قبل انقضاء السنة الماضية (2024) بشهرين رحلت عن عالمنا أبرز شخصية نسائية معاصرة في المسرح السويدي والمنافسة الأهم لإنغمار بيرغمان (Ingmar Bergman) في حياته وخليفته بعد رحيله، إنها سوزان أوستن (Suzanne Osten) التي عاشت ثمانين عامًا حافلة بالتفوق في مجالات عديدة (المسرح، المسرح الموسيقي، السيناريو، السينما) وغنية بالتجديد والتحديات الفنية والفكرية. وكانت قد ورثت روح التحدي هذه من والدها الألماني الذي عارض النازية ولجأ بسبب ذلك إلى السويد، ومن والدتها المكافحة من أجل إثبات وجودها كمخرجة، في وقت كان الإخراج السينمائي محتكرًا من الرجال، وهو ما ألهم ابنتها سوزان في إخراج أول أفلامها تحت عنوان "أمي" (Mamma) عام 1982.
المسرح
أخرجت سوزان أوستن خلال مسيرتها أربع عشرة مسرحية، كان آخرها مسرحية "مؤامرة" في عام 2023.
معروف عن أوستن أنها أول من أسس في السويد ظاهرة المسرح الحر وذلك في أواخر الستينيات بافتتاحها "مسرح الجيب" الذي شهد انطلاقتها الأولى ككاتبة ومخرجة. ثم انضمت إلى "مسرح المدينة" الحكومي الذي ستواصل فيه مسيرتها على مدى سنين طويلة أصبحت فيه أبرز اسم في مجال المسرح ذي التوجه السياسي، ففي عقد السبعينيات كانت هي أكثر كاتبة ومخرجة تقديمًا لقضية النسوية في مسرحيات: "كلام بنات" 1971 الموجهة للفتيات في سن المراهقة، "تصوراتنا عن الحب" 1973 التي تجادل المفهوم الذكوري للعلاقة العاطفية، "يا إلهي يا فتيات، تحريرنا قريب!" وهي مسرحية موسيقية أحدثت ضجة وشعبية عظيمتين ظلت حية على مدار السنين فيما صارت الأغنيات التي تضمنتها المسرحية من كلاسيكيات الفن الموسيقي السويدي.
المجال الآخر الذي كانت أوستن رائدته هو مسرح الأطفال والفتيان/ات. فتطبيقًا لفكرتها عن الدور التربوي للمسرح قامت بتأسيس قسم خاص في "مسرح المدينة" لهذا النوع عام 1975، وكتبت عدة أعمال موجهة للأطفال. وهي لديها نظرية مثيرة للجدل في هذا الموضوع معاكسة للفكرة السائدة حول العالم التي تشترط للفنون والآداب الموجهة للأطفال والمراهقين أن تتسم بالمرح والسطحية وبالجهل بالمشاكل والقضايا الجدية في الأسرة وفي المجتمع وفي العالم حفاظًا على "براءة" الطفل. على العكس، تحفل الأعمال التي ألّفتها وأخرجتها أوستن بمواجهة الأطفال بحقيقة وجود مشاكل أسرية جدية كالفقر وطلاق الوالدين ومشاكل اجتماعية وصدمات في حياة المراهقين وبحقيقة كوننا نعيش في عالم مليء بالصراعات والحروب.
جدير بالذكر أن سوزان أوستن ظلت طوال حياتها محتفظة بسمعتها "كمشاغبة" كبيرة في علاقتها مع إدارات المسارح. وما مبادراتها بافتتاح مسارح حرة واشتغالها خارج المسارح الحكومية والكبرى إلا نتيجة لمشاجراتها مع الأخيرة ورفضها التقيد بالخطوط المرسومة مسبقًا، حتى إنها غادرت "المسرح الملكي"، أكبر وأعرق مسرح في البلاد، وقاطعته لسنين عديدة ولم تستجب لدعوته بالتعاون إلا في السنوات الأخيرة. وكمعلومة شخصية، صرّحت سوزان في جلسة خاصة في الفترة الأخيرة من حياتها، كان من بين حضورها ابنة كاتب السطور التي شاركت كممثلة في آخر أعمالها، بأنها كانت قد اقترحت على "المسرح الملكي" عملًا مسرحيًا يدور عن القضية الفلسطينية فرفضته إدارة المسرح وطالبتها بتغيير النص بحيث يتضمن "كلتا وجهتي النظر" أي الفلسطينية والإسرائيلية، بدعوى الموضوعية!
السينما
أخرجت أوستن عشرة أفلام روائية. بعد إخراجها أول أفلامها الطويلة "أمي"، والذي سبقته بسلسلة من الأفلام التلفزيونية خلال السبعينيات، كان فيلمها الثاني هو "الأخوة موزارت" (1986) (Bröderna Mozart) والذي نالت عنه الجائزة الأولى في مهرجان الفيلم السويدي عن أفضل مخرج. يعد هذا الفيلم قمة من قمم الاتجاه الحديث في السينما، ونال تقييمًا عاليًا على الصعيد العالمي، وهو يدور حول مخرج "مشاغب" يعمل على إخراج أوبرا دون جوان لموتزارت في دار الأوبرا (الحكومية) فيتمرد على تقاليد الدار بمحاولته طرق أساليب جديدة، أي بمحاولته أن يكون حرًا، أن يكون نفسه. وفي الختام ينجح العرض ويُنسَب النجاح إلى فرقة المؤدين فيما يتم تجاهل المخرج! واضح أن سوزان هنا تقدم هجائية حادة عن التقاليد والقواعد التي تحكم إدارة الإنتاج المسرحي وصراعها الشخصي معها، لكنها، من جهة ثانية، تؤَصّل العنصر الأساس في الإبداع الفني: الحرية، وتصف اغتراب العقل الحر وسط عالم من القيود المحسوسة وغير المحسوسة.
بعد عامين ستخرج سوزان فيلمًا بعنوان "فيلم قاتل" (Lethal Film) عن ممثل يعمل مع شركة إنتاج مولعة بالأفلام المليئة بالرعب والدم، ويقترح عليها إنتاج فيلم وثائقي عن اللاجئين الذين لم يحصلوا على حق الإقامة في البلاد، ويعيشون بشكل غير قانوني تحت شروط مرعبة في قسوتها، ناصحًا شركته بأن الرعب الذي يعيشه هؤلاء الناس أضخم من أي خيال سينمائي يخطر ببالهم!
غريمة بيرغمان!
يعلّل بعض النقاد السلوك الغريب الذي أبداه أيقونة المسرح والسينما السويدية إنغمار بيرغمان تجاه سوزان أوستن بأن الأخير قد غلبته النرجسية التي تصيب بعض المشاهير. المعروف -على أية حال- عن بيرغمان أن من ضمن نقاط ضعفه كونه يكره أن يشاركه أحد مكانته. فليس مستبعدًا أن يرى إلى انطلاقة الشابة سوزان، الشبيهة به في التمرد والتجديد، بمثابة تهديد له. مثل كل السينمائيين والمسرحيين الشباب كانت سوزان شديدة الإعجاب ببيرغمان وتنظر إليه بتقدير كبير فكانت تبعث إليه بمسودات سيناريوهاتها طالبة رأيه، لكن نادرًا ما كان بيرغمان يتطلف في ردوده لها. عندما عرضت عليه سيناريو فيلم "الأخوة موزارت"، أحد أعظم أفلامها فيما بعد، كان تعليقه هو أنه أسوأ سيناريو مرّ عليه! أما فيلمها "الملاك الحارس" (The Guardian Angel ) الذي كانت تعوّل عليه أن ينال تقديرًا عالميًا، فتقول إنه قد تمت عرقلة إنتاجه من قبل بيرغمان شخصيًا لأنه - حسب تفسيرها - لم يكن يحب أن يرى مخرجًا ينتهج نفس أسلوبه، بل وأفضل منه.
*كاتب ومترجم عراقي مقيم في السويد.