أقوالٌ فائقة الجرأة هي غيضٌ من فيض ممّا يجاهر به الباحث والكاتب والموسيقيّ "الإسرائيليّ سابقًا" جلعاد عتسمون/ Gilad Atzmon (مواليد 1963 في "تل أبيب") المنشقّ عن ثلاث: يهوديّته وصهيونيّته ومواطنيّته الإسرائيلية، والمهاجر عام 2002 إلى بريطانيا بلا عودة، متخلّيًا عن جنسيته الإسرائيلية، ليقيم حتى الساعة في لندن كاتبًا وعازف ساكسوفون محترفًا يحيي الحفلات الموسيقية بلا توقف، حتى لُقّب بـ"الرجل الأكثر اجتهادًا في موسيقى الجاز البريطانية"، وسجّل وأدّى برفقة مغنّين وموسيقيين كبار، أمثال بول مكارتني، وإيان دوري، وروبي ويليامز، وآخرين. كما يدأب توازيًا مع الموسيقى في نشر المقالات وإصدار الكتب التي تتمحور في شكل خاص حول المسألتين اليهودية والصهيونية، وأشهرها The Wandering Who? (2011) الذي صدرت ترجمته العربية عام 2013 تحت عنوان "من التائه؟"، وBeing in time (2017) الذي لم ينقل إلى العربية بعد ! فضلًا عن ثلاثة مؤلفات أخرى.
بدافع من نبذ العنف والقتل واللا إنسانية والتمييز العنصري وشرور أخرى، وبعدما اختبر جلعاد عتسمون كلّ ذلك في دولته المحتلّة، حيث ولد وشارك مجنّدًا احتياطيًّا إلزاميًّا في بعض حروبها الوحشية، وبينها في جنوب لبنان، بات يعي انتماءه إلى شعب يعيش على أرض مسروقة، وتركت مشاركته في الحرب ندوبًا كبيرة في نفسه، وكان من أوائل واصفي سياسة "إسرائيل" تجاه الفلسطينيين بأنّها إبادة جماعية. امتلك في قرارة نفسه يقينًا أنّه مخدوع بشأن الصهيونية، وأنّ يهوديته هي نزعة عنصرية كبيرة. ومنذ البداية، بدت آراؤه صادمة لمؤيّديها ورافضيها على السواء. أثارت رؤيته جدلًا هائلًا، في الكيان المحتلّ وخارجه. ذات يوم، خلص إلى أنّ "إسرائيل بلد بغيض"، وأنّه لا يريد بعد ذلك أن تكون له علاقة ببلده المحتلّ. يقول: "مع اتفاقيات أوسلو عام 1993، لم أعد أحتمل أكثر من ذلك. رأيت أنّ {صنع السلام} الإسرائيليّ لم يكن سوى التفاف على الوضع القائم. لم تكن الغاية منه التصالح مع الفلسطينيين، أو مواجهة خطيئة الصهيونية الأصلية، بل مزيد من تأمين وجود الدولة الإسرائيليّة على حساب الفلسطينيين (...) قرّرتُ أن أترك بيتي وعملي. تركتُ كلّ شيء وكلّ شخص ورائي، وحتى زوجتي تالي التي انضمّت إليّ لاحقًا. كلّ ما أخذتُه معي هو الساكسوفون خاصتي، صديقي الحقيقي الأبدي".
لعتسمون رأي فريد ومثير في ما يتعلّق بـ"المحرقة" التي يعدّها "دينًا قديمًا قدم اليهود أنفسهم"، ويقول "إنّ التاريخ يجب أن يخضع للنقد كجزء من عملية فهم ديناميكية"، ويرى "أنّ متاحف المحرقة تُديمُ المعاناة اليهودية وتمنع اليهود من التوصل إلى مثل ذاك الفهم التاريخي. فالعملية هذه تضفي طابعًا مؤسّسيًا على المعاناة اليهودية (...) لقد سمعتُ عن منكري المحرقة الذين قبعوا في السجن لمجرّد أنّهم لم يقعوا في فخّ الرواية الصهيونية للمحرقة.
إن القوانين المتعلقة بإنكار المحرقة هي الأسوأ. يمنعون اليهود من فهم تاريخهم"، أي إنّ المحرقة، بحسب عتسمون، في حاجة إلى قراءة تاريخية متأنّية، من اليهود أنفسهم ومن الآخرين، لفهم حقيقة ما حصل وظروفه التاريخية الموضوعية، بعيدًا عن التصوّر الأحاديّ الذي روّجت له الصهيونية تاريخيًّا، واستثمرت فيه على نحو انتهازيّ حتى هذه الساعة، وهذا رأي نورمان فنكلستين أيضًا في أيّ حال.
على نحو أشدّ إثارة واستفزازًا، يدافع عتسمون عام 2007 عن الرئيس الإيراني (عهدذاك) أحمدي نجاد، عادًا أنّه "يقول ما يعتقد أنّه صحيح، إذ يرى على سبيل المثال أنّه إذا كان الأوروبيون يشعرون بالذنب حيال جرائمهم الماضية ضد اليهود فإنّ على الأوروبيين أنفسهم أن يواجهوا ماضيهم ويتحمّلوا المسؤولية عمّا ارتكبوه في حقّ اليهود عوض التخلّص منهم في الشرق الأوسط على حساب الشعب الفلسطيني. هذا الفكر عقلانيّ ويرتكز على أسس أخلاقية، سواء أحببنا مضمونه أم لا. قد ينظر البعض إلى أحمدي نجاد بكونه منكرًا للمحرقة، ولكن بقدر ما أستطيع أن أرى فإنّه واحد من رجال الدولة القلّة الذين تمكنوا من استيعاب المعنى الحقيقي للمحرقة ويقول لا للعنصرية. وبناءً على ذلك، يعتقد أنّ إسرائيل كدولة لليهود فقط، وككيان قومي ذي توجّه عنصريّ ليس لها الحقّ في الوجود. لم يدعُ نجاد قط إلى تصفية الشعب الإسرائيليّ، بل إلى تفكيك الجهاز الصهيونيّ. ومرة أخرى، لا أرى خطأ أخلاقيًا في ذلك. أثبت أحمدي نجاد أنّه في ما يتعلق بالإنسانية والسعي إلى السلام يتقدم على منافسيه الغربيين. ويبدو أنّ لدينا كثيرًا لنتعلّمه من إخواننا المسلمين. نحن الغرب، في هذا الصدام الثقافي، فقدنا الصلة بمفاهيم التعاطف والأخلاق".
في ما يتعلّق بـ"معاداة السامية"، النغمة المتكرّرة والمفتعلة، يقول عتسمون: "قد يكون مفهوم معاداة السامية مربكًا ويشير عامةً إلى انتقاد اليهود بكونهم شعبًا، أو مجموعة عرقية، أو عرقًا. هذا النقد المبني على اعتبارات بيولوجية في طريقه إلى الزوال. أمّا معاداة الصهيونية فهي أمر مختلف تمامًا، إذ تتناسب مع انتقاد الدولة اليهودية وسياساتها ومواقفها وأيديولوجيتها. ولأنّ إسرائيل تعرّف نفسها بأنّها الدولة اليهودية فلا بدّ من التشكيك في يهوديتها". وخلافًا لمعظم الآراء في الوظيفة الأساسية لنشأة الكيان الإسرائيلي، لا يرى جلعاد عتسمون في الصهيونية حركة استعمارية، رغم أنّ كثرًا يطلقون هذا التوصيف، وحجّته أنّ الاستعمار هو تبادل ماديّ وملموس بين الدولة المستعمرة الأم و"المؤسسة" الاستعمارية، ويمكن في حالة الصهيونية تحديد "المؤسسة الاستعمارية"، وليس الدولة الأم. ويرى "أنّ التأسيس في فلسطين كان بمثابة مسعى روحي وأيديولوجي، ولم تكن الاعتبارات الاقتصادية هي الدافع. فمن المستحيل اليوم إنكار حقيقة أن الصهيونية هي حركة عالمية ذات مصالح عالمية. ومع أخذ هذه العناصر في الاعتبار، يسهل تحديد التضامن القَبَليّ الذي يدلّ عليه الدعم الهائل الذي يقدمه اليهود في جميع أنحاء العالم لحركتهم الوطنية وحملاتهم ذات الصبغة القَبَليّة القوية (...) لم تُنشأ إسرائيل على يد الإمبراطورية البريطانية، ولم يكن النفط محوريًّا في الخطاب الكامن وراء وعد بلفور.
هذا خيال مادي ماركسي تافه لا أساس له من الصحة، ويهدف إلى التضليل. تمكّنت اللوبيات الصهيونية من انتزاع وعد بلفور في ذروة الحرب العالمية الأولى، ووعدت بدفع الولايات المتحدة للانضمام إلى الحرب في المقابل. كانت بريطانيا محتاجة إلى الدعم الأميركي لكسر الجمود على الجبهة الغربية. بذلك، بدا إعطاء فلسطين لليهود ثمنًا زهيدًا. على ضوء ذلك، يبدو أنّ وعد بلفور كان يهدف إلى استرضاء النخبة المالية اليهودية الألمانية والأميركية التي سارعت إلى تبديل ولاءاتها وأدارت ظهرها لألمانيا وتحالفت مع الإنكليز. وكانت الرسالة واضحة: في وقت باكر من العام 1917، كان اللوبي اليهوديّ الأميركيّ من بين الكيانات الأكثر نفوذًا في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى".
يصف عتسمون دوره الفكريّ التوعويّ بأنّه "تدقيقٌ في تعقيدات العالم اليهوديّ، وإدراكٌ لمفهوم الأخوّة العرقية اليهودية، والعلاقات بين الدولة اليهودية والعالم اليهودي، وبين إسرائيل واليهودية، وبين اليهودية والصهيونية، بل حتى إدراك الفرق الحقيقي بين الصهاينة واليهود المعادين للصهيونية، فكلاهما نشاط عرقيّ. والسؤال الذي ينبغي طرحه هو: ما هو هذا الشيء الذي يُطلقُ عليه {العالم اليهوديّ}؟ وهل يوجد عالم كهذا؟ وهل ثمة كيان جماعيّ مماثل؟ الإجابة كلا، ولكن من الطبيعيّ أن يتحدث الساسة اليهود العرقيّون بطريقة جماعية، سواء باسم المحرقة، أو باسم ضحاياها والمعانين منها".
أمّا موقفه من مأساة الشعب الفلسطينيّ فيعبّر عنه بروح إنسانية فريدة ومميزة بالنسبة إلى أقرانه: "إنّ إدراكي الظلم التاريخيّ الذي تعرّض له الشعب الفلسطينيّ، ومعاينتي للهمجية الإسرائيلية المتصاعدة، يجعلانني أعي واجبي الأخلاقيّ. إنّي أؤيّد الشعب الفلسطينيّ وخياراته المختلفة، وإن تكن متناقضة. إنّي أعدّ فلسطين والفلسطينيين طليعةً وجبهة أمامية في المعركة ضدّ الشرّ الحديث الذي تمثّله الصهيونية والاستعمار الأنكلو ــ أميركيّ الصهيونيّ الحاليّ".
إلى الإبادة الراهنة في غزة وموقف جلعاد عتسمون منها، إذ يقول: "نفّذت حماس عملية عسكرية مذهلة، وفشل جيش الدفاع الإسرائيليّ وأجهزة الاستخبارات والموساد والشاباك فشلًا ذريعًا. يلقي كثر اللوم على بيبي (نتنياهو) وحكومته، ولكن لا أحد في إسرائيل يتساءل عمّا فعلناه حتى جلب علينا كل هذه الكراهية، وما الذي فعلناه لجعل هؤلاء الفلسطينيين انتقاميين إلى هذا الحدّ. فلا أحد في إسرائيل يتساءل عمّا إذا كان احتجازهم وحصارهم لعقود من الزمان كلاجئين قد أسهم بطريقة أو بأخرى في هذا العدوان، ولا أحد في إسرائيل يتعمّق في حقيقة أنّ أهل غزة هم بعامّةٍ لاجئون من أرض سلبت منهم عام 1948. من المحزن حقًا معرفة أنّ 260 من عشاق الحفلات قد ذبحوا في مذبحة مروّعة على رمال حدود غزة، لكنّ السؤال الذي أطرحه هو: من أتى بهذه الفكرة المقزّزة لإقامة حفل راقص وتناول مخدرات طوال أربع وعشرين ساعة بجوار معسكر اعتقال محاصر اسمه غزة؟ وما الغرض من هذا الحفل؟ وأي نوع من الناس يحضر حفلًا مماثلًا في موقع كهذا؟ لا أسمع صوتًا واحدًا في إسرائيل يحاول رؤية المعاناة في الجانب الآخر. الجميع يردّد الشعار نفسه: رؤية غزة تمحى. إنّهم جميعًا مبتهجون بالدعم الذي يتلقونه من بايدن. الحقيقة المأساوية هي أن إسرائيل لا تستطيع أن تفعل شيئًا لمحو النصر الفعليّ الذي حققته حماس، للسبب عينه الذي جعل إسرائيل غير قادرة على فعل شيء لمحو النصر المصري في السادس من أكتوبر 1973. استغرق الأمر من إسرائيل ستة أعوام لفهم ذلك. وفي عام 1979 قبلت العرض المصري ودخلت في مفاوضات سلام، وأعادت إسرائيل سيناء كاملة لمصر، وضمنت اتفاق سلام. ولم تتعافَ إسرائيل قط من حرب يوم الغفران المهينة التي خاضتها عام 1973 (...) اليوم تسقط في الفخ نفسه في غزة. من المؤسف أنّ الغطرسة تُبقي الإسرائيليين متحدين وسعداء بين الكوارث التي يلحقونها بأنفسهم. أمّا أولئك الذين تعلّموا شيئًا فإنّهم غالبًا ما يديرون ظهورهم للقبيلة، ويمكن اعتباري واحدًا منهم".
٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.