}

في رحيل فرحان بلبل: لا فِعل بدونِ فِكر

أنور محمد 19 يناير 2025
استعادات في رحيل فرحان بلبل: لا فِعل بدونِ فِكر
كَتَبَ فرحان بلبل أكثر من أربعين مسرحية
فرحان بلبل (1937- 2025) كاتبٌ وناقدٌ ومخرجٌ مسرحيٌ سوري شكَّلت مسرحياته التي قدَّمها مواقف مثيرة ضد التخلف والاستبداد الذي تمارسه السلطات العربية على العقل النقدي لشعوبها، وتميَّزت عن غيرها من المسرحيات العربية بأنَّها أوَّل تراجيديات عن صراع العُمَّال مع رؤسائهم في الدول التي تبنَّت النظام الاشتراكي مثل مصر وسورية. فأرانا فرحان بلبل كيف كان استغلال السلطة الاشتراكية للعمال فظًا وقاسيًا، وأنَّ السلطة كانت تمارس مهنة القتل اليومي لمواطنيها/ عمَّالها؛ وحوَّلت النقابات التي يُفترض أن تُدافع عن حقوقهم إلى متعهدٍ لدفن الحق والعدالة كما يُدفنُ الموتى، وكيف حوَّلت العلاقة بين العُمَّال والدولة إلى علاقة بين مُستَغَل ومُستَغِل، كاسرةً كلَّ اضرابٍ يقوم به العُمَّال.  
كَتَبَ فرحان بلبل أكثر من أربعين مسرحية أَخْرَجَ مُعظمها؛ أوَّلها كانت مسرحية "الجدران القرمزية" التي كتبها سنة 1969، ثم: الحفلة دارت في الحارة، يا حاضر يا زمان، لا ترهبْ حدَّ السيف، الممثلون يتراشقون الحجارة، العشاق لا يفشلون، الصخرة، الصندوق الأخضر، البيت والوهم، الطائر يسجن الغرفة، العيون ذات الاتساع الضيق، القرى تصعد إلى القمر، الميراث، الليلة الأخيرة، ديك الجن، عريس وعروس، ابدأ، أُحبُّها... وغيرها. وها
وهو في مسرحياته يذهب إلى الصراعٍ فالصدام الذي يأخذ عدَّة مسارات؛ مثل الصدام الفيزيولوجي كما في مسرحية "الجدران القرمزية"، والصدام الروحي/ النفسي عندما يستغلُّ القويُّ الضعيفَ ويُصادر حقوقه كما في مسرحية " يا حاضر يا زمان". وهو صراعٌ وجودي، سواء انتصر الخيرُ على الشرّْ أو الشرُّ على الخير؛ وبذلك تراه يُصوِّر القهر السياسي وكَمَّ الأفواه والإكراه الأعمى على الرضى بالواقع. طبعًا فرحان بلبل في مسرحه (العُمَّالي) يدفع العُمَّال- وهو مُؤسِّس فرقة المسرح العُمَّالي سنة 1973 في سورية؛ لأن يلعبوا دورًا إبداعيًا/ حياتيًا فلا يقفون مكتوفي الأيدي أمام سكاكين وخناجر الدولة التي تستعبدهم عبر (نقاباتها) التي تحوَّلت إلى أفرعٍ أمنية.
في مسرحيته الأولى "الجدران القرمزية" التي كتبها وأخرجها عام 1969، وهي عن القضية الفلسطينية، بطلُها العم أحمد يتصارع فيها مع عدوين: الصهيوني في الأرض المحتلة من طرف، وسلمانُ الخائنُ وخليل المتخاذلُ من طرفٍ ثانٍ، ويتحوَّل الصدام فيها من الصالة إلى مخيم اللاجئين الفلسطينيين في حمص، ويتمُّ إشهار السلاح لولا تدخل من تدخَّل من العقلاء وإلاَّ كان الدم سيُساح.





فرحان بلبل في مسرحياته/ تراجيدياته، يضعنا كمتفرجين في واقع جمالي ولكن وهو يغلي في قِدْرٍ سياسي، فيذهب من الفكر إلى تحقيق الفعل، فلا فِعلَ بدونِ فِكرْ؛ وإنَّ الفكرَ يقود الفعل. وأشدُّ ما كان يَحْذَرُ ويُحذِّرُ منه أنْ نقعَ في الهرطقة فَيُشَلُّ العقل. لذا نرى أنَّ شخصيات مسرحياته لا تستسلم للصدفة ولا للبطالة، ولا للكسل ولا لليأس، رغم أنَّ أغلبها شخصياتٌ تعاني الجوع إلى الحريَّة السياسية والاقتصادية لتأسيس دولة سورية الفكر والعقل. شخصياتٌ مندفعة فلا تُساقُ مع القطيع إلى المسالخ والمذابح. فعبد المطلِّب جدُّ الرسول محمَّد (ص) وهو سيِّدٌ من سادات قريش في مسرحيته "الممثلون يتراشقون الحجارة" وهي مسرحٌ داخل المسرح، يُحوِّله فرحان بلبل من شخص يُدافع عن إِبِلهِ/مالِهِ أمام الملك أبرهة الحبشي حين احتلَّ مكَّة ليهدم بناء الكعبة كمكان ورمزٍ ديني واقتصادي واجتماعي في عام الفيل 570م، إلى بطل يدافعُ عن الكعبة بدل أن يدافع عن إِبِلِه؛ إذْ قال يومها عبد المطلب لأبرهة قولته: (الإبلُ لي والكعبةُ لها ربٌّ يحميها). فرحان في انقلابه على عبد المطلب ليدافع عن الكعبة بدلًا من دفاعه عن إِبِلِهِ حتى لو كانت حجرًا؛ إنَّما يرينا كيف تُصنع البطولة التي تُغيِّر التاريخ. فالدفاع عن المكان هو دفاعٌ عن الغريزة الاجتماعية، فنقول إنَّه كافحَ وقاتلَ من أجل المكان: وطَنه.
في مسرحية "يا حاضر يا زمان" سنرى فرحان بلبل في أقصى حالات الغضب السياسي، وهو يقيم الجدل بين الضرورة والاحتمال، وإن جاءت بعض حواراتها خالية من التصعيد الدرامي، إذْ ذهب إلى الشعارات السياسية ليكشف عورات النظام السوري وهو يُفرِّخ ويرعى ويحمي الفساد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على حساب الناس؛ يسرقُ تَعَبَهُم ويمصُّ دمَهُم، ثمَّ يبيعهم إيَّاه. سيِّدٌ وقنْ، ملكٌ ورعية، إنَّها علاقةٌ غير إنسانية كما لو أنَّها علاقةٌ بين كلبٍ وصاحبه، وهذا ما كان يثيرُ غضبه، وهذا ما راحت إليه المسرحية على ما فيها من مباشرة سياسية تطالبُ بمقاومة الفساد، واليقظة والحذر من المتلاعبين بقوت الشعب.
في مسرحيته "قطعة العملة" كأنَّ فرحان بلبل يقول: إنَّه لا وقتَ للموت ولا وقتَ للحياة. الوقتُ كلُّ الوقت ما بين الحياة والموت هو (للنقد/ المال). شخصيتان تعثران على قطعة نقود فتلتقطها إحداهما، يختلفان على ملكيتها، يتحاججان وإن كان كلًا منهما يريد امتلاكها رغم اتفاقهما على اقتسامها، سرعان ما يحلمان بامتلاك ما يتمنيانه وقد استيقظا فيقتتلان حتى الموت. بلبل في هذه المسرحية يذهب إلى القول إنَّ الموت قد ألغى (الأنا)، وإنَّ الوقت الذي عاشه بطلا مسرحيته إنَّما هو جبرٌ وقتي. ماذا لو اقتسما المال/ قطعة العملة؟
إنَّها تراجيديا - وإن كانت ذهنية- من أسئلة فلسفية، يقوم المال الذي نجمعه، أو الذي جمعه الرئيس المهزوم/ الفار، على تصعيد الصراع وتأزيمه إلى الانفجار؛ فالموت، كون الوجودُ بِحلْوِهِ ومُرِّهِ، لا يدافع عن نفسه إذا قامت (الأنا) باغتصاب وعيه بالوجود، وتحوَّلت إلى وحشٍ بلا وعي. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.