صاغت هذه الأغنيات الذاكرة الوجدانية للسوريين في كل مكان. وبمجرد أن يفتتح التلفاز بالنشيد الوطني، أو تبدأ مكبّرات الصوت في المدارس حتى يتحول الوطن من فكرة إلى حقيقة ملموسة؛ فيظهر بيدر قمحٍ هنا، ويسيل دم شهيدٍ هناك، ويخفق فؤاد الأم التي تجلس أمام التنور منتظرة عودة طفلها الصغير (الجندي الذي التحق بخدمته الإلزامية).
فأول ما يستيقظ السوريون على كلماته، وهو آخر ما يسمعونه، قبل أن يُطفأ التلفاز:
حماةَ الديار عليكم سلامْ أبت أن تَذِلَّ النفوسُ الكِرام...
تغلغل ذلك في اللاّوعي الجمعيّ، فأصبح حالة عاطفية من الانتماء والأمان التي يدفع فيها الآباء أبناءهم كأضحية للبلاد التي تثبت أحقيتّها في دمهم. وهي أشبه بحكاية المرأتين اللتين اختلفتا على طفل، وكل واحدة تدّعي أنه طفلها، ولما ذهبتا إلى القاضي، طلب منهما إحضار سكين، وأراد أن يقسم الطفل إلى قسمين، وتأخذ كل واحدة قسمًا. ففزعت إحداهما، وقالت: "إنه ليس ابنها"، فعلم القاضي أنها هي الأم الحقيقية، وبهذه المقايضة تتنازل الأم السورية التي ولدت للأم - سورية- التي لم تلد.
يتذكر السوريون جيدًا صورة امرأة أمام تنوّر، أمام مجموعة من الجنود يتناولون من يدها خبزة ساخنة إيمانًا منها أن طيف طفلها البعيد – الجندي الذي كبر بغتة- حاضر في هؤلاء الشبان وأن أمًا مماثلة تعطف عليه؛
ولأنّ: رفيف الأماني وخفق الفؤاد على علمٍ ضمّ شمل البلاد
ستجد ابن حمص يأكل خبزته في دير الزور وابن اللاذقية في دمشق، وابن حلب في اللاذقية. فالبلاد واحدة والأمهات هن الأمهات في كل مكان. وكما سيعثرن في الأغنيات وفي هؤلاء الشبان على طيف الغائب. فالأخير سيرى أمه في تلك العينين اللتين تنظران له بفخر وفي اليدين وهما توزعان أرغفة الخبز المدهون بالزبدة على الجنود الذي سينهضون والسلاح على الكتف لمتابعة رحلتهم نحو الحدود "عاحدودك أنا رايح جاي أنطر حبات ترابك تا تبقى يا وطني حكاية بالعز نعلّي بوابك".
في ذاكرة السوريين، الكثير من الحكايات حول تلك الأمومة العابرة للأبناء، والكثير من المشاهد لسيارات الزيل العسكرية وهي تحمل جنودًا يدركون بأن الشجاعة لا تنفصل عن الكرامة، والقوة بدون أخلاق أعلى درجات العار. ويتذكر الجنود، ولا شك، تلك الوجوه المبتسمة التي صبغتها الشمس والأيدي التي جفّفها الشقاء، وهي تناولهم كأس شاي، وتمدّ لهم رغيف خبز يقبّلونه بعد إلحاح (إنّ لهم عزّة نفس لن يكسرها لاحقًا سوى الأسد وابنه من بعده).
يتابع الوطن مجراه في الدم والأغنيات إذ تمتزج في صباحات العيد رائحة الكعك مع صوت غوار الطوشي الذي يمثل دوره دريد لحام في مسرحية "كاسك يا وطن": "مشكلتي أنا ما بقدر أرحل عن الوطن، أنا بدوخ بالطيارة. افترض أنيّ رحلت وبعّدت. مشكلتي أنّه الوطن ما بيبعد عني بيضلّ عايش فيي من جوّا".
ليُنهي مسرحيته بأغنية:
"بكتب اسمك يا بلادي عالشمس اللي ما بتغيب،
لا مالي ولا ولادي على حبك ما في حبيب"...
لقد اقتنعت الأمهات أخيرًا بالحكمة القائلة "أبناؤكم ليسوا لكم، إنهم أبناء البلاد"، لكنّ الوطن يرغب بالمزيد، وهو لن يتوقف عن طلب فاتورة باهظة، وعلى الأمومة أن تدفعها برضى.
يا وطني يا غالي يا عزّ وغار
يا بلادي يا حرّة ومهما صار
رح تبقى حجارك ذهب الدار
تنقّل الأمهات فؤادهن حيث شئن من الهوى، لكن حبهن لأول للبلاد وجيش البلاد، بل وأكثر من ذلك:
أما فيه من كل عين سواد ومن دم كل شهيد مداد؟
الجيش السوري لم يكن في آخر مرحلة من مراحل انهياره الأخلاقي سوى مجموعة شبان منهكين وجائعين، وما يفعله الجوع بالإنسان يفوق السحر... |
فما الذي حدث، من أحرق حقول القمح في أغانينا؟ ومن سمَلَ عيون جيشنا؟ من مزق العلم فوق السارية، ألم يلحظ أحدٌ هذا السواد الذي يسيل! من هدم التّنور ولوّث خبزنا بالدم؟ ولماذا نكَّسنا رؤوسنا في تحية العلم؟ وخفت صوتنا في أثناء تأدية النشيد الوطني!
ومن هؤلاء؟
لم يبدأ التدهور في 2011، بل قبل ذلك بكثير، فأوديب لم يسمل عينيه في البداية، وقبل ذلك كان قد تزوج أمه وقتل والده، ولم تكن مجزرة حماة سوى البداية لنهاية تصطبغ فيها سماء السوريين باللون الأسود، ويهوي العلم من فوق السارية، وتتحول سهول البلاد ودروبها من بستان مخضرّ إلى إقطاعيّة أشبه "بمزرعة الحيوان" في كتاب جورج أورويل.
أصبح الجيش مجموعة من الغرباء، كما أن النفوس الكرام التي أبت أن تُذل بين كلمات الأغنية ذُلّت في الواقع... والجندي الذي تناول يومًا رغيف خبز من يد الجدّة، سيعود ليكون في أسوأ الأحوال حارسًا للّصوص الذين يسرقون البيت.
وهو الآن سائق لعشيقة الضابط فلان، وخادم في قصر التاجر فلان، إنه يعرف أن الكرامة ثمنها الشرف لكنه يؤثر- إن تبقى لديه شيء منها- أن يكون شاهدًا على أن يصير شهيدًا. لقد آثر أن يوجه سلاحه إلى صدر أهله متباهيًا بالدوس عليهم وإجبارهم على تقبيل صورة طاغية (اختُزِلَتْ البلاد في شخصه)، متغذيًّا على أوجاع الأمهّات، وساخرًا من آلام الناس الذين توزعوا بين غريق وقتيل ومعتقل ولاجئ. فالجيش لم يكن في آخر مرحلة من مراحل انهياره الأخلاقي سوى مجموعة شبان منهكين وجائعين، وما يفعله الجوع بالإنسان يفوق السحر؛ إذ لم يكن الأخير وسيلة لعبوديّة مختارة، بل نجح في إطلاق الوحش. ولم يحمل جنود الجيش فوق ظهورهم وفي سياراتهم أثاثًا ملوثًا بالدم، بل نسوا في غمرة ابتهاجهم؛ كرامتهم بين الأنقاض التي يرقد تحتها من كان يفترض بهم أن يحموهم.
لم تكن 2011 سوى الفصل الأخير من مسرحيّة تراجيديّة، بل لعلها أوديبيّة بامتياز. فالجيش السوري الذي يعرِّفه غوغل "الجيش العربي السوري أقوى جيش في الشرق الأوسط"، سيمضي هائمًا في الدروب ليلة الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024. ليطوي مرحلة كانت أشبه باحتضار طويل، بينما كان السوريون كتلك الأم التي تراقب دمار ابنها الوحيد الذي أعلنت براءتها منه وشفقتها عليه في الوقت ذاته وهي تتساءل: "هل هذا هو جيشنا؟".
ولأن الرصاصة أسرع من السؤال، والحاضر يطوي الماضي من دون أن يلغيه؛ سيبقى السؤال ممتزجًا بالأسى إلى أن يتكفل التاريخ بتصحيح مسار الأحداث. ولعل الأغنيات الجديدة هذه المرّة، تعيد اللحن إلى كلماته وترجع النشيد إلى وجهته، والعلم السوري إلى ساريته.
يردّد السوريون الآن "في سبيل المجد"، وهي قصيدة للشاعر عمر أبو ريشة، إذ يبدأ مطلعها:
في سبيل المجد والأوطان نحيا ونبيد
كلنا ذو همة شماء جبار عنيد
لا تطيق السادة الأحرار أطواق الحديد
إن عيش الذل والإرهاق تأباه العبيد...
وتبدأ مرحلة جديدة، يحرص فيها الماضي على التذكير بنفسه بين وقت وآخر. كما جرى في صباح ماطر من الصباحات التي أعقبت سقوط بشار، إذ سألتني جارتي العجوز التي تجلس أمام دكانها ملقية يديها باستسلام في حجرها إذا كان بإمكان بشار أن يعود؟ لتعيد سؤالها في صباح آخر حول ما إذا كان ابنها الذي خدم في الجيش السوري - والذي مُزِّقت صوره بعد أن علّقت فوق أحد الجدران لمدة 13 عامًا- شهيدًا أم قاتلًا؟
لم يكن لدي جواب على سؤالها، نظرت في عينيها المقهورتين وتناولت من يدها المشققة علبة القهوة، وقلت وأنا أصعد الدرج: ضحيّة...
ولأن ليس كل الحزن جليل، فإن ألمها امتزج بعارٍ خصّتني بشيء من ملوحته التي غمرتني أثناء سنوات الحرب إذ كتبت لي صديقة مصرية تسألني عما إذا كان جيشنا يرتكب المجازر بحقنا؟
ولأن كلمات أي نشيد تختصر مرحلة، وتحوي بين حروفها تاريخ بلاد، فإننا نطوي نشيد "حماة الديار"، لا شماتة ولا بغضًا بل بألم وخذلان مما حدث وتوق وخوف مما سيأتي لنحلم بمستقبل يمثله جيش لا يفكر بإذلالنا مرة أخرى ولا يغدر بنا لأجل طاغية، لنودع زمنًا ومعه علمٌ هوى ولحنٌ خان وقهر عالقٌ في ذاكرة السوريين ولسان حالهم يقول:
قد صبرنا فإذا بالصبر لا يُجدي هدى
وحلُمنا فإذا بالحلم يودي للردى
ونهضنا اليوم كالأطوادِ في وجهِ العِدى...
المفارقة أن العدو لم يكن سوى جيش غدرَ بالأغنيات، ليُطوى وتنطوي معه صفحة ليست الأكثر دمويًّة فحسب بل الأشدُّ قهرًا وعارًا في التاريخ.
* كاتبة سورية.