(ستيفان تسفايغ)
عند كلّ تغيير يدور النقاش حول جسد النساء، المتاح والمسموح، ما تستحسنه السلطة وما تنبذه، أو بتعبير ستيفي جاكسون يصبح "الجسد هو الساحة التي يدور حولها الجدل"، الذي يدعى إليه الجميع ما عدا المرأة. وبما أن قدرَ التحوّل السياسيّ فوق هذه البقعة من الأرض، أن يحدث عبر السقوط فالصورة التي جرى تظهيرُها في الخيال الإنساني لأوّلِ سقوط من الجنّة، تعود لامرأة تغطي نصفها السفليّ بورقة توت.
وفي كل حال يعتبر جسد المرأة ساردًا من طرازٍ رفيع، وهو يروي تاريخًا من الهيمنة لأجيال من السياسيين الذين يحرصون على أن يغرسوا أعلامهم في فزّاعة الجسد الأنثويّ؛ فالأخير لا يعكس شكل نظام الحكم، ونظرة المجتمع وثقافته ونوعيّة الأفكار (يساريّة أو يمينيّة، قروسطيّة أو حداثيّة، رجعيّة أم تقدميّة) بل يُظهر حال المجتمعات وتطوّرها.
يبُهج أرشيف الستينيات في سورية عين الناظر، إذ يشعر بطزاجة الهواء الذي تتنفّسه السيدات اللّاتي يظهرن في الصور بتنانيرهن القصيرة، وقمصانهن الرسمية إذ يقفن لالتقاط صورٍ تذكارية أمام دار للعلوم أو يجلسن باسترخاء وهن يتناقشن في صالون ثقافي، أو سعيدات ومتوردات في حفلة لأم كلثوم. فتعكس لغة أجسادهن وملابسهن ثقةً لا تتاح إلاّ لمن انحدرن من سلالة مريانا مراش (1848 - 1919) وريادتها التي تمثلت في تأثيرها على بنات جيلها والجيل الذي يليه عبر انشغالها بهموم المرأة ودعوتها إلى تحريرها من خلال التعليم والتي ربطت الوعي والاستنارة بالتحرر الخلاق من القيود. هذه الأفكار وغيرها أدت لاحقًا لبلورة مشاريع فكريّة قامت بها النساء في سورية ومصر والوطن العربي، وصولًا إلى حنان نجمة- 1980- والتي كانت تستقبل في صالونها الثقافي مساء الخميس الأول من كل شهر نخبة من رجال الفكر والأدب والفن وغيرهن كثيرات.
تروي الصورة الثانية من الأرشيف حكاية سوداويّة، يختصرها مجيء نظام الأسد ثم انهياره في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، تاركًا ندوبًا في الذاكرة السوريّة، الأولى في عام 1981 بطلاتها مجنّدات سرايا الدفاع التي كان يترأسها رفعت الأسد، شقيق الرئيس حافظ الأسد، تظهر في الصورة المجندات وهن ينزعن الحجاب عن رؤوس النساء في شوارع دمشق والصدمة التي أعقبت ذلك. تلاها بعد ذلك في 1989 قرار منع الحجاب في المدارس وصولًا إلى 2010 وقرار منع النقاب في المدارس والجامعات.
تظهر صور الأرشيف بوضوح كيف يوضع جسد المرأة دائمًا في مواجهة، ويصبح محلّ صراع ليس في حقيقته سوى نزاع على السلطة والامتيازات عبر النقطة الأضعف فيه: جسد النساء؛ إذ يتحدّث الجميع عنه كما يتحدث الملاّك عن إقطاعياتهم، ويسخّرون الدعاية والإعلام لهذا الغرض.
والخبر الجيد في هذا الخصوص هو: أنهم يتركون لها حرية اختيار اللون الذي ترتديه.
وفي 2001، كانت صور الدعاية واللوحات الإعلانيّة تمتد على طول أوتستراد منطقة المزّة في دمشق باتجاه بيروت إذ تملؤها صور نساء نحيلات، شقراوات لهن نظرة ذئبية، إنهن لسن ببراءة مارلين مونرو- التي استغلت الدعاية جسدها ثم قتلتها السياسة- كن يحملن حقيبة ماركة التمساح، أو يرتدين حذاءً من جلدٍ طبيعي، (إنها المرأة الأوروبية، النموذج الموحد، اللون الواحد، النظرة الواحدة وهي ترتدي قميصًا وتضع يدها على عظام خصرها النحيل).
إذا ما تابعت التقدم نحو بيروت لن يختلف المشهد كثيرًا، سوى أن هاته الدمى سيتوسطن اللوحات الإعلانيّة بثياب داخلية مدموغة بماركات عالمية ليمثلن إعلانًا عن كل شيء (ما عدا الشيء الذي هو هدف الإعلان).
بعد ثلاث سنوات من الآن ستظهر الفضائيات التي تبث الأغاني على مدار 24 ساعة. سنتعرف إلى الإعلامية السمراء أوبرا وينفري وقصص نساء أوروبيّات ملهمات لا ينتمين إلى عالمنا الذي راح يتهاوى من أعلى أسوة ببرج التجارة العالمي عام 2001.
بعد ذلك بوقت قليل ظهر على روتانا كليب امرأة تمتلك جسدًا مختلفًا عن مقياس الجمال الذي صُمِّمت ذائقتنا عليه، كانت تبدو بثوبها الأحمر وضحكتها المرتجفة وكأنها تسخر من مشاهديها. لم تكن لها أناقة داليدا، ولا اضطراب آنا كارنينا، ولا شحوب نساء الإعلانات؛ كان لها مظهرٌ مبتذل بثوبها الذي يلتصق بجسدها تحت رذاذ مطر مصطنع... لقد كانت تمثل إعلانًا ضمنيًّا عن عصرٍ جديد.
من المذياع يعلن أحدهم سقوط بغداد في 2003، ومن نوافذ السكن الطلابي وشرفات بعض المنازل أسمع أغنية "يالبرتقالة" وعلى امتداد أوتستراد المزة أزيلت صور النساء الشاحبات واستبدلت بصور أخريات، وإلى جانبها عروض شركات التجميل، وإبر الفيلر، وفي هذه اللوحات نساء يبدون كنسخة عن المرأة ذاتها التي ترقص تحت - ما بدا تقليدًا سيئًا للمطر- أما الأطباء فقد كانوا يحملون معداتهم وكأنهم مندوبو الدعاية للعصر الجديد.
في الأرشيف السوري الراهن وتحديدًا بعد 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 تظهر ملصقات جديدة لنساء يرتدين نقابًا شرعيًا يخفي في بعض الصور أعينهن خلف قماش شفاف أو نظارة شمسية، وقد كتب بجانبها بخط واضح: تعبيرات تخص الأخت المؤمنة والفاضلة لحماية نفسها وستر جسدها. وعلى الوجه الآخر للعمود إعلان آخر وهذه المرة: بشرى للنساء عن قيام مركز تجميل بتخفيضات على حقن الفيلر والبوتوكس.
يبدو الجسد عبر التاريخ كحقل تتوالى عليه الأيديولوجيّات، وسواء عبر الترغيب أو الترهيب؛ فإن الدعاية تجعل الأمر يبدو وكأننا نختار كنساء ما نرتديه وكيف نرتديه، ونختار بناء عليه الجسد المثالي الذي نطمح لأن نكونه. وبخلاف اعتقادنا فإن الاختيار يأتي من حيث لا نتوقع من قولنا لا، أو من معرفتنا على الأقل متى نقول نعم ومتى نقول لا. وإذ تعتقد المرأة أنها تختار لكنها أشبه بعروس البحر التي أحبت أميرًا لكن نصفها السمكي جعلها تخشى الرفض، لقد فاوضت لتحصل على قدمين أسوة ببني البشر، وذلك لم يكن دون ثمن، إذ باعت صوتها للساحرة التي حذّرتها من أنها ستتحول إلى زبد في حال تخلّى عنها الأمير (وهذا ما حدث).
في الصفحة الأخيرة من الأرشيف، صورة لتمثال الرئيس العراقي السابق صدام حسين، يهوي مع يده الممدودة على طريقة الفوهرر أرضًا. بمحاذاتها صورة أخرى للفنان علاء سعد بوجه مبتسم تحيط به نساء يرقصن فوق رقعة شطرنج على كلمات أغنية "يالبرتقالة". أغلق الألبوم وأتذكر نساء الإعلانات وعبارة فيليب سوليرز التي ينتهي بها كتابه "بورتريهات نساء": "تأملوا للحظة، كل النساء اللاّتي تمّ التضحية بهن على مذبح التاريخ والسياسة".
أفكر في النظرة الشاردة والخصور الضامرة للنساء اللاتي انتهت صلاحيتهن وهن يلقين في مستودع معتم ليغطي الغبار حقائب ماركة التمساح ويسدل الستار على عيونهن الحزينة وهن يراقبن آخر المغادرين يغلق الباب. أطوي أرشيف الصور وأكتب: من نساء الإعلانات إلى برتقالة بغداد أما بعد...
*كاتبة سورية.