لم يستكن الأشخاص من ذوي الإعاقة للتصنيفات المجهضة لذواتهم من قبل المجتمع، فظهرت في عصرنا شخصيات عديدة قلبت موازين التصوّر المجتمعي عنهم، كالأديبة والناشطة هيلين كيلر في بدايات القرن العشرين، التي كانت تعاني من العمى والصمم. والرسام والكاتب الإيرلندي كريستي براون الذي كان مصابًا بالشلل الدماغي. أمّا في عالمنا العربي، فقد كان عميد الأدب طه حسين مصابًا بالعمى. لكن هذه الشخصيات كانت أشبه بجزر متناثرة يحتفي المجتمع البشري بها، في حين أنّ السواد الأعظم من الأشخاص من ذوي الإعاقة لم ترفع عنهم الاستعارة السلبية، فظلّوا تحت حكم هذه النظرة البخسة لوجودهم، حتى ذهبت بعض المجتمعات إلى إخفائهم أو تعقيمهم وحتى إبادتهم كما حدث في ألمانيا النازية.
كانت الحربان العالميتان في القرن العشرين، وما أفرزتاه من جنود كُثر قد تحوّلوا إلى خانة ذوي الإعاقة بسبب إصاباتهم الحربية، أحد الأسباب التي دفعت المجتمع إلى إعادة النظر في مفهوم الإعاقة التي كانت بمجملها تحدث بسبب الأمراض سابقًا، أمّا أن يكون الوافدون الجدد لهذا الحقل من الجنود المصابين في الحرب، فلا يمكن إهمالهم، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى تكوّن تصوّر عن المجتمع، بأنّه لا يعتني بمن ضحّوا بأثمن ما يملكونه بعد حياتهم ألا وهي صحتهم في سبيله. إنّ النظرة السلبية التي تكلم عنها كريجل، لم تكن لتستمر مع التقدّم الطبي والتقني للمجتمع البشري، مضافًا إلى ذلك تطوّر العلوم الاجتماعية والفلسفية والنقدية، ويضاف إلى ذلك حركات التحرّر من الاستعمار، وحقوق الإنسان والملونين ووجهة النظر النسوية التي رفعتها المرأة في مواجهة الحيف الذكوري، كانت كلّها قد شكّلت رافدًا فكريًا وتطبيقيًا داعمًا للاحتجاجات التي انطلقت منها حركات الأشخاص من ذوي الإعاقة للمطالبة بحقوقهم التي أغفلها المجتمع البشري. وبناءً على ما سبق، بدأت تصدر القوانين التي تلحظ الإعاقة وتعمل على تذليلها، فقد كان أول القوانين التي شرّعت من أجل هذه الرؤية: (قانون الحواجز المعمارية، 1968) الذي عمل على تخفيف الحواجز بوجه أصحاب الإعاقة، حيث نصّ على أنّ المنشآت المعمارية التي تُبنى بالأموال الاتحادية للولايات الأميركية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الصعوبات الحركية التي يعاني منها ذوو الإعاقات في تصميم المباني والساحات والطرق، وهكذا بدأ ظهور المنحدرات المناسبة للكراسي المتحركة، أو السلالم السهلة الصعود. فتح هذا القانون نافذة للناشطين في مجال حقوق ذوي الإعاقة لتكثيف ضغوطهم والتي أثمرت عام 1980 بأن أصدرت الأمم المتحدة تصنيفًا رسميًا للإعاقة. وتتابعت القوانين التي تدعم حقوق ذوي الإعاقة، فصدر في أميركا عام 1990 قانون يعتبر انتصارًا مدويًا في تأكيد حقوق ذوي الإعاقة حيث عدّ نضوجًا لقانون التشريعات المدنية الذي صدر عام 1964 لحماية ذوي الإعاقة من التمييز والإهمال المجتمعي. وتعتبر أميركا رائدة في التشريعات الداعمة للأشخاص من ذوي الإعاقة وقد نسج العالم على منوالها، هكذا ظهرت قوانين مشابهة لقانون عام 1990 لكن كان أفضلها هو (قانون المساواة) في بريطانيا عام 2010 الذي جعل التمييز نحو ذوي الإعاقة في التوظيف والتعليم والنقل وتوفير السلع والخدمات وغير ذلك ليس قانونيًا. وأخيرًا نصّت الأمم المتحدة في رؤيتها الشاملة للتنمية البشرية المستدامة لعام 2030 على أن تشمل هذه التنمية الأشخاص من ذوي الإعاقة.
هذا الواقع التشريعي الجديد على امتداد تطوره التاريخي، أفرز رؤى جديدة فضحت مقدار الحيف والظلم الذي كان يقع وما زال على ذوي الإعاقة، وفي الوقت نفسه بيّن أنّ الحركات الشعبية المكوّنة من ذوي الإعاقة والمناصرين لهم منذ ستينيات القرن الماضي، قادرة على توسيع المظلة القانونية لتشمل كل تطلعاتهم، وهذا ما أوضحته إحدى الناشطات من ذوي الإعاقة (سيمي لينتون) بقولها: "لقد خرجنا إلى الشارع غير مرتدين تلك الأردية الصوفية البنية فوق أرجلنا الذابلة، أو النظارات الشمسية فوق أعيننا الشاحبة، ولكن مرتدين السراويل القصيرة والصنادل... بصراحة، وبلا أقنعة، وبلا اعتذار". وما قصدته لينتون أنّ تاريخ الإخفاء والإخراج من المشهد العام للمجتمع لذوي الإعاقة، والذي مثّله أقبح تمثيل قانون مكافحة المتسوّلين وذوي الإعاقة الأميركي الذي ألغي في سبعينيات القرن الماضي، ولكنّه يعود تاريخيًا للقرن التاسع عشر، قد خُرق ولن يعود له مكان.
سبق لينتون في هذا المجال الكاتب والناشط البريطاني بول هانت في كتابه "الوصمة: تجربة الإعاقة، بإعلان جريء"، والذي قدّمه بالمقولة التالية: "هذا الكتاب غير مريح". والذي يعنيه هانت أنّ كتابه وما تضمنه من مقالات لذوي إعاقة آخرين، لن يكون مهادنًا، لأنّ مشكلة ذوي الإعاقة لا تكمن في الضعف الجسدي فقط، بل في علاقتهم مع المجتمع الذي يحيون فيه ويمارس عليهم التمييز السلبي، وبهذا التحليل رمى هانت الكرة في ملعب المجتمع الذي كان يجد في الإعاقة كصفة متجذّرة في الشخص مرتكزًا للتخلّص من واجباته نحوه، كما كان يمارس التمييز والإقصاء بحقّ الملونين والنساء على نفس المنوال. لقد شكّلت أفكار كلّ من هانت ولينتون أفق المطالبات لذوي الإعاقة في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، وذلك باعتبار الإعاقة لا تتعلّق بالشخص بقدر ما هي مرتبطة بمحيطه وبيئته الاجتماعية بمستوياتها كافة (الدينية والسياسية والاقتصادية). لقد كان هانت عضوًا مؤسسًا في "اتحاد المعوّقين جسديًا ضد الفصل العنصري"، كذلك كانت لينتون عضوًا ناشطًا في الحملات الشعبية التي كان ذوو الإعاقة يحيونها في الشوارع والساحات معبّرين عن مطالبهم. وفي كتابها "الخروج" رصدت لينتون يوميات المظاهرات والاحتجاجات والتجمعات التي قام بها ذوو الإعاقة مع مناصريهم للخروج من (المعتقلات) إن صحّ التعبير بقولها إنّ: "المؤسسات التي حبستنا، والعلّيات والأقبية التي كانت تؤوي عار عائلتنا" انتهت إلى غير رجعة.
هذا النضال الذي سطّره هؤلاء الناشطون واستلهموه من حركات الحقوق المدنية للملونين والحركات النسوية، عمل في الوقت نفسه على دعم من سبقوهم في تلك الاحتجاجات، من غير فئات كانت تعاني من الاضطهاد المجتمعي، وأفرز تحديّات جديدة يجب تجاوزها بالنسبة لذوي الإعاقة، فقانون الحواجز المعمارية كان خطوة بسيطة وهناك حواجز أخرى يجب رفعها لتحقّق المسيرة الإنسانية لذوي الإعاقة غايتها. وقد لخّصها الكاتب فرانك باو في كتابه "إعاقة أميركا" (1978) بما يلي: "المعمارية، والسلوكية، والتعليمية، والمهنية، والقانونية والشخصية" والتي يمكن شرحها باختصار، فالمنشآت المعمارية، لا يجب أن تحدّ من حركة ذوي الإعاقة، أمّا السلوك العام الذي يقوم على التمييز السلبي ضدهم، فيجب أن يتوقّف، فيما الصروح التعليمية من مدارس وجامعات من الواجب أن تفتح أبوابها لهم، ومن الضرورة أن تنصّ قوانين العمل والتوظيف على استيعاب ذوي الإعاقة لتحريرهم ماديًا ولإظهار إمكانياتهم ومواهبهم، ولا يجوز ترك إدماج ذوي الإعاقة في بيئة العمل لصالح رغبات أصحاب العمل وخاصة لجهة الأجور، ولن يتم ذلك إلّا بإصدار تشريعات قانونية حاسمة وواضحة نحو هذه المواضيع، لكن على ذوي الإعاقة أن يخرجوا من قوقعة الإعاقة كسلْطعونات بحر إلى الضوء والحياة.
هذا النشاط المكثّف خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين من خلال تأليف الكتب والحراك على الأرض، أظهر أنّ الإعاقة كانت تقليديًا حكرًا على الطب وعلم النفس والعمل الاجتماعي وكانت تخضع للنظرة الطبية، لكن في السنوات اللاحقة من الثمانينيات والتسعينيات، بدأ العلماء في علم الاجتماع والسياسة الاجتماعية والتعليم والدراسات الثقافية والعلوم الإنسانية في الاستفادة من الحركات الاحتجاجية والحقوق المدنية من أجل طرح نموذج بديل للإعاقة. وقد عارضوا النموذج الطبي الذي تُوصّف فيه الإعاقة بأنّها عجز كامن في الفرد؛ رافضين النظر إلى الإعاقة باعتبارها مرضًا أو التعامل معها باعتبارها مشكلة تحتاج بالضرورة إلى علاج أو إعادة تأهيل أو إخفاء. وبدلًا من ذلك، طرح الناشطون والعلماء نموذجًا اجتماعيًا، يُطلق عليه أحيانًا نموذج "البناء الاجتماعي"، للإعاقة. وقد أكد هذا النموذج على الجوانب العامة والبنيوية للإعاقة وسلّطوا الضوء على وضع الأشخاص ذوي الإعاقة كمجموعة مضطهدة تاريخيًا.
|
حشود تشاهد قدامى المحاربين، من بينهم محارب مبتور الأطراف في كرسي متحرك، وهم يشاركون في موكب "العودة بشرف" في مدينة نيويورك، 31 مارس/ آذار عام 1973 (Getty) |
يضع النموذج الاجتماعي تمييزًا رئيسيًا بين "الضعف" و"الإعاقة"، وهو على النحو التالي: الضعف: هو الافتقار إلى جزء من أحد الأطراف أو كلّه، أو وجود عيب في أحد الأطراف أو الأعضاء أو آليات الجسم. أمّا الإعاقة فهي: الحرمان أو تقييد النشاط عبر آليات منع من المنظومة الاجتماعية التي لا تأخذ في الاعتبار الأشخاص ذوي الإعاقات الجسدية وبالتالي تستبعدهم من المشاركة في التيار الرئيسي للفعاليات في المجتمع. هذا النموذج كان قد اقترحه لأول مرّة الكاتب إيرفينج كينيث زولا، معرّفًا الإعاقة بعيدًا عن النظرة الطبية بأنّها: "قيد وظيفي" لأنّها تنشأ من خلال سيرورة اجتماعية، والتي تظهر من خلال العلاقة بين الفرد الذي يعاني من إعاقة والمجتمع الذي يعيش فيه. حيث يُعيق المجتمع الأفراد من ذوي الإعاقة، من خلال استبعادهم، أو التمييز ضدهم وخلق حواجز عاطفية، أو حسّية، أو معرفية، أو معمارية. وبمعنى أكثر وضوحًا، تشير وجهة نظر النموذج الاجتماعي إلى أنّ مستخدمي الكراسي المتحرّكة، قد يعانون من إعاقة في الحركة، لكنّهم معوّقون بسبب عدم توفير المنحدرات ومرافق الوصول المناسبة. وبالمثل، لا يصبح الشخص الذي يعاني من ضعف السمع معوقًا، إلّا عندما لا يستطيع أي شخص آخر في الغرفة التواصل معه باستخدام لغة الإشارة.
لقد كان للنموذج الاجتماعي للإعاقة تأثير واسع وفعالية واضحة على النظرة المجتمعية إلى ذوي الإعاقة، ويقول الكاتب والباحث توم شكسبير بأنّها كانت بمثابة قوة للتغيير على ثلاثة مستويات وذلك من خلال إمكاناتها السياسية لبناء حركة اجتماعية للأشخاص ذوي الإعاقة؛ وعن طريق قوتها العملية في التأكيد على الحاجة إلى تكيّف المجتمع لإزالة الحواجز بوجه ذوي الإعاقة؛ ومن خلال التحوّل النفسي الذي دعم تطوير هوية جماعية بين الأشخاص ذوي الإعاقات الجسدية والعقلية المتنوعة جدًا.
ظهور دراسات الإعاقة كتخصص أكاديمي
ولدت دراسات الإعاقة كمجال أكاديمي في تسعينيات القرن الماضي، وتعدّ نتيجة لما ذكرناه سابقًا، حيث أصبحت البيئة الاجتماعية والتشريعية والمعرفية جاهزة لاستقبال هكذا دراسات بعد التقدّم الكبير الذي أحرزه الأشخاص من ذوي الإعاقة في سعيهم نحو مطالبهم المشروعة والطبيعية. ويؤكد الكاتب لينارد ديفيس في مقدمة كتابه "دراسات الإعاقة" (1996) على أهمية فهم تشكّل هذا المجال من منظور تاريخي، وذلك من خلال حواره مع مجالات أخرى متعدّدة التخصصات معنية بالحقوق والعدالة الاجتماعية، كحقوق الملوّنين والحركات النسوية: "ليس الأمر، وكأنّ دراسات الإعاقة قد ظهرت ببساطة من رأس شخص ما في تلك اللحظة التاريخية، لكن سيكون من المناسب أن نقول بأنّ دراسات الإعاقة كانت في طور التكوين لسنوات عديدة، ولكنّها، مثل الأشخاص ذوي الإعاقة، لم تعترف بنفسها إلّا مؤخرًا ككيان معرفي وسياسي وخطابي".
يقول ديفيس في عام 2006 بمناسبة الطبعة الثانية من كتابه: "عندما كتبت المقدّمة لكتاب ’دراسات الإعاقة, قبل عشر سنوات، كنت أعلن عن ظهور مجال جديد للدراسة... ومن دواعي السرور أن نلاحظ أنّه بعد أقل من عقد من الزمان، تغيّر كل ذلك. تُدرَّس الآن دراسات الإعاقة في جميع أنحاء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والعالم. وقد أثمرت أخيرًا جهود العديد من العلماء والناشطين في مجال الإعاقة لولادة هذا المجال من الدراسات الأكاديمية". يرى مؤرّخ الإعاقة بول لونجمور بأنّ تاريخ دراسات الإعاقة يشبه الموجات، حيث كانت الموجة الأولى عبارة عن نشاط ونضال من أجل الحقوق المدنية والذي بلغ ذروته في قانون الأميركيين ذوي الإعاقة لعام 1990. فيما تجلّت الموجة الثانية بظهور دراسات الإعاقة كمجال أكاديمي ظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالهوية الجماعية وحملات ثقافة الإعاقة. وفي الآونة الأخيرة، اقترح العلماء بأنّ نظرية الإعاقة تدخل موجة أو مرحلة ثالثة متداخلة مع سابقتها، حيث بدأ المجال في الانقسام حول بعض المبادئ الرئيسية؛ وخاصة في التفريق بين الإعاقة والضعف. لقد كانت للنموذج الاجتماعي للإعاقة فائدة كبيرة، حيث تم من خلاله كسر الحواجز البيئية والديناميكيات الاجتماعية الثقافية للإعاقة، لكنّه على الرغم من وسع مظلته، إلّا أنّه لا يستوعب جميع حالات الإعاقة. إنّ التركيز على البناءات الاجتماعية الثقافية للهوية في دراسات الإعاقة قد طغى على المناقشات المهمة حول الحقائق المادية التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقات الجسدية، من آلام جسدية ومعاناة على صعيدهم الشخصي، التي لا دخل للمجتمع فيها. لقد تسبب اعتبار الإعاقة صفة مجتمعية لا فردية بتهميش المشاعر والأحاسيس الذاتية لذوي الإعاقة. أمام هذه الدراسات الجديدة تعرّض النموذج الاجتماعي للإعاقة لانتقادات بسبب الطريقة التي يُقدم بها الأشخاص ذوو الإعاقة على أنّهم يتمتعون بقدر ضئيل من الوكالة في تمثيل أنفسهم، فقد عدّت الانتصارات التي حقّقوها، ليست نابعة بالفعل من الجمهور من ذوي الإعاقة، كما تنصّ الدساتير على أنّ الشعب هو مصدر السلطات. والسبب في ذلك أنّ النموذج الاجتماعي يخضع بمكان ما بشكل كبير كما أوضح الفيلسوف ميشيل فوكو عن دور الدولة في تنظيم وتطبيع الأجساد، من خلال عملية "الإخضاع" وتقنيات القوة الحيوية؛ مثل الإحصاءات والديموغرافيا والتعقيم وتحسين النسل. إنّ وجهة النظر البنائية الاجتماعية تضع الأجساد المعوّقة باعتبارها، على حدّ تعبير فوكو: "أجسادًا مطيعة". قد تبدو هذه الحجج حول حدود النموذج الاجتماعي وكأنّها تشكّك في نطاق المجال نفسه؛ لذلك يقترح شكسبير بأنّه على الرغم من قيمة وأهمية النموذج الاجتماعي في الماضي، إلّا أنّه قد: "أصبح الآن عائقًا أمام المزيد من التقدّم".
تبين هذه الانتقادات قوة دراسات الإعاقة في إقلاق وزعزعة استقرار حتى أكثر افتراضاتها أساسية. إنّ هذا الجدل الذي أوجدته الدراسات الأكاديمية كان دعوة لتحدّيات جديدة، كالدعوة إلى نظريات بديلة للجسد والألم والمعاناة تأخذ في الاعتبار الإعاقة وأشكال المعرفة ضمن التطبيقات العملية وليس النظرية فقط. وفي الوقت نفسه الذي تؤكّد فيه العودة إلى الاهتمامات الجسدية، هناك أيضًا تركيز متزايد على قضايا ضعف الإدراك، وهي المنطقة التي تم تهميشها تقليديًا في دراسات الإعاقة. إنّ التركيز على قضايا ضعف الإدراك، مثل التوحّد أو متلازمة داون، يتحدّى فهم الإعاقة على أنّها ببساطة عدم توافق بين البيئة الاجتماعية والإعاقات الجسدية للفرد. وبناءً على هذا السياق، يجب أن يتم إعادة صياغة مفهوم الإعاقة. لقد رفضت بعض أحدث الدراسات النظريات المتعلّقة بالإعاقة التقسيم بين العقل والجسد، وبين الطبي والاجتماعي. وبدلًا من ذلك، فقد انطلقت من افتراض مفاده أنّ "الهويات البشرية، مبنية اجتماعيًا، إلّا أنّها مع ذلك ذات معنى خاص وليس جمعيًّا، لأنّها مجسدة بشكل ذاتي وفردي". يشير هذا المنظور الجديد إلى أنّ الإعاقة تنتج من خلال التفاعل بين الأجساد الفردية والبيئات الاجتماعية كما يوضّح توم شكسبير. إنّ هذا التحوّل والتطوّر، الذي شهدته الدراسات الأكاديمية للإعاقة من المنظور الاجتماعي إلى الواقعية الجديدة للجسد وعلى الرغم من عمرها القصير، إلّا أنّ دراسات الإعاقة أصبحت منهجًا علميًا كاملًا يفترض النظرية ومن ثم يضعها موضع التطبيق ليرى نتائجها الفعلية في الواقع، ويعمل على تعديلها لتلائم المتطلبات الجديدة لذوي الإعاقة. لقد مضى الزمن الذي كان فيه الأشخاص من ذوي الإعاقة يخضعون للاستعارات سواء كانت سلبية أو إيجابية، وبدأوا بصناعة استعاراتهم الخاصة ودمجها في محيطهم الاجتماعي والمعرفي. وإنّ الدراسات الأكاديمية للإعاقة ستعيد تفسير وتغيير علاقة الإنسان بمحيطه، سواء كان من ذوي الإعاقة، أم لم يكن.
*كاتب من سورية.