}

عن الحداثة في حيفا وغزة قبل النكبة

يوسف الشايب 27 يناير 2025
استعادات عن الحداثة في حيفا وغزة قبل النكبة
من ندوة "الحداثة الساحلية... حيفا وغزة"

لعبت مدن الموانئ الرئيسية في سواحل شرق المتوسط، ومنها الفلسطينية، دور التواصل بين المدن والأرياف الداخلية، ما أدى إلى تغييرات جذرية في النسيج الاجتماعي لهذه المدن نتيجة الهجرة الداخلية والتطورات التقنية، بحيث برزت، علاوة على يافا، مدن من بينها حيفا وغزة، اللتين كانت لهما أدوار بارزة اقتصادية وثقافية أيضًا، بحيث ساهمت التجارة في المحاصيل المحلية في صعود برجوازية ساحلية حديثة، إضافة إلى تأثير معالجة المحاصيل الزراعية، وتصديرها إلى السوق الأوروبية، على العلاقات بين الساحل والجبل.
وترافق ذلك مع تغييرات إدارية في الساحل الشامي عامة، والفلسطيني خاصة، حيث تم إعادة تنظيم الموانئ بهدف السيطرة على النزعات الاستقلالية، وهو ما انعكس على التحولات العمرانية في فلسطين، فقد ساهم التنظيم القانوني للأراضي في تشكيل علاقة الفلسطينيين بالأرض والعمران، كما سمحت الإصلاحات العثمانية بتسجيل الملكية الفردية، ما أدى إلى تحويل الأرض إلى سلعة، وهو ما شجع التوسع خارج أسوار المدن القديمة، وساهم في نشوء طبقات حضارية حديثة، وفتح باب الاستثمارات الأوروبية.
وأدت التنظيمات العثمانية أيضًا إلى مشاريع كبرى للبنية التحتية، مثل إنشاء خطوط الاتصالات والطرق الجديدة، ما عزز الربط بين فلسطين والعالم.
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1917، بدأت تتشكل ملامح جديدة في المنطقة، بحيث عمل الاحتلال، أو الانتداب البريطاني، على استكمال عمليات التحديث في فلسطين من خلال خطط ومشاريع كبرى، ما ساهم في إنشاء "إسرائيل" على أنقاض الأرض والحيوات الفلسطينية عام 1948.

المسجد العمري الكبير في غزة قبل تدميره من قبل "إسرائيل" بعد طوفان الأقصى


انتظمت، أخيرًا، في مركز خليل السكاكيني الثقافي في مدينة رام الله ندوة بعنوان "الحداثة الساحلية... حيفا وغزة"، بمشاركة كل د. جوني منصور، المؤرخ والباحث والأكاديمي الفلسطيني من حيفا، ود. أباهر السقا، رئيس دائرة الآداب في جامعة بير زيت، والمؤرخ والباحث من غزة والمقيم في رام الله، أدارتها المعمارية والباحثة والأكاديمية لانا جودة، وتناولت الأدوار التي لعبتها المدن الساحلية في التاريخ العمراني الحديث في فلسطين، وكيف ساهمت حيفا وغزة، على وجه الخصوص، في حداثة المجتمع والانفتاح على العالم، بالإضافة إلى تشكيل هويات وطنية جديدة.
واستعرضت الندوة المعالم العمرانية والفضاءات العامة التي شكلت حداثة المدن الساحلية، وعلاقتها بمشاريع البنية التحتية الكبرى، مثل سكك الحديد والمرافئ، كما تناولت العلاقة بين هذه المدن والريف والمدن الداخلية، وتأثير فقدان المدن الساحلية بعد نكبة 1948 على الفضاء الحضري الفلسطيني.


حداثة حيفا

محطة سكة الحديد في حيفا 




تحدث جوني منصور بداية عن تطور مدينة حيفا في أواخر القرن التاسع عشر، ثم خلال فترة الانتداب البريطاني، مشيرًا إلى التغيرات التي طرأت على المدينة بعد عام 1948، مُركزًا على الجوانب الجغرافية والتاريخية والاستراتيجية للمدينة، عبر مشروعين رئيسيين: الخطوط الحديدية، وخاصة الخط الحديدي الحجازي، وإنشاء الميناء الحديث.
كما تناول منصور العلاقة بين المدينة والقرى المحيطة بها، موضحًا العلاقة الوثيقة لهذه القرى، التي لم تبق منها بعد النكبة إلا اثنتين، مع حيفا.
بدأ منصور بعرض مجموعة من الخرائط لتوضيح تشكيل المدينة منذ عام 1761، عندما قرر الشيخ ظاهر عمر الزيداني نقل المدينة إلى موقع أكثر أمانًا بالقرب من الساحل، موضحًا كيف أن مدينة عكا فقدت مكانتها لصالح حيفا التي بدأت تنمو وتزدهر بفضل المبادرات العثمانية، والدور الأوروبي في تطوير المدينة.
ومع مرور الوقت، بدأت تظهر مبادرات لإنشاء أحياء خارج الأسوار، مثل المستعمرة الألمانية التي أُقيمت في حيفا، وهي مبادرات دفعت السكان داخل الأسوار للمطالبة بالسماح لهم بالبناء خارجها، ما أدى إلى حركة عمرانية بدأت عام 1870، مشددًا على أنه بالرغم من أن المدينة كانت تتطور ببطء حتى نهاية القرن التاسع عشر، إلا أن هناك تقدمًا ملحوظًا في العمران كان يتشكل خارج الأسوار، بسبب الازدحام داخلها.
مع بداية فترة الانتداب، شهدت حيفا، تبعًا لمنصور، توسعًا ملحوظًا، بعد إنشاء الميناء الحديث، الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم، بينما بقي الميناء العثماني القديم صغيرًا ويستخدم اليوم كمرسى لقوارب الصيد.
وشدد المؤرخ الحيفاوي على أن التمدد العمراني في حيفا كان يتضمن مجتمعين منفصلين: المجتمع الفلسطيني القريب من الساحل والمدينة القديمة، والمجتمع الاستيطاني المهاجر الذي استولى على أراضٍ في المناطق الجبلية، لافتًا إلى أن هذا التوزيع الجغرافي كان له تأثير كبير على الأحداث خلال معارك النكبة عام 1948.

سينما السامر في أربعينيات القرن العشرين 


ومُنحت مدينة حيفا مكانة مهمة جدًا في الحقبة العثمانية، حيث بدأت التغيرات الجذرية مع افتتاح خط السكك الحديدية بينها وبين درعا عام 1905، وهنا شهدت المدينة ازديادًا في تيارات الهجرة الداخلية، خاصة من المناطق الشمالية في فلسطين، مثل الجليل، ومرج بن عامر، التي تُعد من أخصب المناطق، في حين قام الصندوق القومي اليهودي (كيرن كييمت) بشراء الأراضي في هذه المناطق، ما أدى إلى إقامة عشرات المستوطنات بعد تطهيرها عرقيًّا من معظم القرى والبلدات الفلسطينية قبل عام النكبة، مؤكدًا أن إنشاءه، كما الميناء، ساهم في توفير فرص عمل كبيرة، وأسس لحركة التجارة، وعليه ازدهر الاقتصاد المحلي، مشيرًا إلى أن هذه الديناميات الاقتصادية والاجتماعية كانت لها آثار بعيدة المدى على التركيبة السكانية في حيفا، حيث تزايدت أعداد المهاجرين والعمال، ما ساهم في تشكيل هوية المدينة الحديثة.
واستعرض منصور التحولات الديموغرافية في حيفا، بحيث ارتفع عدد السكان بشكل كبير من 1000 نسمة في عام 1800 إلى 145 ألف نسمة في عام 1946، مع وجود نسبة متساوية تقريبًا بين العرب واليهود نتيجة للهجرات الصهيونية، مشددًا على تأثير الميناء وسكك الحديد على هذه التحولات، ما أدى إلى نشوء أحياء جديدة وتكوين عائلات جديدة، من دون إغفال الحديث عن أهمية المنطقة الصناعية في حيفا، حيث كانت مصافي البترول والشركات، مثل "البترول العراقية"، والميناء الحديث الذي أنشأته بريطانيا ليخدم مصالحها بالأساس، لكنه أيضًا ساهم في تطوير المدينة والمجتمع والاقتصاد والحياة الثقافية.
وهذا، حسب منصور، أدى إلى الحاجة المتزايدة لبناء مؤسسات جديدة، مثل المدارس، والأسواق، والمسارح، ودور العرض السينمائي، وغيرها، نتيجة الزيادة السكانية الناتجة عن هجرة الشباب إلى المدينة بحثًا عن العمل، مشيرًا إلى الاستثمارات التي تمت خلال فترة الانتداب، والتي كانت تهدف إلى خدمة الأهداف الاستعمارية، لكنها أيضًا ساهمت في تحسين البنية التحتية وتلبية احتياجات السكان الجدد، وهي استثمارات أجنبية وصهيونية، علاوة على الاستثمارات الفلسطينية، معرجًا على الحديث عن الدور الثقافي البارز، تبعًا لكل ما سبق، لحيفا، كحاضرة ثقافية، تأتي بالأهمية بعد مدينتي يافا والقدس.

حداثة غزة

غزة عام 1857 





بدوره، تحدث أباهر السقا عن الأهمية التاريخية والجغرافية لمدينة غزة، كمدينة ساحلية لها تاريخ طويل من العلاقات التجارية والحضارية مع محيطها، بما في ذلك مصر، مُبرزًا كيف أن غزة كانت مركزًا حضاريًا مهمًا عبر العصور، حيث كانت تتبع لمناطق مختلفة في فترات زمنية معينة، مشيرًا إلى العلاقة الخاصة بين غزة ويافا.
وتناول السقا في مداخلته التحديث الذي شهدته غزة بعد الحرب العالمية الأولى ودخول الاحتلال البريطاني، ما أدى إلى تحول المدينة إلى مكان مختلف عن نهايات الفترة العثمانية، حيث كانت غزة مدينة حديثة تضم قنصليات وممثليات أجنبية وحركة ملاحية نشطة.
واستهجن السقا استثناء مدينة غزة، في أغلب الأحيان والسياقات، من التصنيفات المتعلقة بالمدن الكبرى في فلسطين، رغم أنها كانت مركزًا حضاريًا أساسيًا، لافتًا إلى أنه تأسست في غزة بنى تحتية مهدت لولادة الحداثة الحضرية، حيث تم إنشاء المجلس البلدي عام 1893 بقيادة مصطفى العلمي، الذي بدأ في تحديث المدينة، كما تناول التخطيط الحضري في المدينة، حيث تم استقدام مخطط إيطالي في عام 1921 تحت إشراف بلديتها برئاسة فهمي الحسيني، "صاحب الطموحات الكبيرة لتطوير المدينة"، بحيث نجح في توسيع الأسواق وبناء الشوارع والمرافق العامة، ما يعكس التخطيط الأهلاني، في وقت لم يغب فيه التخطيط الاستعماري البريطاني يهدف تغيير العلاقة مع الميناء وتعديل الشوارع الخارجية، ما أثر بشكل سلبي كبير على الجانب الحضري في المدينة، عبر هدم جزء كبير من الإرث الحضاري للمدينة، وخاصة البلدة القديمة في غزة.
وتأثرت المدينة سلبًا بسياسات "التطوير الزائف" التي نفذتها سلطات الاحتلال البريطاني، والذي قام بهدم المسجد الكبير، ما يعكس التدمير الممنهج الذي تعرضت له، كما تعرضت غزة لزلزال عام 1927، مما زاد من تدهور حالتها العمرانية.
ولفت السقا إلى أن العثمانيين كانوا قد وضعوا مخططًا لتطوير ميناء غزة، لكن البريطانيين قرروا عدم تنفيذه بسبب تكلفته العالية، ما حرم المدينة من فرص التطور التي حصلت عليها مدن أخرى، مثل يافا وحيفا، رغم أنه، تاريخيًا، كانت غزة تمتلك عملة نقدية خاصة بها، ما يدل على أهميتها التجارية في العصور القديمة، لكن عدم تطوير الميناء أدى إلى تراجع دورها كمركز تجاري.
وتناول في مداخلته تأثير الميناء القديم على مدينة غزة، مشيرًا إلى أن وجود لسان من الإسمنت ساهم في بقاء المدينة كمدينة ساحلية مبتورة، ما حال دون تطورها التجاري مقارنة بمدن فلسطينية أخرى، علاوة على التأثيرات المعمارية والحضارية التي خلفها الاحتلال البريطاني، حيث غُمرت الأسواق الفلسطينية في غزة بالقرميد الأحمر، ما أدى إلى تراجع استخدام طرق البناء التقليدية المعروفة في المناطق الساحلية، مسلطًا الضوء على خاصية البناء باستخدام "الزفزفة"، وهو خليط من بقايا البحر والمحار، الذي كان يُستخدم في بناء المنازل الغزيّة، وهو النمط المعماري الذي تم استبداله بأساليب بناء حديثة فرضها البريطانيون.
وما بين عامي 1921 و1948، بدأت مدينة غزة تأخذ طابعًا حديثًا بفضل جهود رئيس البلدية فهمي الحسيني، الذي أسس مدينة جديدة، مما أدى إلى حراك اجتماعي واقتصادي من الأحياء القديمة نحو حي الرمال.
وتحدث السقا عن البنية التحتية الحديثة التي نشأت في غزة خلال الفترة البريطانية، حيث تم بناء مرافق محورية عدّة، لافتًا إلى أن البنية التحتية الحديثة التي نشأت في غزة تلك الفترة، أدت إلى تطور المنشآت والعلاقات الاجتماعية المبنية على المصايف والأنشطة الترفيهية، مشددًا على ما مثلته السكك الحديدية باعتبارها نقطة محورية في ربط غزة بمصر، ما ساهم في حركة التجارة والناس، وخلق تقسيمات سوسيولوجية داخل المدينة، مثل الفصل بين شرق وغرب السكة.

حيفا في حرب 1948 


كما أشار رئيس دائرة الآداب في جامعة بير زيت إلى وجود مطار في غزة تحت اسم "ابن العثماني" منذ عام 1927، ومحطات عبر السكك الحديدية، إضافة إلى المساحات العامة، مثل أكبر مشفى، أي مستتشفى "الشفاء"، ومدينة للألعاب، ما يعكس حجم وتنوع هذه المساحات مقارنةً بمدن فلسطينية أخرى.
وتحدث السقا أيضًا عن الشوارع الواسعة والكبيرة في المدينة، مثل شارع صلاح الدين، الذي يعد شريانًا رئيسيًا يقطع المدينة، وهو ما عزز من مركزية غزة في الفضاء الفلسطيني، متناولًا أيضًا تأثير دور السينما، موضحًا أن غزة من عواصم السينما في فلسطين بوجود عدة دور عرض سينمائي، ما يعكس ثقافة حاضنة للسينما في المدينة.
ولا يغفل السقا تناول التغييرات التي شهدتها غزة، وخروجها ببيئة غنية بالبنى السياحية المرتبطة بالبحر، بحيث كانت غزة مقصدًا للتخييم والاصطياف، ما يبرز التناقض بين الإرث المديني والحداثة، مشددًا على أهمية هذه المنشآت كجزء من الهوية الثقافية والاجتماعية للمدينة، والتي هي جزء لا يتجزأ من التجربة الفلسطينية.
وتطرق المؤرخ الفلسطيني إلى "النكسة الحضارية" التي تعرضت لها غزة، حيث تحولت عام 1948 من لواء كبير إلى قطاع صغير، بحيث فقدت عمقها الريفي الذي كان يضم 80 قرية، كما فقدت أيضًا مواردها الطبيعية، مشيرًا إلى أن المنطقة كانت غنية بالمياه قبل عام 1968، أي قبل أن تقرر سلطات الاحتلال الإسرائيلية إنشاء سدود أدت إلى نقص حاد في المياه.
وفي إطار الحديث عن التحولات السكانية في غزة، لفت إلى أن المدينة كانت تضم 80 ألف نسمة قبل عام 1948، وارتفع العدد إلى 120 ألفًا بعد النكبة، ما أدى إلى تحول المدينة إلى جغرافيا تعج باللاجئين، مع ما حمله ذلك من تغيّرات كبيرة شهدتها المدينة، مشيرًا إلى نمطها الحديث الساحلي الذي يشبه إلى حد ما النمط الحداثي في يافا، لكنه يحمل خصوصيات مختلفة، قبل أن يختم بالتحولات الكارثية للمدينة في السنوات العشرين الأخيرة، بسبب العدوان الإسرائيلي تلو الآخر، انتهاء بحرب الإبادة الأخيرة على القطاع، بما في ذلك المدينة، التي تدمرت بشكل كامل، أو شبه كامل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.