}

في بعض وقائع الكشف عن "ثقافة الخوف" في سورية

أحمد طمليه 24 يناير 2025
استعادات في بعض وقائع الكشف عن "ثقافة الخوف" في سورية
نبيل المالح (Getty)
ربما يكون الفنّان أيمن زيدان من الفنّانين السوريين الأكثر وضوحًا حين سارع إلى الاعتذار، فور سقوط نظام بشّار الأسد، بتصريحه: "كم كنت واهمًا وأسيرًا لثقافة الخوف. كنا نخشى التغيير خشية أن يقودنا ذلك إلى الدم والفوضى". بعد ذلك توالت تصريحات فنانين سوريين يبررون مواقفهم التي كانت مع النظام المخلوع ثم انقلبت ضده، مما أثار استهجان الكثيرين، سواء من عامة الناس، أو بعض المثقفين العرب ممن وصفوا مثل هذه التصريحات بمصطلح "التكويع"، أي الفنان "المتلوّن" الذي يغير موقفه حسب الموجة الدارجة، وبما يتناسب مع مصلحته الشخصية أولًا.
الأمر الذي يطرح سؤالًا: هل، حقًا، كل من غيّر موقفه هو "مكوّع"، أم كانت، حقًا، هناك "ثقافة خوف" جعلت بعض الفنانين السوريين يلتزمون الصمت على مدار عقود.
المخرج السوري نبيل المالح (1936- 2016) كشف قبل ثلاثة عقود من الزمان، تحديدًا في عام 1993 أن ثقافة الخوف كانت موجودة بقوة، وهي لا تجعل الفنان يلتزم الصمت فقط، بل إنها تقلق مضجعه في المنام، وتجعل حياته عصية على العيش، وذلك عبر فيلمه "كومبارس" من تأليفه، وتمثيل بسام كوسا، وسمر سامي. وقد حاز الفيلم على جائزة أحسن إخراج من مهرجان القاهرة، وجائزتي التمثيل من مهرجان السينما العربية في باريس، وأحسن سيناريو من مهرجان فالنسيا.
قبل أن أستعرض الفيلم لا بد من التنويه إلى أن ثقافة الخوف التي تضمنها الفيلم لا تشمل جميع الممثلين الذين بدّلوا موقفهم، فمنهم من قد يكون أسير ثقافة الخوف هذه، ومنهم "المكوّع" حقًا، ولديه استعداد لأن يتلوّن، ويتكيّف حسب الموجة الدارجة، وليس بعيدًا عن الذهن، في هذا المجال، دريد لحام، الذي يعتبر "مكوّعًا" بكل ما يعنيه المصطلح من معنى، فقد صال وجال في الدراما السورية ليتبين، لاحقًا، أنه ابن النظام البائد، وأنه كان في مجمل أعماله يخدم هذا النظام بإظهاره نظامًا ديمقراطيًا يتمتع بهامش واسع من حرية الرأي والتعبير، علمًا أن أي نقد عام لا يخص جهة محددة لا يعد نقدًا، ناهيك عن أن تعليق النقد على "مشاجب" عربية، يظهر سورية بمظهر المنتقد، وليس المتورط الأول بما يطرح في الأعمال الفنية.




يأخذنا نبيل المالح في فيلمه "كومبارس" إلى ما يشبه الكابوس، فثمة من هو مرعوب وخائف من دون أن يحدد المخرج مبعث هذا الخوف، أي أن المشاهد أمام حالة تقشعر لها الأبدان من دون أن يحدد المخرج مبعثها، ورغم ذلك فإن المشاهد يتعاطف مع مجريات الفيلم، بل يتفق معها.
يتناول المخرج فكرة الفيلم على نحو غير تقليدي، إذ يجد المشاهد نفسه أمام أحداث متداخلة. فمن المشهد الأول نرى البطل (بسام كوسا) يستمع لأصوات الإذاعات العربية وهي تكرر على مسامعه أخبار الاعتقالات والمداهمات، والشهداء في فلسطين. ويستطيع المخرج أن يشعرك أنك أمام مواطن مهزوم، يحاول أن يعيش حياته كإنسان عادي، طالما أنه غير قادر على فعل شيء إزاء ما يجري، وأقصى ما يمكن أن يتمناه هو أن يحقق أبسط أحلامه، ويعيش كبني آدم مثل سائر البشر، غير أن هذا الطلب على بساطته يبدو مستحيلًا.
طبعًا، مسألة فلسطين، وأخبار فلسطين، ما هي إلا مشجب اضطر له المخرج حتى يبرر هزيمة المواطن السوري، وربما حتى ينجح في تمرير فيلمه من الرقابة، ذلك أن حيثيات الفيلم في ما بعد، لا علاقة لها بفلسطين، وما يجري في فلسطين، بل تكشف أن أزمة المواطن السوري لها علاقة بأسباب داخلية، داخل سورية، ألمح إليها المخرج لكنه لم يكشف عنها صراحة.



نتعرف من مجريات الفيلم أن البطل يعمل "كومبارس" في إحدى الفرق المسرحية، كما يعمل في محطة وقود، إضافة إلى كونه ما زال على مقاعد الدراسة الجامعية. ونعرف أن ما يسعى إليه جاهدًا هو توفير مكان يستطيع أن يختلي به مع حبيبته (سمر سامي) لمدة ساعتين فقط، وهذا ما يبدو، على بساطته متعذرًا، ليس توفير المكان، بل فرصة أن يختلي بحبيبته.
تبدأ حبكة الفيلم حين يتمكن الكومبارس من إقناع أحد أصدقائه بأن يخلي له البيت لمدة ساعتين، وهنا تبدأ المأساة. إذ نراه في البيت ينتظر حبيبته بفارغ الصبر. لكن السؤال: هل بوسع الكومبارس أن يكون بطلًا لمدة ساعتين؟ وهل يستطيع أن يكون إنسانًا بكامل قيافته أمام الفتاة التي أحبها للحظات؟ وهل بوسع الفتاة القادمة بحذر وخوف من أسرة محافظة، ومن وسط تركيبة مجتمع غير سوية أن تتماسك للحظات أمام حبيبها، وأن ينسيا معًا المحيط بهما ويعيشا لحظاتهما منفردين؟




يقول الفيلم إن الكومبارس لا يمكن أن يكون بطلًا حتى ولو للحظة، ولو على مستوى أن يتمكن من مسك يد حبيبته، وذلك ما يتجلى في المشهد الذي يصوره وهو يقف مرتبكًا داخل الشقة ينتظر حبيبته بقلق وتوتر، وأنفاسه تتقطع من فرط الرعب. وفجأة يُطرق باب الدار فيستعد بكل ما أوتي من حماس ورغبة لفتح الباب معتقدًا أن الحبيبة تنتظر، ليكتشف أن القادم وجه غريب بملامح متداخلة يسأل عن الشخص فاقد البصر الذي يسكن في الشقة المجاورة، فيعجز الكومبارس عن الرد، وتأتي إجابته عبارة عن مزيج من التلعثم والتأتأة.
يذهب الغريب ويظل الكومبارس أسير ضعفه وهزيمته. يحلم في غمرة ذلك لو قُدّر له أن يوجه لكمة لهذا القادم الغريب تعيده أدراجه، ويتصور ذلك على شكل تخيلات وكوابيس، إلى أن يفيق منها على صوت طرقات الباب من جديد، ويكون القادم هذه المرة الحبيبة الخائفة.
هل يمكن أن يلتقيا والخوف في أعماقهما أقوى من أن يسمح لهما بالتقاط أنفاسهما؟ ها هي الحبيبة حاضرة وهو حاضر والاثنان عاجزان عن التواصل. ها هو يراها من مقعده وهي في المطبخ تعد القهوة فيكشف فستانها الشفاف عن جزء من ساقيها، فيلجم، فورًا، رغبته خشية أن تكشف عجزه. ها هما يحاولان أن يتمددا على السرير الحديدي المشبك بعد أن افتعلا تماسكًا مصطنعًا، غير أن السرير ينكسر بهما، فيزحف الكومبارس تحت الشبك الحديدي محاولًا تصليح السرير، وتلحق به الحبيبة، وهناك فقط يتعانقان، حيث يأخذ لهما المخرج مشهد العناق من فوق الشبك فيظهران سجينين داخل الشقة الواسعة، فلا يكتمل العناق بعد أن غدت دقات قلبيهما المرتعبة أعنف من عواطفهما. يسكنان إلى الصمت، والدمعة حائرة في عين الحبيبة.
يحاول كل منهما أن يداري ضعفه أمام الآخر إلى أن يفقدا السيطرة على ذلك حين يُطرق الباب من جديد فيفتح الكومبارس وإذ بالجار فاقد البصر يندفع نحوه ويرجوه أن لا يسمح للرجل الغريب أن يأخذه.
يحاول الكومبارس أن يكون بطلًا للحظة واحدة، لثانية على الأقل، لكنه كومبارس مهزوم، يدفع ثمن تدخله المتلعثم بصفعة على الوجه من القادم الغريب، تعيده إلى حيث يجب أن يكون: مجرد كومبارس لا علاقة له بمجريات الأحداث.
نراهما في المشهد الأخير ينزل كل منهما على حدة: تنزل هي أولًا درج العمارة وتذهب في اتجاه، ثم ينزل هو ناظرًا إلى الاتجاه الذي ذهبت به ويذهب في اتجاه معاكس، في إشارة واضحة إلى أن لقاءهما مستحيل في ظل الهزيمة التي تغمرهما من الداخل.
الفيلم يصور سورية دولة مخابرات، تسحق المواطن، وتنتهك خصوصيته، وتجعله أسير حالة من الخوف الدائم، فهو ليس بمأمن حتى في غرفة نومه، وقد يأتيه "غريب" في أية لحظة ويصفعه وهو في حضن زوجته، وقد يأخذه إلى مكان مجهول لا أحد يعرف بعد ذلك مصيره.
يُسجل للمخرج نبيل المالح قدرته على التصدي لثقافة الخوف في سورية بشكل واضح وصريح، ومؤلم، ومن دون الاعتماد على الإيحاء، والتمويه، ومحاولات الإسقاط.
قد يسأل سائل: كيف أتيح للمخرج أن يتحايل على الرقابة ويمرر فيلمه الخطير هذا، الذي يوجه نقدًا في صميم النظام السوري آنذاك؟ ولا أجد في محاولة البحث عن إجابة، إلا فرضية الفوضى، وعدم وضوح المنهج لدى الرقابة السورية آنذاك التي كانت تظن أن أي نقد يُعرض إنما يصب نحو إحدى الدول العربية، وأن سورية بمنأى عما يطرحه الفيلم، بل يخدم هامش "حرية التعبير" الذي دأبت على محاولة الإيحاء به.
يبقى القول إن المخرج المالح عُرف عنه كمخرج أفلام روائية مهمة، وكان من بين قلة من المخرجين، صنعوا هوية ما عُرف بالسينما السورية. ونالت أفلامه الطويلة العديد من الجوائز المهمة في مهرجانات سينمائية عربية وعالمية، كما له إبداعات في مجال الأفلام الوثائقية والقصيرة. درس السينما في تشيكوسلوفاكيا سابقًا، حيث حاز على ماجستير في الإخراج السينمائي والتلفزيوني في معهد السينما بمدينة براغ. وقد وصل عدد أفلامه إلى حوالي 150 بين أفلام روائية طويلة وقصيرة وأفلام تجريبية وتسجيلية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.