"بفاجعتك يا غزة لم أعرف كم لكِ، ليس لك أخ أو أخت، لكِ الله يا غزة، الذي يسمع، يتيمة الأب والأم، أنتِ عند الله في أعلى السموات"- بهذه الكلمات وهذه المرارة والحزن والشعور بالخذلان، خاطب الشاعر الأمازيغي محمادي بورمطان غزة، التي قاومت منذ عقود ولا زالت، ببطولات شعبها ومقاتليها وصبر أهلها وإيمان شبابها وصغارها وكبارها الراسخ بأرضهم وحقوقهم، وحشية الاحتلال الإسرائيلي وعنصريّته وكل أهوال الإبادة الجماعية المنظمة التي ما زال يتعرض لها القطاع منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي حتى الآن، بينما يقف العالم بدوله الكبرى والصغرى ومنظماته وقوانينه متفرجًا قلقًا أمام حرب طاحنة ومدمرة.
هذا هو شعر الأمازيغ الذي بادر، كما ذكر عدد من النقاد والمبدعين، إلى مناصرة فلسطين وقضاياها منذ خمسينيات القرن العشرين الماضي، ودان الإرهاب عمومًا والإرهاب الصهيوني خصوصًا، ودافع عن حقوق الشعب الفلسطيني وأحلامه وتطلعاته، وكان له دور كبير في تشكيل الوعي لدى الأمازيغ بقضية فلسطين وعدالتها، من خلال التعريف بها وترسيخها في وجدان الشعب المغربي بكل مكوناته، ونجح في إيصال رسالته إلى جميع القرى والبوادي، مناديًا بنصرة كل القضايا العادلة في العالم.
يُعتبر الشعب المغربي بأطيافه جميعها من الشعوب التي دافعت عن عدالة القضية الفلسطينية، وضرورة إيجاد حل عادل وعاجل لها، ووضع حد لمأساة الفلسطينيين بما في ذلك أبرز مكون من مكونات المجتمع المغربي المتمثل بالأمازيغ، والذي خصّ هذه القضية باهتمام بالغ من منطلق إنساني وديني على وجه الخصوص، وكان هذا الشعب وما زال بتنوّع ثقافاته الأكثر تعلقًا بالقدس الشريف، مكان المسجد الأقصى المبارك، وأولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد (ص).
وكان الشاعر الأمازيغي محمد الدمسيري الذي توفي عام 1989 هو أول من ناصر هذه القضية المشروعة والعادلة بأشعاره الحماسية منذ النكبة، فدافع عن استقلال القدس الشريف ودان الإجرام الإسرائيلي إلى جانب الشاعر الراحل الحاج بلعيد الذي يُعتبر من شعراء ورواد الأغنية الأمازيغية في منطقة سوس وأحد أعمدة الشعر الأمازيغي عمومًا، والذي أبدع في وصف غطرسة إسرائيل وطغيانها وفي الدفاع عن حقوق الإنسان أينما كان وعن الدين والسلام والوطن:
كم كانت رغبتنا أيها الحمام الأبيض
أن نرافقك إلى وطنك
وإذا أحببت رفقتي
أنا لك. وفي خدمتك على الدوام...
إلى جانبهما دافع عدد كبير من الشعراء الأمازيغ المعاصرين أيضًا عن فلسطين وأهلها، وسخّروا قصائدهم لرثاء شهدائها، ورصدوا آلام الأمهات الثكالى والأيتام وتخاذل العالم وصمته عن الجرائم الإسرائيلية المتواصلة. وقد كانت أغنية "الصهيون"، وهي قصيدة شعرية للشاعر إيكوت عبد الهادي مع مجموعته "إزنزارن"، صرخة أمازيغية مدوية برعت في تصوير وحشية الصهاينة بعد مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان والتي راح ضحيتها الآلاف من الشهداء بينهم أعداد كبيرة من الأطفال والنساء والرضع والمسنين. ووُظفت فيها كلمات مثل "توزالت" وهي تعني السكين، و"أريقرس" وهي تعني يذبح، وفضحت أيضًا جرائم العدو بحق الشعب الفلسطيني الأعزل في كل مكان.
ولكن المؤسف أن جزءًا كبيرًا من هذا الشعر قد ضاع وانقرض ولم يُدون ولم يبق منه سوى مائتي كتاب وقصائد لم تُترجم إلى العربية وهي جميعها مكتوبة باللغة الأمازيغية.
ورغم ذلك فإن قصائد كثيرة تناولت أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 التي كانت في جباليا بقطاع غزة ثم انتقلت إلى مدن وقرى ومخيمات فلسطين، وبكت شهداءها ووقفت إلى جانب أبطالها، ونعت النخوة العربية والإسلامية الغائبة، وصورت تفاصيل مجازر الاحتلال وجرائمه وعنصريته، وجاء ذلك في إحدى القصائد المغناة التي أبدعتها مجموعة "إنشادن" للشاعر والمنشد الشيخ البوغلي:
مصيبة فلسطين لا عزاء لها إلا بنصر من الله
ألم تروا اليهود قتلوا الرجال وقتلوا النساء...
ورغم أن الترجمة قد تضيّع وتُضعف الكثير من المعاني والمؤثرات وعمق الأفكار، فإن الحروب العدوانية على الشعب الفلسطيني والإرهاب الإسرائيلي كانا واضحين في الشعر الأمازيغي وبقوة:
تابعنا على القنوات كلها المجازر في فلسطين
قتلوا الشيوخ، وكم من الصبيان رحلوا إلى القبور
وكم من الثكالى جُنّن من شدة البكاء.
وحضرت أيضًا مشاهد الرعب والخوف والقتل والتدمير في قصائد الشيخ الزهراوي ترافقها مشاعر الحزن والغضب من العرب والمسلمين وموقفهم الضعيف المتخاذل:
انظروا إلى غمّة ومحنة إخوانكم
غزاهم الأنذال وشردوهم
كم زوجة خطفوها تاركة أبناءها
وزوجها لا يملك إلا الحسرات والنظرات.
كما كتب الشاعر والمنشد الشيخ البوغلي قصائد عن استشهاد الطفل محمد الدرة في أيلول/ سبتمبر عام 2000 في اليوم الثاني من انتفاضة الأقصى وهو يحتمي بحضن والده على يد القوات الإسرائيلية المدججة بأعتى الأسلحة، وأمام الشاشات وعلى مرأى من العالم أجمع وعلى الهواء مباشرة:
لن أنسى منظر قتل محمد الدرة تلك الليلة
هذه الجريمة تُبكي حتى الجبال لتذوب دموعًا.
وعبّر عن تأثره الشديد وصدمته الكبيرة مما حدث:
هذا الطفل أحرق قلبي
كان مارًا في الطريق لا يدري شيئًا
عائدًا إلى بيته كي يعانق أخوانه
ولم يكن يتوقع أن يعانق القبور...
تناول شعراء الأمازيغ في بعض أشعارهم أيضًا صفات الإسرائيلي البشع التي تتجسّد بالخبث والمكر والخداع والخوف وقتل الأبرياء، إضافة إلى اغتصاب الأرض والحقوق واستباحة البشر والمقدسات والقوانين:
ها هم غزوا أرض العرب واغتصبوها
كيف أصبحت لهم دبابات تطلق النيران
قلبي يكاد ينفجر من الهم والغم.
وأكثر ما تناولوه في قصائدهم هو مواقف العرب والمسلمين المؤسفة وقبولهم لدور المتفرّج على بلاد تتعرّض لأبشع أنواع الاحتلال وشعب يتعرّض لأبشع أنواع الظلم والقهر والهمجية:
سبحان الله كيف انقلبت الموازين
أصبح الفأر مستأسدًا على القط
وأصبح النسر يرتعد خوفًا من الدين
من يتأمل هذا الوضع المريب
فلا شك سينتهي به الأمر إلى الحنق.
ولام الشاعر البوغلي في إحدى قصائده الأخوة العرب والمسلمين جميعًا، وأعلن غضبه منهم وحزنه الشديد لتخليهم عن مناصرة أشقائهم الفلسطينيين، ودعاهم إلى مواجهة الاحتلال مواجهة حقيقية بكل الوسائل والطرق، كما حذرهم من المستقبل وأطماع العدو بهم جميعًا:
أود أن ألوم كل العرب واحدًا واحدًا
ألا أطفئوا هذا اللهيب قبل أن ينتقل إليكم.
ودعاهم إلى الوحدة للقضاء على إسرائيل:
لو توحدتم أيها العرب لمحونا عنّا هذا العار
ولو اتفقتم أيها المسلمون لانتهى أمر الملاعين
لو تعاونتم لكنتم أنتم الأعلون.
وبقدر ما تحدث الشاعر الأمازيغي عن عنجهية الاحتلال وتعسّفه تحدّث أيضًا عن هزيمة العرب والمسلمين، وعزا ذلك، في قراءته، إلى ابتعادهم عن دين الإسلام والتفريط بإرث الأجداد والصحابة على حد قول الشاعر الزهراوي:
أما وقد ضعف إيمان العرب مثل المريض
أما وقد أُقصي القرآن وأُسقط الدين
فقد انقرض رجال الجهاد في هذا الزمان...
كتب الشعراء أيضًا عن أوضاع الدول العربية ومواقفها المؤسفة والتي جعلت الصهاينة يستمرون بالقتل والتدمير رافضين إعادة الحق إلى أصحابه:
الدول العربية ماتت
أدرك الصهيوني الزمن الذي يريد
حاملًا الخناجر بين يديه
واضعًا فلسطين نصب عينيه.
دافع عدد كبير من الشعراء الأمازيغيين عن القضايا العادلة والكبرى في العالم مثل الإبادة التي تعرّض لها مسلمو البوسنة والهرسك على أيدي الصرب، والعدوان الأميركي على العراق، وعن حقوق الإنسان عمومًا وحقوق الأمازيغ خصوصًا، وعن الهوية والوطن وإيمانهم بالله لإنقاذ فلسطين:
فلسطين في حالة احتضار
وما للحائرين من حيلة
نطلب من الله أن ينظر إليها.
رغم اهتمام هذا الشعر بأقدم قضية عالقة في الشرق الأوسط والتي امتدت جذورها من عام 1948 حتى الآن بدون التوصل إلى حل عادل رغم التضحيات الجسام للشعب الفلسطيني بكل فئاته وشرائحه، فإن ما يشبه الصمت كان واضحًا للحركة الأمازيغية بالمغرب إزاء ما يجري في غزة وفلسطين بعد عملية طوفان الأقصى، رغم إعلان بعض الفعاليات عن تضامنها مع أهالي القطاع ودعمها لحقوقه ورفضها للحرب الوحشية التي يتعرض لها، ورغم الرفض الشعبي أيضًا لهذه الإبادة المنظمة، ويعود ذلك ربما إلى التوظيفات الأيديولوجية لهذه القضية، ومواقف سياسية تجاه بعض الجهات والقوى الفلسطينية العسكرية والسياسية؛ مع الإشارة إلى أن هناك من يقول من النشطاء الأمازيغ إن هذه الحركة مشبعة بروح المقاومة ورفض جميع أشكال الاحتلال والوصاية والوقوف إلى جانب الشرعية وحلّ الدولتين، وعلى الجانب الآخر كتب عدد كبير من الشعراء قصائد عن غزة "أم الأجيال" وعن استباحتها من قبل الطغاة بدعم أميركي صريح وواضح:
قلبي جريح دام
مستمر فقط بالبكاء
غزة احترقت بالنيران
الظالم الكبير الطاغي
إسرائيل وأميركا.
وكتبوا أيضًا قصائد نادت بالوقوف إلى جانب أهل القطاع وساكنيه وعدم التخلي عنهم وهم يقاومون المستحيل بصبر وثبات وإيمان لا يتزعزع وحيدين بلا أخوة أو أصدقاء:
غزة ترتعد وتتزلزل
تنادي يا أخوتي بالصراخ
لماذا أخي عني تخلّى
رغم اشتراكنا في الدم.
تجدر الإشارة إلى أن الشعر الأمازيغي عمومًا يُعبّر عن مشاعر ونشأة وثقافة شريحة ضخمة من الأمازيغ بالمغرب الكبير، ويبدو ذلك واضحًا من خلال موضوعاته التي تتحدث عن حياة الناس وقضاياهم وطقوسهم وحروبهم وأحلامهم بالعدالة والمساواة والحرية وعن الهوية والوطن. وهو شعر مُغنى بامتياز، يعتمد تكثيف المعنى والتقيد بالأوزان الشعرية، والتقاط أدق التفاصيل الحياتية المعنوية والمادية، إضافة إلى جمال الأسلوب ودقة التصوير وجمالية التعبير وبلاغة المعنى.
وهذا الشعر من أقدم الفنون الأدبية في ثقافة الأمازيغ وأكثرها انتشارًا وتداولًا في المجتمع، يحمل قيمًا أخلاقية وإنسانية سامية، وغالبية شعرائه يعتمدون على ثقافة تُعلي من شأن الإسلام والقرآن الكريم، ويعتبرون أنفسهم أصحاب رسالة تعليمية تربوية وتثقيفية وتوعوية للمجتمع.
يتجاوز عددهم المئات ومنهم من يكتب الشعر التقليدي أو الغنائي أو الملحمي أو المسرحي.
والأمازيغ أو البربر هم مجموعة إثنية وسكان أصليون لشمال أفريقيا وتحديدًا المنطقة المغاربية ويقطنون في: المغرب – الجزائر – تونس – ليبيا – موريتانيا – شمال مالي – شمال النيجر – وجزء صغير من غرب مصر إضافة إلى جزر الخالدات.
لا يندرج شعرهم تحت إنتاجات اليسار أو اليمين أو أدبيات الحركات الإسلامية، إلا أن تبنيهم للقضايا الإنسانية والعادلة ينبع من إيمان قوي يستمدونه من أمازيغيتهم التي تعني في نهاية المطاف: الحرية.
لقد جعل الأمازيغ من شعرهم موسيقى يتغنون بها واكتسب شعرهم في بدايته صفة الارتجال ولم يُدون حتى بداية السبعينيات، وناضلوا من أجل قضيتهم لتصفيتها من الرواسب الفكرية السلبية وللحفاظ على هويتهم ولغتهم وعدم تهميشها. وأكد كبار شعرائهم المناصرين للقضية الفلسطينية على حتمية انتصار الشعب الفلسطيني ونيله حريته لأنه شعب مكافح ومقاتل وصاحب حق وأرض موجهين النداء إلى كل من له غيرة على فلسطين ومقدساتها وشعبها إلى المسارعة لإيقاف حمام الدم كما قال شاعرهم الشيخ الزهراوي:
فلسطين تبكي وتناديكم بالدماء
لماذا انفضضتم عني وتركتموني
الموت على أرضي كل يوم
أيها المسلمون أني ألوذ بحماكم.
مراجع مختارة:
- بوابة المغرب.
- بوابة الأمازيغ.