خلّف لنا الروائيّ هلسا مجموعة من النصوص الروائيّة والقصصيّة، نذكر منها نصّ "سلطانة" الصادر سنة 1987، وهو نصّ يؤشّر إلى منعطف جديد في الكتابة السرديّة لدى هلسا، منعطف توقّف للأسف بعد صدور آخر رواية له بعنوان "الروائيّون" سنة 1988، حيث توفي كاتبنا في أواخر 1989.
ومن بين ما يلاحظ بخصوص التجربة الروائيّة لغالب هلسا، ارتباطها، في مجملها، بتجربته الذاتيّة، بحيث تكشف نصوصه السرديّة عن أشكال خاصّة من التداخل بين هاتين التجربتين، وهو ما تعكسه طبيعة العلائق القائمة بين الكاتب والمكان بشكل خاص، تلك التي تكشف عنها نصوصه أيضًا، من زاوية طبيعة ذلك الارتباط بين السارد والمكان على المستوى التخييليّ-النصّيّ، على اعتبار أنّ المكان، في نصّ "سلطانة" يفرض أشكالًا من خاصّة الانزياحات، سواء باعتباره مكانًا طافحًا بالنوستالجيا، أو باعتباره مكانًا تتولّد عنه أنواع من منظورات السارد (النفسيّة والأيديولوجيّة بالأساس)، في تفاعلها، أو في تصارعها مع منظورات الشخوص ومنظور الكاتب الضمنيّ.
غير أنّ طبيعة هذه العلائق القائمة في نصوص هلسا بين "السارد" و"المكان" قد لا تختلف كثيرًا عن طبيعة العلائق السائدة بين الكاتب الفعليّ وسارديه أو شخوصه. فحتّى الخطابات النقديّة التي تناولت أعمال هلسا لم تسلم بدورها من الإقرار بحدوث أنواع معيّنة من الوشائج المختلفة – دون أن نقول بالتطابق التامّ- بين الكاتب الفعليّ وبعض المحافل النصّيّة، سواء تعلّق الأمر بالسارد أو بالشخوص أو بالضمائر الشخصيّة. لذا، جاء نصّ "سلطانة" مزاوجًا بين ضميري المتكلّم والغائب في السرد، انطلاقًا من تصوّر عامّ فرضته طرائق الكتابة والسرد في هذا النصّ بشكل خاصّ وفي رواية "الروائيّون" بشكل تكميليّ، وذلك اعتبارًا لكون هذه الرواية الأخيرة تشكّل امتدادًا "تقنيًّا" لرواية "سلطانة"، أو بالأحرى امتدادًا لقسمها الثاني تحديدًا، وأيضًا بناءً على مراهنة كلّ من القسم الثاني من "سلطانة"، ورواية "الروائيّون" في مجملها، على توظيف سارد من نمط خاصّ، يتعلّق الأمر بذلك السارد غير الممثّل وغير المسمّى داخل الحكاية، وكذا انطلاقًا من تفكير الروايتين معًا في توظيف تقنيّة الرواية داخل الرواية فيهما.
هكذا، إذًا، يأتي السارد الأحاديّ في رواية "الروائيّون" ليكمل المشروع السرديّ الذي بدأه السارد غير الممثّل في "سلطانة"، أي مشروع الحكي عن مجموعة من الشخوص الرئيسة، بالإضافة إلى شخوص أخرى تلعب أدوارًا طلائعيّة في الرواية، منذ بداية الحكي حتّى نهايته: (مصطفى، إيهاب، زينب، تفيدة، إسماعيل، نوال، فهمي، هنيّة)، وهي شخوص تلتئم كلّها عند حدود ما يقدّمه السارد من أحداث وحكايات تخصّها، وما ينقله ويقدّمه من خطاباتها المباشرة وغير المباشرة. ويدفعنا هذا السياق إلى القول بحدوث نوع من العلاقة التجاوريّة بين سارد رواية "الروائيّون" وسارد القسم الثاني من "سلطانة"، في الوقت الذي يمتدّ فيه الحديث عن قضيّة الكتابة الروائيّة، بموازاة مع محكيّات الشخوص وما يرتبط بها من أحلام اليقظة، كما في "سلطانة"، بحيث يصبح التفكير في مطارحة قضيّة "الكتابة الروائيّة" من بين المعضلات الأساسيّة في الروايتين معًا، وبدرجة أكبر في رواية "الروائيّون".
يتشكّل الفضاء النصّيّ لــ "سلطانة" من قسمين. يتوزّع القسم الأوّل المعنون بــ "القرية"، إلى جزأين كبيرين، في حين يوزّع القسم الثاني المعنون بــ "التذكّر" إلى ثلاثة أجزاء صغرى، تبعًا لعدد الشخوص المرتبطة بفعل التذكّر: (طعمة يتذكّر، جريس يتذكّر، سلطانة تتذكّر). وداخل هذين القسمين معًا يتحدّد فضاءان روائيّان مركزيّان في النصّ: القرية من ناحية وعمّان (المدينة) من ناحية ثانية، باعتبارهما فضاءين مؤطّرين للمحكيّات الروائيّة ولحركات الشخوص ولأصواتها السرديّة ولهواجسها النفسيّة والجنسيّة والأيديولوجيّة.
وإذا كان القسم الأوّل من "سلطانة" يكشف عن شكل سرديّ أتوبيوغرافيّ– تخييليّ، يرتبط بسارد يحكي عن ذاته من موقع تمثيله في الحكايات، فإنّ القسم الثاني، ومن خلال حضور السارد غير الممثّل داخل المحكيّ، هو الذي يسوق لنا أجوبة حول طبيعة السرد والمحكيّ المذوتين في القسم الأوّل، وحول طبيعة الميثاق النصّيّ المؤطّر لــ "سلطانة"، باعتباره عنوانًا لــ "نصّين روائيّين" متعالقين: أحدهما "فعليّ" كتبه الكاتب الفعليّ (غالب هلسا) من موقع ماديّ ملموس، والثاني "ضمنيّ" كتبه جريس، من موقع نصّيّ/ تخييليّ، باعتباره، كذلك، هو السارد والكاتب الضمنيّ.
ينحو القسم الأوّل من "سلطانة" منحى "أتوبيوغرافيًّا"، على مستوى السرد، ومنحى "تخييليًّا" على مستوى الحكاية، حيث يواصل السارد الحكي عن مسار حياته الشخصيّة والعامّة، منذ أبعد تذكّرات ماضيه الشخصيّ وماضي التاريخ العامّ لقريته. بالرغم من ذلك، فإنّ الصوغ السرديّ في هذا القسم يتّخذ شكله العامّ انطلاقًا من طبيعة المحكيّ المذوت فيه، في ارتباطه بنمط معيّن من الساردين (السارد الممثّل في الحكاية) في حين يعرف القسم الثاني تحوّلًا نحو استثمار شكل آخر من السرد في تعالقه بسارد من نمط آخر، وبخاصّية التذكّر التي تحدّد للقسم الثاني تميّزه عن القسم الأوّل، أي في ارتباطها بالسارد في القسم الأوّل، وبالشخوص في القسم الثاني: (طعمة، جريس، سلطانة)، وذلك عبر اعتماد نوع من التوازي في مستويات الاستثمار للفعل التذكّريّ الذي يتمّ توظيفه في القسم الثاني، لسببين:
أوّلهما: تخييليّ، يرتبط بحكايات الشخوص، بمعنى أنّ فعل "التذكّر"، هنا، يبقى مرتبطًا بالكثافة الاستعاديّة لمجموعة من الأحداث والوقائع المرتبطة به، وهي الكثافة التي تمّ تخصيصها في ثلاث استعادات:
- استعادة تستهدف الملء البعديّ لمجموعة من الثقوب التي أفرزها القسم الأوّل، وترك بعض سياقاتها غير مكتملة، أو لم تنسرد بعد.
- استعادة ترمي إلى ربط المحكيّ المستذكر بذاكرة كلّ شخصيّة على حدة، بدل ربطه بذاكرة السارد فقط، كما هو الشأن بالنسبة للسارد جريس.
- استعادة تعطي المشروعيّة وحقّ الكلام للشخوص، عوض الهيمنة التي يفرضها السارد على البنية التلفّظيّة.
هكذا يُبرز نصّ "سلطانة" التفاوت في طرائق الصوغ السرديّ داخل القسمين معًا، على مستوى المنظور والصوت السرديّ، وأيضًا على مستوى مجموعة أخرى من المكوّنات السرديّة التي تقوم بتنظيم مستويات تدخّلات الساردين وتواترها بين هذين القسمين بشكل عامّ، ثمّ بين "مفتتح الرواية و"القسم الأوّل" بشكل جزئيّ.
فالفصل الأوّل (من القسم الأوّل) من الرواية ينفتح على مقطع سرديّ قصير، يتمّ فيه الحكي عن لحظتي الحلم واليقظة، وهما من بين التيمات الأساسيّة في أعمال هلسا الروائيّة والقصصيّة، من طرف صوت سرديّ لا يعلن عن نفسه، بقدر ما يقوم بوظيفة "موضعة الحكي" ضمن سياقه الطبيعيّ الذي سوف يتّخذه فيما بعد. فهو الصوت الذي يفتح "عالم اليقظة" بالنسبة للشخوص، ومن خلاله يتمّ فتح عالم السرد في النصّ.
هو، إذًا، صوت سرديّ يمكن وصفه بــ "السارد المجهول" بتعبير بوالو Boileau. إنّه لا يعرف بــ "أنا" ما، وليس معيّنًا بأيّ اسم. فمفهوم "مجهول" هو بالفعل إثبات، ليس لغياب هويّة السارد، لكن لغياب اسمه، إضافة إلى كونه ساردًا تبرز هويّته من خلال معرفته بشخصيّة جريس وببقيّة الشخوص والأحداث. غير أنّ سلطة السارد المجهول سرعان ما تنكسر بدخول سارد جديد من نمط آخر ليواصل المسار السرديّ من مواقعه التمثيليّة في النصّ، أي انطلاقًا مما يسمّيه روسيه Rousset بــ "البنية مزدوجة المستوى" (Structure à double niveau)، حيث يندمج ضميران، الواحد في الآخر: "فضمير الغائب يقدّم ساردًا ثانيًا، هو السارد الرئيس، يتحدّث باسمه لأجل أن يقول لنا قصّته الخاصّة، أو تلك القصّة التي حضرها كشاهد ذي امتياز"، أي كشاهد استرجاعيّ (Témoin rétrospectif)، بتعبير جيرار جينيت، على مجموعة من الوقائع الروائيّة والتحوّلات النفسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة والأيديولوجيّة، تلك التي طاولت القرية وسكّانها. كما أنّ مسألة خروج السارد/ جريس من الحكي الذاتيّ إلى الحكي الموضوعيّ، في مجموعة من الأجزاء التي تتخلّل فصول هذا النصّ، لا يمكن تلقّيه من منطلق كونه يقوم بتغيير المنظور السرديّ أو تنويعه، فقط، على امتداد الفصول النصّيّة، بل هو خروج يخدم، في الآن ذاته، المسافة التي يتّخذها السارد/ جريس من ذاته هو، ثمّ من بقيّة الوقائع الحكائيّة التي يتكفّل بالحكي عنها وتقديمها والتعليق عليها من منظوره الشخصيّ. وهو المنظور الذي لا يلغي حضور هذه الذات كفاعل يتسلّل داخل سياقات الوقائع والأحداث التي تعيشها القرية وسكّانها، انطلاقًا من شعوره، في الوقت نفسه، بضرورة التمييز بين ما هو واقعيّ وما هو تخييليّ. من ثمّ، فإنّ صيغة "التخييليّ"، هنا، ما هي إلا "أداة" لتمرير سلسلة من الوقائع الحكائيّة الأخرى التي يتداخل فيها ما هو واقعيّ "نصّيّ" بما هو تخييليّ/ حكائيّ، كما في قول السارد متحدّثًا عن علاقته الشخصيّة بآمنة: "لا أستطيع فرز الحقائق من الأساطير، لقد تمّت الأحداث كلّها قبل ولادتي (...) كانت آمنة أمًّا، بالنسبة لي (...) عندما كبرت أخذت أسطورة آمنة تتسرّب إليّ عبر مئات التفاصيل..." (ص100)، أو في قوله، أيضًا، متحدّثًا عن شكل من أشكال التقابل بين عالمين يحدّد السارد بينهما مسافة إيهاميّة، وإن اعتبرا في حقيقة الأمر عالمًا واحدًا وواقعًا واحدًا (عالم الروائيّ وواقع الكتابة الروائيّة): "أيّ عالم سحريّ ينفتح أمامي؟ أكثر إثارة وغرابة من عالم الروايات، ولكنّه عالم أصدقائي، وسوف يكون حتمًا عالمي، احتواني سحر هذا العالم فأخذت أضحك لحذق هؤلاء العاملين في التخفّي" (ص23).
من هذا المنطلق، نجد أنّ شكل العلاقة بين السارد/ جريس والقسم الأوّل من "سلطانة" يكشف، منذ الوهلة الأولى، عن ميثاق حكائيّ يمكن الاصطلاح عليه بــ "الميثاق المظهريّ"، هذا الذي يبرمه السارد مع مجموعة من صوره هو، وكما تمّت بلورتها وتجليتها في القسم الأوّل. وهي الصور التي يمكن تحديدها – وبشكل تخصيصيّ- في صورتين أساسيّتين: الطفولة والنضج، بناءً على ميثاق مرجعيّ يعقده السارد مع هاتين الصورتين من مواقع زمنيّة متأخّرة، أي من منطلق إعادة تشكيل (reconstituer) الصورتين معًا. وهو ما يجعل صورة السارد وسرده الاسترجاعيّ "يخضعان أحيانًا لهذا النوع من "السرد المفارق" (Narration paradoxale)، أي مرّة كسارد استرجاعيّ، حينما يتعلّق الأمر بالصوت، ومرّة أخرى كسارد راهن حينما يتعلّق الأمر بالمنظور"، حسب فيليب لوجون.
يبقى أنّ شكل السرد هو الذي يحدّد للسارد/ جريس مختلف مواقعه وتدخّلاته التي يعتمدها لــ "بناء" شكل سرديّ خاصّ به، وبطرائق سرده أيضًا، وهو ما يسمّيه لوجون بــ "تواتر التدخّلات" (La Fréquence des interventions)، سواء بين جزء وآخر أو بين فعل وآخر أيضًا. وهو التواتر المنظّم للإيقاع السرديّ في القسم الأوّل خاصّة، في الوقت الذي يتمّ فيه تكسير هذا الإيقاع ونمط السارد في القسم الثاني.
من بين أشكال التمايز كذلك بين قسمي رواية "سلطانة"، نشير إلى مراهنتهما معًا على تنويع الضمائر الشخصيّة في السرد، انطلاقًا من اعتماد نوعين كبيرين من الهيمنة:
- هيمنة ضمير المتكلّم لدى السارد المتماثل حكائيًّا (السارد جريس).
- هيمنة ضمير الغائب لدى السارد المتباين حكائيًّا (السارد غير المرئيّ وغير المسمّى في النصّ).
إنّ محاولة الكشف عن اشتغال محفل الــ "أنا" وتجلّيه داخل الخطاب السرديّ، في القسم الأوّل من الرواية، لا يمكن أن يتمّ بدون الأخذ بعين الاعتبار لأنواع التداخل بين الــ"أنا"، كضمير شخصيّ مؤطّر لخطاب السارد جريس (باعتباره ذاتًا للتلفّظ)، والسياق التلفّظيّ العامّ الذي يؤطّر هذه الــ"أنا" ويضفي عليها امتدادها البيوغرافيّ داخل القسم الأوّل (ذات الملفوظ).
يتمثّل الجانب الآخر، من الجوانب المجسّدة لطبيعة المسافة المحدّدة لكينونة السارد، في شكل المسافة الحاصلة بين السارد والشخوص التي كثيرًا ما كان يتوخّى السارد خلق تواصل معها.
وهي المسافة التي تساهم من جانبها في تحديد شكل السرد ومواقعه الخطابيّة، بناءً على مجموعة من التكسيرات التي تمسّ كذلك باقي المسافات القائمة بين السارد والشخوص من حين لآخر. لذلك، فإنّ "لعبة السرد"، هنا، تبقى رهينة بتحقيق "لعبة التواصل"، وأيضًا بتحقيق نوع من التوازن، حيث تأخذ الذات الساردة موقعًا محايدًا لأجل إنجاز هذين الفعلين (التواصل/ التوازن)، وبالأخصّ مع "بطرس" كشخصيّة مجسّدة لشكل من أشكال الفعل التواصليّ.
في حين، نجد أنّ عودة السارد المجهول إلى البروز مرّة أخرى في القسم الثاني من الرواية، سواء على مستوى الصوت السرديّ أو على مستوى كثافة الحضور، هي عودة تحمل معها، هذه المرّة، تطوّرًا خاصًّا في وظائف السارد وفي كثافة تمظهره التلفّظيّ، وهو مستوى يعمد السارد، من خلاله، إلى تكسير الشكل السرديّ التذكّريّ، باعتباره شكلًا مهيمنًا على البنية الحكائيّة والسرديّة والزمنيّة للقسم الثاني، فضلًا عن كونه تذكّرًا "مراقبًا"، بمعنى أنّ التذكّر، هنا، كخاصّيّة وكفعل لتوليد المحكيّ ولتحقّق السرد، يتمّ تمريره في القسم الثاني – مثله في ذلك مثل خطابات الشخوص- تحت مراقبة مباشرة من لدن خطاب وصوت السارد المجهول.
هي، إذًا، معرفة مزدوجة، هاته التي يتميّز بها السارد المجهول، والتي تسير بموازاة مع مرجعيّتين نصّيّتين: مرجعيّة الشخوص التي يحكي عنها السارد المجهول، ومرجعيّة السارد جريس نفسه، هذا الذي يصبح مجرّد شخصيّة، مثله في ذلك مثل بقيّة الشخوص الأخرى...
وتجدر الإشارة، في هذه الحالة، إلى أنّ السياق السرديّ هو الذي يمنح السارد المتواري حضوره المميّز، وخاصّة من خلال فعل "التذكّر"، هذا الذي يساهم في خلق "ميثاق استرجاعيّ مركّب" مع "القارئ المفترض" والمتواطئ مع الشيء المستذكر، على اعتبار أنّ القارئ سبق إلى إدراك فحوى المعرفة التي يملكها السارد جريس، وبالتالي إدراك طبيعة المحكيّ الذي يعيد السارد المجهول تركيبه ضمن سياق حكائيّ آخر.
يبقى لمسألة التذكّر، إذًا، ارتباط خاصّ بمسألة السرد. وهذا الارتباط بين هاتين الصيغتين (التذكّر والسرد) ينتج عنه ارتباط ثانٍ يتّصل بالتحوّل السرديّ العامّ في النصّ، من ضمير المتكلّم إلى ضمير الغائب، بمعنى التحوّل من إطار سرديّ، يتّسم بعدم كلّيّة المعرفة لدى السارد جريس، إلى إطار سرديّ يتميّز باكتمال المعرفة لدى السارد المجهول، حيث يتراوح الساردان بين: مستوى تذكّريّ غير تامّ وغير مكتمل، ومستوى تذكّريّ تامّ وممتلئ، فجريس "حين كان يسترجع لحظاته مع سلطانة كان يشعر أنّها جميعها لحظات غير مكتملة. وذلك يعني أنّها وقائع مبتورة، كان بالإمكان إغناؤها بتفاصيل ونهايات" (ص454)، وهو ما يفضي إلى القول بأنّ "تنويع السرد وتفريعه وتشبيك أزمنته وفضاءاته يعود إلى هذا الفعل نفسه (أي التذكّر)" بتعبير محمد برادة، وذلك بناءً على كون السارد المجهول، باعتبار وظيفته الكبرى المتمثّلة في مراقبة خطابات الشخوص ومراقبة المسار العامّ لحكاياتها، يبقى هو الصوت السرديّ المهيمن على تلك الاستعادات والمغلّف لتلك التذكّرات، اعتبارًا أيضًا لما يتميّز به من حضور كلّيّ، حتّى على مستوى كوامن وذهنيّات الشخوص الخازنة لتلك المادّة المستذكرة، وهو حضور يكسر، في الآن نفسه، ذلك النوع من الحضور الذي يلتصق عادة بهذا النمط من الساردين (المتباينين حكائيًّا)، هؤلاء الذين عادة ما يلجؤون إلى التخفّي والانزواء داخل كواليس حكيهم.
هكذا، نجد أنّ أهمّ ما يميّز القسم الثاني من "سلطانة"، ويختصّ به، هو عمله على جلب ذلك الصوت المتوارى لكي يحكي عن مجموعة من الشخوص التي تمّت إعادة تمثيلها مجدّدًا داخل القسم نفسه، والتي جاءت أسماؤها معنونة لفصوله: (طعمة، أميرة، جريس، سلطانة) وذلك عبر ربطها بخاصّيّة مؤطّرة للزمن والأحداث والسرد، يتعلّق الأمر بخاصّيّة "التذكّر".
إنّ "تحوّلات السارد" بتعبير فاركاس Vargas من وضع سرديّ (منظور موضوعيّ) إلى وضع آخر (منظور ذاتيّ)، ثمّ العودة إلى الوضع السرديّ الأوّل، ضمن نسق سرديّ دائريّ، يبقى لها أكثر من بعد استتيقيّ ودلاليّ. وهذا الوضع الذي نؤشّر عليه، هنا، بالتحوّل، يختلف عن الوضع الذي تسمّيه مياك بال Mieke Bal بــ "تغيير المستوى"، وإن كان مفهوم التحوّل يلتقي مع مفهوم تغيير المستوى من حيث تغيير الأنماط السرديّة، من مستوى سرديّ إلى آخر، ثمّ من نمط سرديّ إلى آخر أيضًا، حيث إنّ رتابة "السارد الأتوبيوغرافيّ المتخيّل"، في القسم الأوّل، جعلت منه صوتًا أحاديًّا، فهو بقدر ما ينفتح على مواقع الشخوص الأخرى بقدر ما يبئّر الصوت والسرد حول محكيّه الذاتيّ بالدرجة الأولى، في حين جاء القسم الثاني من الرواية كردّ فعل ضدّ ذلك المنحى التذويتيّ وضدّ تلك السلطة التي يفرضها ضمير المتكلّم على البنيتين الحكائيّة والسرديّة، كما في القسم الأوّل، أي في الوقت الذي يفرض فيه نفس القسم صوتًا سرديًّا آخر ينفتح على مواقع أخرى للشخوص والمحكيّات.
وهذا التبديل (في الأصوات والمواقع ومستويات التعبير عند الشخوص) هو الذي جعل هذه الرواية تحقّق، في نهاية الأمر، شبكة متعدّدة من المواقف واللغات والرؤى والمتكلّمين. غير أنّ هذا التعدّد والتحوّل في المواقع لدى الساردين، في الرواية، لم يصل إلى ذلك المستوى من التقابل أو الصراع فيما بين هذه المواقع ذاتها.
وإذا كانت نفس التغييرات المتواترة بخصوص "وضع السارد" لها كهدف، حسب عزيزة بناني: "أن تقدّم في كلّ مرّة إضاءة جديدة حول مختلف عناصر العمل"، فإنّ هذه التغييرات تستهدف أيضًا خدمة "لعبة التذكّر"، وذلك بالنظر إلى كون عنصر "التذكّر"، في الرواية، يحقّق مستويات من الزخم التخييليّ، بكلّ ما تحمله هذه الخاصّيّة من ملء للغياب وانشداد بالحضور والحياة ومقارمة للموت والنسيان. وكلّها أمور يتمّ من خلالها خدمة "هدف معيّن" بتعبير إفري Ifri، ألا وهو خدمة لعبة التخييل في مستوى أوّل وخدمة "لعبة الكتابة" في النصّ في مستوى ثانٍ. وهي اللعبة التي عمل القسم الثاني على تجليتها ضمن أفق للاستمرار في مطارحة أسئلة الكتابة الروائيّة عمومًا من داخل فضاء ميتاسرديّ، وهي أسئلة تتّصل في عمومها بمعضلة الكتابة والسرد والكتابة والقراءة والكتابة والتجربة.