}

في ذكرى 111 عامًا على ولادة كامو: المقاومة والانتصار

سمير رمان سمير رمان 30 ديسمبر 2024
استعادات في ذكرى 111 عامًا على ولادة كامو: المقاومة والانتصار
ألبير كامو

في نهاية هذا العام تمر ذكرى 111 عامًا على ولادة ألبير كامو، الفيلسوف والكاتب الوجودي، الصحافي والدرامي والقاصّ الفرنسي، ومؤلف عدد من الروايات المشهورة، مثل "الغريب"، و"الطاعون"، والحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1957.

ألبير كامو والفلسفة
على الرغم من إنكار علاقته بحركة الفلسفيّة الوجوديّة، كان ألبير كامو مرتبطًا بها بشكلٍ أو آخر. ومثّلت معضلة الانتحار موضوعه الرئيس، وهي المسالة المرتبطة بفكرته عن "العبثية"، أي الشعور بالعجز عن فهم العالم. ومن هذا المفهوم بالتحديد تنبثق النظرية السياسية التي تبحث في مفهوم "التمرّد"، كـ"نقيضٍ للشعور بالعبثية". من ناحيةٍ أُخرى، عرف عن كامو أنّه كان في صراعٍ فكري مع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.

الأديب المقاوم
في أيار/ مايو عام 1940، أنهى كامو روايته "الغريب"، وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، وبسبب مواقفه المعارضة، سُرِّح من عمله في صحيفة "باري دو سوار". ولأنّه لم يرغب في العيش في بلدٍ محتلّ، عاد إلى مدينة وهران في الجزائر لتدريس اللغة الفرنسية في إحدى مدارسها الخاصّة. وفي شباط/ فبراير 1941، أنهى كتابه "أسطورة سيزيف"، التي تناول فيها مغزى الحياة. يتحدث الكتاب عن غياب العقلانية في هذا العالم، وعن تلاشي الإيمان والأمل في المستقبل. ومع ذلك، رأى كامو أنّ خيارًا واحدًا بقي في حوزة الإنسان، الذي يحاول البحث عن مغزى الحياة، إمّا الخروج طوعًا من هذه الحياة (الانتحار)، أو تحدي العبثية واللاجدوى.
سريعًا، انضم كامو إلى صفوف حركة المقاومة، ليصبح عضوًا في منظمة "كومبا"، وينتقل من جديد إلى باريس سرًّا.
في عام 1942، أصدر روايتيه "الغريب"، و"أسطورة سيزيف". وخلال سنوات الحرب، نشر كامو "رسائل إلى صديقي الألماني"، ولكن تحت اسمٍ مستعار هذه المرّة.
في عام 1943، تعرّف على جان بول سارتر، وشارك في إخراج مسرحياته، وأصبح أوّل من أطلق من خشبة المسرح العبارة الشهيرة: "الجحيم هو الآخرون". وفي عام 1944، كتب روايته الشهيرة "الطاعون"، التي تأخّر صدورها ثلاث سنواتٍ كاملة إلى عام 1947.




خلال الفترة (1934 ــ 1939)، كتب كامو عددًا من القصص الاُخرى التي تتناول مسيرة حياته، هي التي جمعها في مجموعات أطلق عليها "كاليغولا"، وصدرت في ما بعد في فرنسا، إلى جانب قصة "حفلة العرس". في تلك الفترة، بدأ العمل على مجموعته "كاليغولا"، ورواية "الموت السعيد"، التي نلمس فيها لحظاتٍ تبدو وكأنّها اقتطعت من حياة كامو نفسها. في هذه الرواية، يعاني بطل القصّة، باريس ميرسو، من مرض عضالٍ في الرئتين، ولكنّه رغم ذلك يطوف أوروبا، ومن ثمّ يعود إلى الجزائر، حيث يموت هناك (لم ينشر هذا العمل إلا بعد موت الكاتب).

"الطاعون"
صدرت "الطاعون" عام 1947، لتفتح صفحات حكاية مأساويةً عانت منها مدينة وهران الجزائرية، التي وجدت نفسها معزولةً عن بقية العالم، بعد أن انتشر في فيها وباء "الموت الأسود". انتشر الطاعون في المدينة بسرعة، بعد أن أرسل قطعانًا من عملائه الجرذان. في زمننا، يأتي الطاعون فجأةً، فيجبر كلّ واحدٍ منّا أن يبدو وكأنّه يخوض حربًا وجودية. يلاحظ الجميع كيف تنشر جرذان الموت في كلّ مكان. كان حارس البوابة أوّل الضحايا، ولكن أحدًا لم يدرك بعد أنّه سقط بسبب الطاعون. عقد سكّان المدينة المنكوبة آمالهم على النظام الصحي القائم، وعلى مهارة الموظفين البيروقراطيين، وبالطبع على الدين في المقام الأوّل. لم يجدِ كلّ ذلك نفعًا، فقد كانت أعداد ضحايا الوباء تزداد كلّ يوم. يبذل بطل الرواية الطبيب برنارد رييه كلّ جهدٍ ممكن لمواجهة المرض. يتبيّن للجميع لاحقًا أنّ الانتصار على الطاعون يكمن في اتحاد الجميع في مواجهته، مدفوعين بغريزة البقاء. يتشابك الصراع في الرواية ويتعقد، كما هي الحال في نضال المقاومة ضدّ الاحتلال النازي لفرنسا، حيث يمكن فهم هذه الرواية من خلال عبارة "الطاعون البنيّ/ La peste brune"، التي كان الفرنسيون يتداولونها في إشارةٍ إلى المحتلين النازيين. يوافق جان بول سارتر على وجهة النظر هذه: فالنازيون الذي اقتحموا فرنسا غادروها، كما هي حال الطاعون: "جاءوا من اللامكان وغادروا إلى اللامكان"، وكأّنهم "قوة غير مادية، قوة لا إنسانية". على خلاف سارتر، لم يرَ كامو النازية، أو غيرها من الممارسات السياسية، في معزلٍ عن الإنسان. أمّا الفيلسوف رولان بارت، فوجد في الرواية "سياسة الإنسان"، أي أنّه رأى فيها صراع إنسانٍ واحد. من ناحيةٍ أُخرى، أيّد الكاتب نفسه ما ذهب إليه الفيلسوفان. كان كامو يرى أنّ الرواية تمثّل "الانتقال من الاحتجاج الفرديّ إلى تضامن الأغلبية"، ملاحظًا في الوقت نفسه "عري الإنسان أمام العبثية"، وكذلك "تساوي مختلف وجهات النظر عندما يتعلّق الأمر بالعبثية".
تعبّر رواية "الطاعون" عن نموذجين من سلوك الأشخاص: الانخراط التام في العبثية من جهة، والصراع ضدّ الممارسات السياسية والاجتماعية الجديدة من جهةٍ أُخرى، وكلا النموذجين يمثلان في حدّ ذاتهما عبثية أُخرى أيضًا. ومع أنّ "الانتصار على العبثية"، بالمفهوم الصارم للكلمة، مستحيلٌ، بحسب فلسفة كامو، فإنّه يعد العبثية شرطًا لا يتجزأ من الوجود، ولذلك نرى أنّ مواجهة الطاعون، وكذلك محاربة العبثية، تعبّر عن نفسها في مؤلفاته، كمقاومة لوقف توسّع العبثية والحيلولة دون انتشارها في العالم، على الرغم من أنّه يعرف مسبقًا أنّ الانتصار عليها، والتخلّص من نيرها، أمرٌ غير ممكن. يأتي تأكيد هذا الموقف من خلال بطل الرواية، الطبيب ريو، الذي رأى أنّ حربه ضدّ الوباء هي عبارة عن "هزائم لا نهاية لها". في رواية "الطاعون"، يقاتل البطل في سبيل سعادة الإنسان على الأرض، ولكن ليس في سبيل الوصول إلى السعادة الأبدية.
على صفحات رواية "الطاعون"، تفتح صفحة الدين أيضًا. يتضح من الرواية أنّ ألبير كامو يعارض الأخلاق المسيحية، الأمر الذي يتضح من خلال صراع شخصيات الرواية، خاصة الطبيب ريو، والقسّ بانيلو. ففي حين يناضل الطبيب ضدّ المرض، يحاول القسّ أن يقنع زواره في مدينة وهران أنّ المرض هو إرادة إلهيّة يجب تقبّلها. في حين يقول الطبيب: "ربما يرى الربّ أنّه من الأفضل له ألا يؤمن الناس به، ولكنّهم يعملون بكلّ ما أوتوا من قوة وعزيمة على محاربة الموت، من دون أن يرفعوا أبصارهم بالابتهال إلى السماء، حيث يسود الصمت". وفي هذا الصدد، يرى كامو أن روايته "مناهضة للمسيحية".
في عصرنا، أجبر وباء كوفيد ــ 19 الناس على العودة إلى مؤلفات ألبير كامو، وأدرج المنتدى الاقتصادي العالمي رواية "الطاعون" على قائمة خمسة كتبٍ يجب قراءتها في سياق انتشار وباء كورونا في العالم. وفي هذا الصدد، اعترف صحافي أميركي من "فوكس نيوز" بأنّ الرواية يمكنها أن تساعد الناس على تعوّد العيش في ظروف مثل ظروف كوفيد ــ 19، وتدفعهم إلى التعاون والتضامن مع بعضهم بعضًا، وتجعلهم يدركون أنّهم بالفعل "يبحرون في القارب نفسه". من ناحية أُخرى، يرى الباحثون أنّ وباء الطاعون، كما جاء وصفه في رواية كامو، إنما يتوافق مع الدعوات التي تحثّنا على وضع خططنا، وعلى أن نرسم حياتنا اليومية بما يمكّننا من التكيّف مع ظروف مشابهة لظروف انتشار أمراضٍ وأوبئةٍ غير متوقعة سلفًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.