisto/ ستيفن كوزيستو 1955) في كتابه "كوكب العميان"، والذي يعتبر سيرة ذاتية إلى حدٍ ما، حيث أسف في مقدّمة كتابه، لعدم تواجد كتب وبحوث وقصص وروايات في خمسينيات وستينيات القرن العشرين عن كيفية التعامل مع الأطفال الضعيفي البصر أو العميان، حيث عانى والداه الكثير من المصاعب لكي يؤمّنا له قبولًا في المدارس والمجال العام، ولو كانت تلك الكتب موجودة لهان الأمر أكثر. وبمقول آخر، لو اعتبرت هذه الإعاقات ذات طبيعة مجتمعية لعُني بها الرأي العام ولم تهمل. وما يقصده كوزيستو بأنّ أية تجربة بشرية يجب أن يسلط عليها الضوء وتدرس حتى لو كانت نادرة جدًا، فكيف بالأشخاص من ذوي الإعاقة المتواجدين بنسبة معتبرة في المجتمع.
ولكي نفهم الفرق بين الإعاقة كحالة فردية، والجوائح المرضية التي تصيب المجتمع، ونتبيّن المفارقة في استجابة المجتمع لكلتا الحالتين، لنأخذ على سبيل المثال جائحة الطاعون، حيث كتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (1313-1375) مجموعة من القصص تسمى "ديكاميرون" وكان الباعث لها وباء الطاعون، فالبشرية، على الأعم الأغلب، تعطي اهتمامًا للمشترك العام وتقصي الاستثناء الخاص من اعتباراتها، وهذا ما حدث في جائحة الكورونا في زمننا.
كنّا قد ذكرنا مرض الشلل أعلاه كحالة فردية لا مجتمعية، لكن في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي تحوّل إلى وباء في الولايات المتحدة الأميركية، ممّا جعله مدار اهتمام عام، وساعد انتشار هذا المرض في لحظ حقوق أصحاب ذوي الإعاقة الذين يعانون من إعاقات أخرى مختلفة. إنّ خروج الشلل من حالة فردية خاصة إلى حالة جماعية عامة؛ هو ما جعله ملحوظًا من قبل المجتمع، مع أنّ الشلل في تاريخ الإنسان كان موجودًا دائمًا. وفي المنحى ذاته أنتجت إصابات المعارك في الحرب العالمية الأولى والثانية اهتمامًا جديًا بالأشخاص من ذوي الإعاقات، من خلال تقصيّ حالات الجنود من ذوي الإصابات الحربية الدائمة، فظهرت قصص وروايات وبحوث وسير ذاتية تسرد المصاعب والمعاناة التي يتكبّدها الجنود بعد عودتهم من الحرب.
إنّ إثارة كوزيستو لهذه النقطة تكشف لنا، بأنّ النتاج البشري كان دومًا يوجّه إلى من يعدّون هم القاعدة ويهمل الاستثناء. وهذا المبدأ الاقتصادي الاستهلاكي، لم يخرج عنه لا الدين، ولا الأخلاق، ولا السياسة، ولا الثقافة، فوجود أصحاب ذوي الإعاقة، كاستثناء، في أيّة مروية بشرية كان لخدمة القاعدة، لا لمن هم من ذوي الإعاقة/ الاستثناء، فالعمى أو الشلل كثيمة في السردية الدينية، كانت تستخدم كجزاء رادع لمن يفكّر بالخروج عن تعاليم الدين.
أمّا في السياسة، فالملك أو الرئيس كان يجب أن يكون صحيح الجسد، فالرئيس الأميركي روزفلت كان يأمر الصحافيين بعدم تصويره كشخص مشلول، لكي لا تهتز صورته في أعين ناخبيه والشعب الأميركي. لم يلحظ المجتمع البشري أصحاب ذوي الإعاقة يومًا ككتلة بشرية، كالنقابات أو الطوائف أو الأحزاب... بل كان ينظر إليهم كأفراد، لا حول لهم ولا قوة، ولم يعاملهم إلّا في أواخر القرن العشرين ككتلة بشرية يجب مراعاة حقوقها والعمل على تمكينها للقيام بواجباتها وهذا ما ظهر في تشريعات الأمم المتحدة وفي قوانين الدول.
لقد عالجت الفنون والآداب قضية ذوي الإعاقة من منطلقات عديدة بين قوسي السلب والإيجاب، لكن هذه الإبداعات كانت دومًا تعتبر تمثيلًا للجماعة البشرية، حتى في أشد حالاتها فردية وعزلة، كرواية "أحدب نوتردام". وعندما ظهر فنّ السيرة الذاتية مع القديس أوغسطين (354-430) مرورًا باعترافات جان جاك روسو (1712-1778) كانت السيرة الذاتية تتناول قضايا اجتماعية في صلبها وإن تم تظهيرها من خلال الحياة الفردية، لذلك تأتي أهميّة السير الذاتية لذوي الإعاقة، لأنّها تُلحق (ألـ) التعريف بمن كان يُعتبر نكرة في المجتمع الإنساني، وذلك لأنّ تسريد الإعاقة من خلال وسيلة إشهارية ومعرفية كالكتاب؛ يعني بأنّ الأشخاص من ذوي الإعاقة قد دخلوا ضمن الثقافة المقبولة والمطلوبة في المجتمع، فالكتاب بيان لفكّ العجمة عن حيوات من هم من ذوي الإعاقة، فتصبح حيواتهم ضمن سياق المجتمع الذي كان معنيًا فقط بهمومه العامة والخاصة، بعيدًا عن حيواتهم ومصاعبهم. إنّ السير الذاتية خطوة جبارة في المسار الطويل الذي بدأ الأشخاص من ذوي الإعاقة بشقّه في صلب العقائد والأفكار البشرية التي تزدريهم. تعمل السير الذاتية كمترجم للغة يتجاهلها المجتمع أو يجد صعوبة في إدراك معانيها، ككلمة قديمة مقرّها في القواميس، لا على ألسنة الناس، والذي تنجزه السير الذاتية، هو إعادة تحيين هذه المفردة وضخّها في الفضاء العام، لكي تفهم وتدرك وتستوعب. تمثل السير الذاتية والمذكّرات والرسائل التي خطّها الأشخاص من ذوي الإعاقة فهرسًا تاريخيًّا يسمح لنا باستكشاف تموضعهم في المجتمع، وكيف طفقوا يثبتون حقوقهم وواجباتهم نحو جنسهم البشري. ولأجل ذلك سنركّز في هذا المقال على السير الذاتية لثلاثة أشخاص من ذوي الإعاقة، عملت سيرهم وحيواتهم وأفكارهم على تفكيك البداهات القارة في الفكر البشري وسنبدأ مع هيلين كيلر.
تعدّ سيرة هيلين كيلر الألف باء بالنسبة للسيّر الذاتية لأصحاب ذوي الإعاقة والتي نشرت في مطلع القرن الماضي، فقد شرّعت الباب الذي ظلّ مقفلًا أمامهم من أجل سرد حيواتهم الواقعية، لكن أهميتها تكمن في تغيير النظرة لبقية الحواس التي كانت مهملة فلسفيًا ودينيًا وثقافيًا كاللمس والشّم والذوق في مقابل حواس العقل: العين والأذن. لقد فقدت كيلر حاستين شريفتين برأي الفلسفة والدين والثقافة في عصرها، وهما: البصر والسمع، لكنّها استطاعت عبر حواس أخرى، كانت مزدراة، أن تتجاوز سطوة البصر والسمع كأدوات لحيازة المعرفة والفكر، إذ أنّ الأصابع تقرأ كالعين والجلد يسمع كالأذن، بهذه الطريقة بدّلت كيلر طريقة نظر الدين والفلسفة والثقافة في الفكر البشري، وإن لم تكن فيلسوفة أو قديسة.
أمّا السيرة الثانية، والتي تعتبر حاسمة بالنسبة لجميع الإعاقات الجسدية الحركية، فقد كُتبت بالقدم اليسرى للرسّام والكاتب الإيرلندي كريستي براون (1932-1981) وكانت بعنوان: "قدمي اليسرى". ولد براون لأسرة فقيرة، ولأنّه كان يعاني من الشلل الدماغي الذي تسبّب له بفقدان الحركة والنطق، ظن الجميع أنّه يعاني من ضعف في الدماغ يمنعه من التفكير. لقد كان كريستي يشعر بما يدور حوله ويسمع ويفكر، لكنّه لم يكن يستطيع الكلام ولا التعبير، إلّا أنّه كان يملك قدمًا يسرى يستطيع تحريكها، وفي لحظة أقرب لـ (يوريكا) أرخميدس خطّ على الأرض حرف الألف، بعد أن أمسك قلم طبشور بأصابع قدمه اليسرى، فلم يصدّقه والده، فشطب ما خطّه ابنه كريستي، ورسم له مثلثًا بدلًا من حرف الألف باللغة الإنكليزية. لم ييأس براون وكتب كلمة (Mother/ ماما) في تلك اللحظة عاد للأب شعور الفخر بابنه وحمله إلى الحانة حيث رفاقه الذين عيّروه بابنه المصاب بالشلل وصرخ هذا ابني، وكأنّه لم يكن قبل ذلك ابنه! دومًا كانت تعتبر مقولة العقل السليم في الجسم السليم حاسمة في تصنيف البشر بين صحيح ومعطوب، إلّا أنّ كريستي براون نقضها بالمطلق، عندما أثبت بأنّها مقولة فاسدة، لقد كتب سيرة حياته بأصابع قدمه اليسرى على آلة كاتبة. حقّقت سيرة كريستي شهرة كبيرة واستطاع إنقاذ العائلة اقتصاديًا بعد العائدات المادية التي نتجت عن بيع سيرته الذاتية. تم تجسيد سيرة كريستي عبر فيلم إيرلندي عام 1989 نال جائزة الأوسكار.
تأتي الحالة الثالثة من سير الأشخاص من ذوي الإعاقة لتوضّح بأنّ الإعاقة إحدى الحالات الإنسانية والتي قد تصيب الإنسان في أيّة مرحلة من عمره. لقد كان جون دومينيك بوبي الذي كان يترأس تحرير مجلة نسائية يعيش حياة طبيعية وفق فهم المجتمع لمعنى الطبيعي؛ أي لا أمراض ولا إعاقات، لكنّه تعرض لحادث سيارة، تسبّب له بنوبة قلبية، أورثته شللًا كاملا في جسده، فلم يبق من ذلك الجسد الصحي قادر على الحركة إلّا رمش عينه اليسرى. لم تكن حياة بوبي قبل الحادثة ذات شأن على الصعيد الأدبي، فقد نشر العديد من الكتب والمقالات، لكن مع سيرة حياته التي عنونها: "بذلة الغوص والفراشة" نال شهرة كبيرة وإن جاءته بعد موته، فقد ظل سنتين يرصف الحرف قرب الحرف، بمساعدة ممرضة حتى أنجز تلك التحفة الأدبية، التي عالج فيها اليأس والأمل ومعنى الحياة وكيف يمكن استخلاصها من أشد الأماكن عقمًا.
لا نجد إلّا القليل من سير الأشخاص من ذوي الإعاقة في عالمنا العربي، ولربما أشهرها تعود إلى عميد الأدب العربي طه حسين الذي أصيب بالعمى منذ طفولته. لم يفرد حسين مساحة كبيرة عن إعاقته في ثنايا سيرة حياته، لكنّه من خلال إنجازاته أثبت أن غياب البصر لا يعني أبدًا غياب البصيرة.
أصبحت السير الذاتية للأشخاص من ذوي الإعاقة في الغرب خطًا أدبيًا، مثل أي جنس أدبي آخر، له قراؤه الكثر، لذلك نرى في الغرب تطوّر التشريعات التي تسمح للأشخاص من ذوي الإعاقة عيش حياتهم بكامل تفاصيلها. وما زال أدب السير الذاتية في بلادنا العربية حتى للأشخاص المشهورين نادرًا، فكيف بالأشخاص من ذوي الإعاقة؟ إن تكاثر هذه السير لذوي الإعاقة، سيكون داعمًا للتشريعات والقوانين التي تسنّها البلاد العربية، والتي تظل في الأعم الأغلب حبرًا على ورق. أرقن أحرف هذ الكلمات الأخيرة، بإصبع واحدة، كنت قد كتبت بها هذه المقالة، بينما ابتسامة شيشاير (قط أليس في بلاد العجائب) ترتسم على وجهي.
*كاتب من سورية.