}

عن نيراز سعيد وأكثر من مائة ألف مخفي قسريًا

استعادات عن نيراز سعيد وأكثر من مائة ألف مخفي قسريًا
نيراز سعيد

 

عام 2020، عادت صور قيصر إلى الواجهة، تلك الصور المأخوذة لآلاف الجثث السورية التي ماتت تحت التعذيب في معتقلات الموت السورية. وقتها، حرّك قانون قيصر للعقوبات الصور التي كانت قد سرّبت قبل ذلك بخمس سنوات. بعدها، انفجرت صور قيصر على الفضاء العام، جرى نشر كلّ الصور على نطاقٍ واسعٍ جدًا، وفوضويٍّ جدًا. في خضمّ كل تلك الفوضى، نُزعت عن صور قيصر قدسيتها كوثيقة. ولم تنجح كل محاولات الدعوة إلى التوثيق، وانتثرت الصور في الفضاء الافتراضي المفتوح. اليوم، وبعد أربع سنوات، سقط نظام الأسد، وفُتحت بوابات المسالخ البشرية، هبّت القلوب باحثة عن ذويها، آلاف العيون تبحث، والأيدي تعبث، والتوثيق، توثيق الاعتقال كأهم حدث في سورية المعاصرة، راح أدراج الرياح، كما هي حال وثائق الأفرع الأمنية التي ضاع أغلبها.

عن الوثيقة السورية وتيه المؤسسات 

عبر ثلاثة عشر عامًا، تأسست عشرات المؤسسات المدنية التي اهتمت بشأن المعتقلين والمغيبين قسرا في سجون النظام البائد. كما تشكلت أكثر من رابطة أهلية تضم أهالي المعتقلين وذويهم. وعلى عكس الروابط الأهلية التي كانت فاعلة بعد السقوط حسب قدرتها، غابت المؤسسات المدنية عن الحدث الأكبر، سقوط النظام وفتح المعتقلات. أين كانت هذه المؤسسات؟ وأين كان كوادرها لحظة السقوط وما بعدها؟

تبعًا لحساسية قضية الاعتقال، لم يكن هناك أي مؤسسة للمعتقلين داخل مناطق سيطرة النظام المخلوع، أغلب المؤسسات والجمعيات تواجدت في تركيا وأوروبا،  لذلك كان مفهومًا عدم وجود هذه المؤسسات في المدن السورية لحظة فتح المعتقلات. النظام سقط فجأة ولم يكن أحد يتوقع ذلك. فتح الثوار بوابات المعتقلات والفروع الأمنية، هجَّ المعتقلون، وحجت مجاميع العائلات إلى الفروع والمعتقلات، وضربت الفوضى الوثائق. ولو أنها كانت يجب أن تكون موجودة في هذه اللحظة، فهي أُنشئت من أجل مثل هذا اليوم، إلا أن السقوط المفاجئ يبرر غياب المؤسسات في يوم السقوط، لكن لماذا بقيت غائبة بعد ذلك، ولم تكن فاعلة في أكثر اللحظات كان السوريون بحاجتها.

يطرح غياب المؤسسات الفاعلة في قضية الاعتقال في سورية سؤالًا جادًا عن هيكلة مؤسسات المجتمع المدني السوري التي انبثقت كالفطر بعد الثورة. أين هي؟ ولماذا لم تأتِ إلى سورية بعد؟ ومن هم أعضاؤها؟ كلها أسئلة يسألها الشارع السوري المكلوم في مفقوديه ومغيبيه. لم تقدم أي من المؤسسات إجابة واضحة لأهالي المعتقلين، ولم تكن فعالة على الأرض حتى بعد أيام من سقوط النظام. بقي أعضاؤها مقيمين في أوروبا، لا بل إن بعضهم بدأ في التململ في العودة إلى سورية. واقتصر العمل على أفراد أو على مؤسسات وروابط محددة مثل رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا التي عادت لتعمل على الأرض. تناثرت الأوراق، ضاعت الوثائق، وبقيت عوائل المعتقلين تبحث بنفسها، وتاهت المؤسسات عن الهدف الذي خلقت من أجله.

أين صديقي؟ عن نيراز سعيد مصوّر المخيم المفقود 

"نحن في المخيم، لسنا أناسًا جائعين فقط، نحن بشر تنهار حياتنا أمام أعيننا. نحن لسنا مجرد خبر على ‘الفيسبوك‘ أو إحصائية منسية، بل بشر لهم أحلامهم وأمانيهم بعيش أفضل. مخيم اليرموك ليس هو مجموعة الأحجار والأبنية المرصوفة في شوارعه، المخيم هو هؤلاء الناس الذين آثروا البقاء في مكانهم. المخيم ليس حجرًا... المخيم بشر"- تلك هي الكلمات التي قالها لي المصور الفوتوغرافي نيراز سعيد في حوار أجريناه عام 2014. حينها كان نيراز محاصرًا في مخيم اليرموك بدمشق في واحد من أقسى الحصارات التي فرضها النظام السوري في الثورة السورية. صوّر نيراز الحياة في المخيم تحت الحصار، ورصد القصف والقتل والاقتتال الفصائلي. شارك في فيلم "رسائل من اليرموك" مع المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي. وقدّم فيه يوميات الحياة والموت في مخيم اليرموك. خرج نيراز لاحقًا من المخيم، خرج ومعه آلاف الصور والفيديوهات التي كانت بمثابة وثائق بصرية تشهد على هذه المرحلة وتسجل القتلة فيها، وتصوّر الضحايا.
 

تميزت صور نيراز، ومنها صورة "الملوك الثلاثة" (في أعلى اليسار) الحاصلة على جائزة الأونروا، بأنها لم تكن مجرد توثيق للحظة، بل إنها آتية من ارتباطه الشخصي بموضوع الصورة الملتقطة


لم يغادر نيراز دمشق، قرر البقاء ليكمل تصوير الثورة، ودفع ثمن ذلك باعتقاله من قبل فرع فلسطين بعد خروجه من المخيم بأيام. صادر الأمن السوري أغلب الداتا التي كانت بحوزة نيراز، وأخفى صاحبها في أقبية معتقلاته. بينما سُرقت باقي الوثائق البصرية الخاصة بسعيد عبر بعض الناشطين (الثوريين) الذين أعادوا عرضها في العواصم الأوروبية مرضاة المانح الأوروبي وبدون الإشارة إلى صاحب الصورة المغيَّب. تميزت صور نيراز، ومنها صورة "الملوك الثلاثة" الحاصلة على جائزة الأونروا، بأنها لم تكن مجرد توثيق للحظة، بل إنها آتية من ارتباطه الشخصي بموضوع الصورة الملتقطة. بمعنى أن التفاصيل التي كان يسعى إلى رصدها كانت تعنيه، فهو ليس مجرّد مراسل ينقل الخبر بالصورة، إنما مرتبط بالمكان والأشخاص، وتربط بينه وبين موضوع صورته علاقة قوية، علاقة انتماء. 

في سنوات اعتقاله، تضاربت الآراء حول نيراز، هل بقي على قيد الحياة أم أنه رحل تحت التعذيب؟ كانت لحظة سقوط النظام هي اللحظة الفاصلة في هذا الجدل، أو هكذا بدت. ليس لذوي نيراز وحده، بل كانت اللحظة الفاصلة لآلاف العائلات التي فقدت أبنائها في عتمات السجون. لكن للأسف، اللحظة التي انتظرتها آلاف العيون كانت كالسراب. وبعد أن فرغت السجون، وتشتت آلاف الوثائق، وجد السوريون أنفسهم أمام أكثر من 120 ألف مغيب لا يُعرف عنهم شيئًا… وبذات الفوضى التي ضربت وثائق الاعتقال، نُبشت بعض المقابر الجماعية، الدليل الأهم والأخطر والأخير عن المغيبين.

بعد أن فرغت السجون، وتشتت آلاف الوثائق، وجد السوريون أنفسهم أمام أكثر من 120 ألف مغيب لا يُعرف عنهم شيء (سجن صيدنايا، Getty)


كيف لا نفقد المُختفين مرتين؟ 

من أعلى هرم السلطة المؤقتة، إلى أصغر فاعل في الحقل الاجتماعي السوري ، يجب أن يكون معنيًا بقضية المعتقلين اليوم، ومتابعة ملفهم مع ذويهم. فلا كرامة لثورة الكرامة بدون أن تعرف آلاف العائلات مصير ابنائها، هذه العائلات التي لم تجد أمامها مؤسسات تنظم عملها وتتابع ملفات أولادها، وكأن أبناءها فُقدوا مرتين، مرة حينما اعتقلهم النظام، ومرة حينما اختفى أثرهم وضاعت الوثائق التي توثق مكانهم وربما موتهم. ناهيك عن التغاضي الكبير عن باقي السجون الموجودة على الأرض السورية، سواء تلك التابعة لهيئة تحرير الشام (سجن العُقاب في إدلب) أو سجون الجيش الوطني السوري التابع لتركيا، وكأن تلك السجون، المليئة بالمساجين المدنيين، خارج سلطة التحرير والتحرر وانعتاق قيد المعتقَل السوري. 

"لم يساعدني أحد على العودة إلى حمص، لكي أشارك باحتفالات النصر للثورة التي قدمت فيها أرواح أبنائي كلهم، أريد أن أعرف أين قبور أبنائي الشهداء وهذا من حقي"- هذا ما قالته إم وليد، والدة عبد الباسط الساروت، حارس المرمى الذي تحول إلى أيقونة في الثورة السورية. يدل كلام الوالدة على الإهمال الذي تتعرض له عائلة الصوت الصادح في ساحات الاحتفال، إذ لم يتواصل أحد مع العائلة المكلومة، ولولا المقابلة الإعلامية على قناة "تلفزيون سوريا" قبل أيام لما عرف أحد بحال أهل الساورت، ووالدة الساروت، التي كانت خنساء الثورة السورية ومثلها الكثير. أما نيروز مناد، أخت نيراز سعيد، فكتبت على صفحتها الشخصية "سهل عالكل يقول للأمهات والآباء المقهورين الناطرين أنه اللي ما طلع مع المعتقلين فهو ميت، بس مين بيقدر يطفي النار؟ مين بيقدر يجاوب وين دفنوه؟ إيمتى مات؟ مين بيقدر يمنع أم تفكر انه لسا في أمل... لسه في احتمال يكون عايش". وفي الوقت الذي تملأ فيه صور الساروت المكان، لم يرفع أحد صورة لنيراز بين المعتقلين. لم يبق أحد من عائلته في الداخل، ولم يتواصل أحد معهم، ويسألهم عن مفقودهم أو يخبرهم عن مصيره. وحال نيراز هذا هي حال آلاف المعتقلين والغائبين الذين سيبقى جرح غيابهم مفتوحًا لسنوات. 

لا يمكن لمجتمعنا السوري المنكوب القيام من رماده بدون العمل على العائلة ومداواة جروحها وتشتتها، وأكبر هذه الجروح، جرح الفقد والاختفاء القسري. ولن يشفى هذا الجرح إلا بتفعيل العمل المؤسساتي الحقيقي، وليس ذلك الذي يعتاش على آلام الناس، وحينما يحتاجونه لا يجدونه. باختصار، ربما نحن بحاجة إلى نفض كل الهيكلية المؤسساتية المستقلة، ومثلما سوف تخضع المؤسسات الحكومية للمساءلة، يجب أن تخضع هذه المؤسسات للمساءلة أيضًا، من كان حاضرًا منها يبقَى ومن لم يحضر فحريّ به أن يغلق مؤسسته ويخبر مموليه أنه فشل، ولم يكن على قدر المسؤولية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.