}

إيمانويل كانط: العقل ممر إجباريّ إلى الحقيقة

رنيم ضاهر 1 يناير 2025

 

صمتت ساعات الجدار في مدينة كونغسبرغ، في 12 شباط/ فبراير من عام 1804، بعد وفاة الفيلسوف إيمانويل كانط آخر فلاسفة عصر التنوير، الذي أمضى أواخر حياته في عزلة تامة نتيجة معاناته من ضعف جسدي وعقليّ وبعض الآلام المزمنة.

سكان كونغسبرغ الذين كانوا يضبطون ساعاتهم حسب مواعيد سيره المنتظمة في الشّوارع، أدركوا قيمة الفراغ الذي ملأه كانط في مختلف المجالات، ابتداء من الفلسفة الأخلاقية وصولًا إلى فلسفة المعرفة وعلم الجمال.

أحدث الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط المولود في 23 نيسان/ أبريل من العام 1724 ثورة في الفلسفة الغربية. وألهمت أفكاره هيغل وشوبنهاور، إضافة إلى علماء المنطق والفلسفة. فما هي الخطوط العريضة لأفكاره التي حدّدت علاقة الشعوب بالدين والإيمان والفصل التام بينها وبين السياسة، واعتبار العقل بوصلة للتنوير والإيمان؟

ينحدر كانط من أسرة متواضعة؛ كان والده الذي ينتمي لعائلة اللوثريين يعمل في صناعة الخزف، أمّا والدته فكانت سيدة منزل بسيطة. نشأ الأخير في بيئة دينية ملتزمة، وهذا ما أثّر على تصوراته المستقبلية للحياة كمفهوم وممارسة. واهتم كانط بدراسة اللاهوت في البداية، إذ ناقش في أعماله كيف يمكن أن يتوافق الإيمان الديني مع الفلسفة العقلانيةً، لكن سرعان ما ظهر شغفه بالفلسفة والعلم الطبيعيّ.

عُرف كانط بأسلوب حياته البسيط والبعيد عن الترف، فقد كان يعمل أستاذًا للفلسفة، وكان معروفًا بقدرته على تحفيز طلابه على الفكر النقدي، ومناقشة أفكارهم خلال الفصول الدّراسية. ولم يُعرف عن إيمانويل إقامته أية علاقة عاطفية، هو الذي آثر أن يكون فيلسوفًا مستسلمًا للتفكير العميق والعزلة المأهولة بالأسئلة المفتوحة، والانطوائية التي جعلته عازبًا أبديًا.

ومن أبرز الأسئلة الجوهرية التي طرحها خلال مسيرته الفلسفية، في محاولة لالتماس الحقيقة: كيف يمكننا معرفة الأشياء كما هي في الواقع؟

سعى كانط دائمًا من خلال فلسفته النقدية إلى إيجاد رابط بين العقلانية والتجريبية ومعرفة طبيعة الأخلاق، لذلك اعتبر مؤسّسًا رائدًا للفلسفة النقدية. واعتبر أن إمكانية المعرفة ترتبط بالقبليّ، والمقصود بالكلمة المكان والزمان ومبادئ العقل البشري، التي تسبق المعرفة وتجعلها ممكنة، وهي وليدة كل من الحسّ والعقل معًا. فالإنسان غير قادر على إدراك الحقائق الغيبية، كـ" الله" و"الحرية" سوى بالإيمان المحض، وعلى العقل الإنساني أن يتفهّم ما يدعو إليه الدين، ليس لأسباب نفعية، بل أخلاقية، معتبرًا أن الأخلاق أساس الدين وليس الدين أساس الأخلاق.

ومن أعظم أعمال كانط كتاب "نقد العقل المحض"، الذي حاول من خلاله بلورة وفهم حدود المعرفة البشرية بغية الوصول إلى الحقيقة. وكان خلاصة ما استنتجه بأن المعرفة البشرية ليست مجرد تلقّ لحقائق العالم الخارجي، بل هي عبارة عن مزيج من الخبرة الحسّية والتركيب العقليّ، والتي تتم داخل العقل البشري نفسه، لكن هذه المعرفة تبقى محكومة بالأخلاق. كذلك طرح فكرة "المثالية التراثندنتالية"، التي تقول إننا لا نعرف الأشياء كما هي في ذاتها، بل كما تظهر لنا.

تناول كانط في كتابه "نقد العقل العملي"، مسائل الأخلاق والحرية، موضحًا أن مفهوم الأخلاق أساسه الواجب، وهذا ما يعرف " بـ الأخلاق الكانطية". أمّا مصطلح " القانون الأخلاقي الكوني" أو " الواجب المطلق"، فهو يتجلى من خلال الإرادة الحرة والواجب الأخلاقي.  وقد توسع في شرح الأسس الفلسفية للأخلاق في كتابه "أسس ميتافيزيقا الأخلاق".

يرى كانط أن كل تجربة يجب أن يقودها العقل، وأن العقل بدون تجربة لا يقود إلى شيء. وفي كتابه "نقد ملكة الحكم" تناول إيمانويل موضوعات الجمال والطبيعة، شارحًا العلاقة بين العقلانية والتجريبية لفهم الجمال والأحكام الجمالية.


وفي إجابته الهامة عن سؤال ما هو التنوير، يعتبر أن شعار التنوير يكمن في عبارة "تجرّأ أن تكون حكيمًا"، لتكن لديك الشجاعة على استعمال فهمك الخاص!"، معلنًا أن الكسل والجبن هما السبب الذي يجعل نسبة كبيرة من الناس مستمتعين بالبقاء قاصرين مدى الحياة، لذلك فإنه من السهل أن ينصّب الآخرون أنفسهم مرشدين لهم، وهذا يتعلق مباشرة بعدم النضوج العقليّ والفكريّ.

يؤكد كانط أن الطريق إلى النضج ليس صعبًا فحسب، وإنما شديد الخطورة، ولا يمكن أن يتحقق إلّا عن طريق المحاولات الحثيثة، والتخلص من الدوغمائيات والصيغ الجاهزة والتي شبّهها بأدوات ميكانيكية تشكل قيودًا حقيقية لقصور الإنسان. ويستطرد بأن هناك فرصة للجمهور لتنوير نفسه، من خلال مصطلحي الحرية والاستقلالية، النابعين من القيمة الشخصية وعدم البقاء تحت القيود، إذ يمكن للثورة أن تنجح في إنهاء حكم استبداديّ، لم يتمكن من تحقيق إصلاح حقيقيّ في طرق التفكير. وكل ما يحتاجه مثل هذا التنوير: "الحرية". الحرية المقصودة والتي لا ضرر منها مطلقًا، أي حرية استعمال الإنسان لعقله علنًا.

وهو يظن من جهته بأننا لا نعيش في عصر مستنير، بل في عصر التنوير، حيث يستطيع الناس استعمال فهمهم بثقة وبشكل صحيح في المسائل الدينية، بدون توجيه خارجيّ، على أن يفتح لهم الطريق للعمل بحرية في هذا الاتجاه، وإنهاء العوائق أمام التنوير الكونيّ، أي أمام خروج الإنسان من حالة عدم النضج التي يسببها لنفسه.

وبحسب إيمانويل فإن الشعب يجب أن يكون على درجة عالية من الحرية المدنية، والتي تنعكس تدريجيًا على ذهنية الناس، كي يصبحوا قادرين على العمل من دون قيود على كافة المستويات.

اعتبر كانط أن الدين الذي لا يؤمن بالحجج والعقل، لن يصمد مع مرور الزمن، وكان نفسه قد أثبت وجود خالق للكون، إذ أنه من المستحيل أن يسير بشكل عشوائي بدون منظم له، وقد شرح نظريته بإسهاب في كتابه "الحجة الوحيدة الممكنة لدعم وجود الله"، والذي انقسم حوله النقاد والرأي العام. وأيًّا كانت ردود الفعل فإنه قارع بأدلة فلسفية مستفيضة وعقلية وجود الخالق، شاهرًا إيمانه في وجه ظاهرة الإلحاد التي كانت تنتشر بقوة، معتبرًا أن الخالق يحتضن في ذاته كل ما يفكر به الإنسان.

ويعتبر كانط أن كل فرد مهما كان اتجاهه الدينيّ، هو المسؤول الحقيقيّ عن الخير أو الشّر، إذ أن الطبيعة هي التي تحكم على خيارات الناس، لذلك فهو يعترف بالدين الذي يتوجه لطبيعة البشر بدون تمييز، تاركًا لهم حرية التفكير والاعتقاد واختبار الطريق إلى الحقيقة. فالحرية هي التي تحدد الطريق الذي سيسلكه كل فرد، سواء أكان سيئًا أو خيّرًا، وتبعًا لذلك تتحدّد خيارات البشر في الحياة.

يشير إيمانويل إلى أن إرادة الخالق مكتوبة في القلب كفعل الإيمان، الذي لا يحدّده اعتناق الغيبيات أو الوحي، بقدر ما هو الوصول إلى الإيمان المحض عن طريق العقل الذي يوصل بدوره إلى الخالق. فالدين ليس مجرد إقامة للشعائر والطقوس الغيبية.

يدعو كانط إلى عدم تصنيف الناس كفّارًا أو مؤمنين، أو تبعًا لشرائع يمكن ألا يقبلها العقل ولا تثبتها البراهين، معتقدًا بأن العلاقة بين الأرض والسماء تستمر من خلال الكتاب المقدس، الذي يشجع الناس على قراءته وتأويله بدون اعتباره وسيلة للخلاص، "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكنه ويجب عليه أن يبني جسرًا للذات مع الفضاء".

أمضى كانط حياته ككاهن منظّم، يؤدي صلواته الفكرية وكان الكتاب صديقه الفعليّ، وروزنامة حياته تشير إلى المعرفة المثالية التي أغدقها بانسيابية بين دفتيّ كتاب.

استثمر الحياة بالمطالعة والتأليف، ومنح العالم فرصة التفكير بحرية مطلقة، خارج البربرية، وكذلك التعبير خارج المألوف: "جادلوا كما تحبون، وحول أي قضية تريدون، لكن أطيعوا!".

وقد رفض كانط أن يكون الإنسان مجرّد مغلوب على أمره، محكومًا بأفكار نمطية، سائدة، أي أن يساق بالاتجاه الذي حدده أولياؤه من الساسة وأرباب العمل وتجار الدين.

انتصر كانط للعقل وحده، وللحرية المبنية على المنطق والأخلاق ليكون الإنسان مرشد نفسه ومخلصها من الجهل والعادات الوثنية.

كانط هو الفيلسوف الأكثر قربًا من الإنسان ومن فكرة الكون والخالق، الذي كان مصرًّا على أن "الفلسفة ليست شيئًا يمكن أن يدّرس بل هي القوة التي تدفع الإنسان إلى التفكير".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.