حقيقةٌ تاريخيةٌ ليست ذائعةً في عالمنا العربي: الجنرال الأميركيّ جورج مارشال George Marshall (1880 - 1959) الذي ارتبط اسمه بمشروع السنوات الخمس لإعادة إعمار أوروبا بمساعدة مالية أميركية، بعد الحرب العالمية الثانية، كان مناهضًا شرسًا للاعتراف الأميركي بالكيان الصهيونيّ على أرض فلسطين، إلى حدّ أنّه جادل الرئيس هاري ترومان وحذّره من مغبّة نشوء هذا الكيان وأثره المدمّر على الولايات المتحدة نفسها، إلّا أن ترومان لم يصغِ كما يجب لمارشال، وزير الخارجية والدفاع في عهده، وخضع لمشيئة اللوبي الصهيوني ولإغراءاته المالية فوقّع على الوثيقة الرسمية للاعتراف بـ"دولة إسرائيل"، المولود غير الشرعي للاستعمار البريطاني والغربي، والمحظيّة من بعدُ عند الأميركيين والروس السوفيات (بقرار أحمق لستالين عهدذاك) معًا!
في الوقائع: عشيّة اعتراف ترومان الرسميّ بـ"دولة إسرائيل"، وفي جلسة مناقشات حادة وحامية، نأتي إلى تفاصيلها، خاطب الوزير مارشال برؤيويّة فذّة ومدهشة الرئيس الأميركي قائلًا: "سينتهي الأمر باليهود إلى الركض إلينا طلبًا للمساعدة" (تقفز إلى وعينا توًّا صورة نتنياهو مناشدًا بايدن مرارًا خلال فعله الإباديّ نجدته بالسلاح والمال والمنظومات الدفاعية). كان على جورج مارشال، بكونه السياسيّ الأميركيّ الأقدم ووزير الخارجية (في عهدي روزفلت وترومان على التوالي)، أن يقرّر ما إذا كان على الولايات المتحدة الاعتراف بـ"إسرائيل" وبقرار التقسيم الذي أقرّته الأمم المتحدة، وكان معارضًا للأمرين معًا، نشوء الدولة والتقسيم معًا إذ كان مهتمًا بالعديد من العوامل الاستراتيجية وأبرزها عدم استعداء العرب والمسلمين ككتلة بشرية ضخمة عدديًا، وعدم وضع النفط العربي في دائرة الخطر، وعدم تحمّل الولايات المتحدة عبء هذه "الدولة اليهودية" مستقبلًا واستنزاف إمكانات الدولة الأميركية المادية والمعنوية لحماية الكيان الناشئ. كان جورج مارشال يعلم أن إنشاء دولة صهيونية في قلب العالم العربي يقوّض المصالح الإقليمية الأميركية ويغذّي صراعات لا نهاية لها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط (أثبتت السنوات الستّ والسبعون صحّة هاتين الرؤية والرؤيا)، مدركًا بحدسه الرهيب "أنّ القادة الصهاينة لن يختاروا أبدًا التعايش مع جيرانهم العرب ولن يتّبعوا مسارًا سلميًا، بل سوف يسعون بلا هوادة إلى الهيمنة على المنطقة من خلال خداع واشنطن وحملها على تدمير أعدائها المفترضين". كأنّه حيّ يرزق بيننا، جورج مارشال، يشهد على نتنياهو كيف يورّط الولايات المتحدة في حروبه المتوالية.
في الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية ولقاء مارشال مع ترومان في 12 مايو/ أيار 1948، أصدرت هيئة الأركان الأميركية المشتركة ما لا يقلّ عن ست عشرة ورقة حول قضية فلسطين، أهمّها تلك الصادرة في 13 مارس/ آذار 1948 تحت عنوان "متطلّبات القوة لفلسطين" وتضمنّت "النبوءة" الآتية: "سوف تسعى الاستراتيجية الصهيونية إلى إشراك الولايات المتحدة في سلسلة متواصلة ومتزايدة من العمليات التي ترمي إلى إنجاز القَدْر الأعلى من الأهداف اليهودية وبينها السيادة اليهودية الأولية على أجزاء من فلسطين، وقبول القوى العظمى حق الهجرة غير المحدودة لليهود، وتوسيع السيادة اليهودية على كامل فلسطين، وتوسيع {أرض إسرائيل} إلى شرق الأردن وأجزاء من لبنان وسورية" (ألا نرى ذلك بأم العين اليوم؟!). ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي أعربت فيها هيئة الأركان المشتركة عن هذا القلق، ففي أواخر عام 1947، ورد في ورقة ثانية لها: "إنّ من شأن قرار تقسيم فلسطين أن يضرّ بالمصالح الأميركية إذا أيّدته الولايات المتحدة، إلى حدّ يجعل نفوذ أميركا في الشرق الأدنى والشرق الأوسط مقتصرًا على ما يمكن الحفاظ عليه بالقوة العسكرية" (واقع الحال اليوم). هذه التوقعات تحقّقت فعليًّا، فقد غرقت الولايات المتحدة في حروب خاضتها لمصلحة "إسرائيل" على مدى العقود الماضية، من دون أن تجني أي فائدة لمصالحها الخاصة، بل على العكس من ذلك، استقطبت واشنطن كراهية أكثر من مليار مسلم وأغرقت المنطقة في دوامة لا نهاية لها من سفك الدماء والفوضى، ولا شيء من ذلك يصبّ في مصلحة الأمن القومي الأميركي.
دَعَمَ لُويْ هِنْدرسون Loy Henderson، مدير مكتب شؤون الشرق الأدنى وأفريقيا في وزارة الخارجية الأميركية، موقف وزيره جورج مارشال، إذ توجّه إليه برسالة رسمية جاء فيها: "إننا لا نتحمّل أيّ التزامات تجاه اليهود في ما يتصل بإقامة دولة يهودية. إن إعلان بلفور وصكّ الانتداب لم ينصّا على إقامة دولة يهودية، بل على إقامة وطن قومي لليهود، ولم تفسّر الولايات المتحدة، ولا الحكومة البريطانية، مصطلح الوطن القومي لليهود على أنه يعني دولة قومية يهودية". كتب هندرسون هذه الرسالة قبل شهرين من تصويت الولايات المتحدة على تقسيم فلسطين دولتين، معبّرًا في رسالته عن تعاطفه العميق مع مصالح الدول العربية، إذ كان سعي الولايات المتحدة إلى تعميق العلاقات مع الدول العربية والإسلامية دافعًا لآرائه السياسية، فعارض بشدة قيام دولة يهودية وقرار التقسيم في الأمم المتحدة، وأيّد الوزير مارشال مواقفه بقوة ومثله جورج كينان Kennan، رئيس فرع التخطيط السياسي في وزارة الخارجية، إذ رأى بدوره أن قرار التقسيم يُديم مشكلة فلسطين ويعقّدها مستقبلًا، وأنّه قرار "يتعارض بوضوح مع المبادئ المنصوص عليها في الميثاق ومع المبادئ التي تنهض عليها المفاهيم الأميركية للحكم، مثل تقرير المصير وحكم الأغلبية، وهو اعتراف أيضًا بمبدأ الدولة العنصرية (اليهودية) الثيوقراطية التي تميّز على أساس الدين والعرق".
|
جادل جورج مارشال (يمين) االرئيس هاري ترومان (يسار) وحذّره من مغبّة نشوء الكيان الصهيوني وأثره المدمّر على الولايات المتحدة نفسها (Getty) |
أمّا سبب إصرار الرئيس ترومان على الاعتراف بهذه "الدولة" الوليدة فيكشفه ستيڨ سميث Steve Smith، صهر إدوارد كينيدي (الشقيق الأصغر للرئيس جون كينيدي)، موضحًا أن أربعة رجال أعمال يهود جمعوا مبلغ مليوني دولار نقدًا وقدموه إلى هاري ترومان الذي كان في حاجة ماسة إلى المال في خضمّ حملته الرئاسية الثانية عام 1948، وقد عبّر لدى فوزه عن امتنانه لمؤيّديه الصهاينة. فضلًا عن أنّ ترومان كان في الأصل مسيحيًا توراتيًّا ولطالما ردّد من سفر التثنية في العهد القديم "ها أنا قد تركتُ الأرض أمامكم. ادخلوا وتملّكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحق ويعقوب". هذا التوراتيّ النزعة لا ننسى أنّه هو مَنْ أمر بإلقاء القنبلتين النوويتين، الأوليين والوحيدتين حتى الآن في التاريخ، على هيروشيما وناغازاكي، وهو منشئ حلف شمال الأطلسي سيّء الذكر عام 1949، ومفتتح الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، والمتدخل عسكريًا في الحرب الكورية عام 1950.
بالعودة إلى جورج مارشال ووقائع جلسة المناقشات الحادة والحامية بين الرئيس الأميركي وأركان حكمه وإدارته، فقد كان هاري ترومان وكبار مستشاريه يناقشون في البيت الأبيض الإجراء المناسب الذي ينبغي اتخاذه حيال الإعلان المحتمل في 15 مايو/ أيار في تل أبيب بشأن تأسيس الدولة اليهودية. حضر الاجتماع كلارك كليفورد Clark Clifford، مستشار الرئيس للشؤون السياسية الداخلية، حاملًا مسودة بيان كان يأمل في موافقة الرئيس ترومان على تبنّيه وإعلانه في ما يخصّ تلك الدولة اليهودية التي لم تكن حدودها معلومة (ولا تزال كذلك) ولم يُعتمد لها إسم نهائيّ. وسادت الاجتماع حالة من الغضب الشديد إذ وجد الرئيس نفسه محاصرًا بين حجج مستشاريه وحجج وزير خارجيته الجنرال جورج مارشال الذي كان العسكري الأميركي الأعلى رتبة خلال الحرب العالمية الثانية وأضحى مع الوقت الرجل الأكثر شعبية في بلاده. عارض مارشال بشدة الاعتراف المبكر بالدولة الصهيونية التي كانت على وشك الإعلان عنها، واصفًا الاعتراف بـ"الإجراء غير المسؤول"، وأيّده في ذلك وزير الدفاع فورستال استنادًا إلى شعوره بأن الأمر سيثير حفيظة الدول العربية. غير أن كليفورد بقي على اندفاعته زاعمًا "أن الشرق الأوسط سوف يشهد توجّهًا جديدًا مع إنشاء دولة جديدة ملتزمة بالمبادئ الديمقراطية" (لا ريب البتة في أنها ديمقراطية تُرفع لها القبعات!). وفي مذكراته يصف كليفورد الوزير مارشال بأنه "كان غاضبًا مكبوتًا حين عرضتُ مسألة الاعتراف الفوري بالدولة الإسرائيلية"، مردفًا: "بعدما أنهيتُ كلمتي انفجر مارشال في وجه الرئيس قائلًا: كنت أعتقد أن هذا الاجتماع عقد للنظر في مشكلة مهمة ومعقدة في السياسة الخارجية. لا أدري حتى لِمَ جاء كليفورد إلى هنا. فأجاب ترومان بهدوء: حسنًا، سيدي الجنرال، إنه هنا لأنني طلبتُ إليه ذلك. وردّ مارشال غاضبًا: أخشى أن يكون السبب الوحيد لوجود كليفورد هنا هو الضغط من أجل بلوغ حلّ سياسي لهذه القضية، ولا أعتقد أن السياسة يجب أن تلعب أي دور في قرارنا". وانتهى الاجتماع بغضب متفاقم من الجانبين، إنّما ليس قبل اعتراف كليفورد على مضض بأن البيان الذي أعدّه أُخرج من التداول وأنه يرغب في سحبه. ونهض ترومان، الذي كان حريصًا جدًا على تهدئة انفعال وزير خارجيته مارشال قائلًا له: "إني أفهم موقفك يا جنرال وأميل إلى الوقوف بجانبك في هذه المسألة". إلّا أن ترومان لم يكن يقصد أي كلمة من الكلمات التي نطق بها، بل تبنّى ما نصحه به كليفورد: الاعتراف بـ"دولة إسرائيل" الجديدة، ولم يبق أمامه إلّا سؤال متى ينبغي أن يتمّ هذا الاعتراف؟ مقرًّا بأن الاعتراف السابق لأوانه، في اليوم السابق لإعلان "إسرائيل" قيام "دولتها"، سيكون بمثابة خطوة متهوّرة وغير سليمة.
مع انتصاف ليل الرابع عشر من مايو/ أيار 1948، أعلنت الحكومة الموقّتة للكيان الصهيوني قيام "دولة إسرائيل". وفي التاريخ نفسه اعترفت الولايات المتحدة، من خلال الرئيس ترومان، بالحكومة تلك كـ"سلطة فعلية" للدولة اليهودية. وخسر جورج مارشال معركته، وكان النجاح الثاني للصهيونية العالمية، بعد وعد بلفور، متمثلًا في اعتراف الولايات المتحدة بالدولة الناشئة. والأمر المدهش آنذاك أن معظم اليهود الأميركيين في فترة ما بين الحربين العالميتين أعلنوا معارضتهم لأي فكرة عن وطن أو دولة يهودية في فلسطين، إذْ كانوا أكثر ميلًا إلى الاندماج في مجتمعهم كمواطنين أميركيين، ولم تكن فكرة الهجرة إلى "صحراء بلاد الشام" (بحسب تصوّرهم للمكان) جذابة عمومًا. ولكن على مرّ الزمن، ومع ازدياد أعداد المهاجرين إلى الولايات المتحدة من أوروبا الشرقية، ضعفت تلك القناعات الرافضة للهجرة وأضحت الصهيونية أكثر جاذبية بكونها شكلًا من أشكال الإنقاذ في الشرق الأوسط لـ"اليهود المعذبين".
جورج مارشال واحد من أبرز الشخصيات، على الإطلاق، في التاريخ الأميركي (غير المشرّف غالبًا)، ليس لأنه ناهض نشوء الكيان الصهيوني فحسب، بل لأنه كان "رجل دولة" بكل ما للصفة من معنى. كان رئيسًا لأركان جيش الولايات المتحدة في عهدي الرئيسين روزفلت وترومان، قبل أن يشغل منصبي وزير الخارجية ووزير الدفاع في عهد ترومان. أشاد به تشرشل كـ"منظّم للنصر" بفضل قيادته نصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وبصفته وزيرًا للخارجية دعا إلى التزام اقتصاديّ وسياسيّ أميركيّ بتعافي أوروبا بعد الحرب فكانت "خطة مارشال" المشهورة التي تحمل اسمه، وتقديرًا لها نال عام 1953 جائزة نوبل للسلام. كان عسكريًا رفيع الرتبة في الحرب العالمية الأولى وقاد معارك وأصيب. كان مقاتلًا شجاعًا ومخطّطًا حربيًا بارعًا، وبلغ مجده العسكري في الحرب العالمية الثانية قائدًا عامًا لجيوش الحلفاء. ومع ذلك، لم يخلُ سجلًه العسكري من أخطاء أبرزها عدم تداركه كارثة بيرل هاربر وتأخّره في إرسال معلومات استخبارية مهمة إلى قيادة القاعدة البحرية. فضلًا عن فشل جهوده (لمدة سنة كاملة) في إيجاد حلّ للحرب الأهلية الصينية، وفشل اقتراحه فَرْض الخدمة العسكرية الشاملة على سائر الذكور الأميركيين. لكن فشله الأكبر يبقى عجزه عن إقناع هاري ترومان بعدم الاعتراف بالمسمّاة "إسرائيل".
غزة اليوم يُستعار لها مصطلح "مشروع مارشال".
٭ ناقد وأستاذ جامعي لبناني.