كتاب السيرة الفكرية "على قدر أهل العزم" (2015)، الذي كتبه الدكتور الوزير القطري حمد بن عبد العزيز الكواري، على قدر كبير من الثراء والتنوع، رحلة حياة تتقاطع فيها نظرات الكائن الذاتية، بتجارب رجل الدولة، الذي تنقل بين مناصب دبلوماسية، وحكومية متعددة، في مراحل مختلفة من تاريخ دولة قطر تمتد على مدى أكثر من نصف قرن، قادته للعمل ممثلًا لبلاده في عدد من البلدان، والمنظمات الأممية، سمحت له بالتعرف على شخصيات سياسية وثقافية وإعلامية، على مدار أكثر من نصف قرن.
يفصح الكتاب عن بصمة خاصة للكواري في قطر الثقافة والدبلوماسية والإعلام، حيث عمل سفيرًا في عدد من الدول العربية والأجنبية، سورية، لبنان، فرنسا، الولايات المتحدة، المكسيك... إلخ، وتقلد مناصب وزارية في الإعلام (1992 ــ 1997)، والثقافة (2008 ــ 2016). ويتجلى على نحو خاص الدور الذي لعبته المسؤوليات، التي اضطلع بها، في تشكيل تصوراته ومواقفه ورؤاه، التي حرص على أن تكون الثقافة، في أدق دلالتها، هاديًا له في عمله.
الكتاب عبارة عن خلاصة ترحال في دروب الثقافة والدبلوماسية، شواغل وتأملات، وحكايات حميمة. اختار له عنوانًا من بيت للشاعر أبي الطيب المتنبي "على قدر أهل العزم"، أولئك الذين يحملون الطموح على جناحيه، وتحضر، على الدوام، بلادهم في كل شاردة وواردة من يومياتهم ومطالعاتهم ورحلاتهم، بين المسؤوليات والبلدان والكتب، من الطبيعة إلى القراءة. وما بين السفر والترحال، والإقامة في المكان، تكتب السيرة سطورها، ليس على سبيل ما مضى وانقضى، بل عن طريق تشريع أبواب الحوار والتبادل برحابة، في وقت يشكل البحر والصحراء والبوصلة رهانًا ثقافيًا، بين معنى قديم معتق شكل حيزًا من وعيه وثقافته وذائقته الأدبية، وبين خطاب العصر في عالم تعصف به الرياح من الجهات كافة، تهدد السفينة بالغرق، لكن البوصلة التي توجهها المسؤولية الأخلاقية تحيل المشهد إلى قوس قزح من حوار الثقافات، والأجناس، والديانات، والأعراق. في وقت يلح فيه سؤال مراجعة الذات على صعيد إنساني جمعي، يتوجه للأمم المتحدة، والنخب السياسية، والثقافية، والأفراد.
السؤال الثقافي شاغل الكواري، وكان اختيار الدوحة عاصمة للثقافة العربية عام 2010 أول نقلة فعلية من الهواجس النظرية، إلى تقديم إجابات عملية مقنعة للذات، وللبيئة المحلية، والفضاء العربي الاسلامي الذي تنتمي إليه قطر، التي قبلت أن تنهض بالمهمة رغم أنها تبدو مستحيلة بحسب المعطيات المتوفرة، في "بلد لا يؤمن بأنصاف الحلول ومخايل النجاح. فلقيادته من الطموح ما يجعلها لا تقبل إلا بالنجاح الكامل"، ذلك أنها لم تكن تبخل على العاملين بتوفير جميع الوسائل المادية والمعنوية. وكانت أول خطوة في درب النجاح اختيار شعار" الثقافة العربية وطنًا والدوحة عاصمة". والثانية حسم مسألة الخصوصية الثقافية بمنظور الحداثة، التي تتيح الانفتاح ورفض التنميط، تاركة لكل ثقافة الحرية في أن تدرج بأسلوب خاص بها المنتج الثقافي المعولم في سياقها الخصوصي، من دون أن تفقد فرادتها بفضل ما تختص به من سلوكيات وعقائد دينية ومميزات في الطعام والفنون واللهو والجد والطقوس.
الطريق الذي أفضى الى تحقيق هذه المعادلة المعقدة هو رمزية "بيت الحكمة"، بما تحمله من دلالات قيمية ومعان فكرية وحضارية في حوار الثقافات وتفاعلها، كونه تأسس حول الترجمة، والتعرف على إبداعات الآخر لاستبطانها وإنتاج معارف جديدة، وبذلك أصبحت الدوحة عاصمة من عواصم العالم الثقافية معترفًا بها إقليميًا ودوليًا، وهذا ما دفع إلى العمل على تشييد بنية تحتية ثقافية متطورة ثرية من متاحف ومسارح ومعارض وأحياء ثقافية مثل كتارا وسوق واقف.
رسخ ذلك النجاح، حسب رؤية الكواري، الوعي بأهمية الثقافة ودورها الاجتماعي، ولكنه كان لحظة ضمن مسار عقلاني واضح التخطيط، واسع الأبعاد هو "رؤية قطر 2030" لتأسيس مجتمع المعرفة، ضمن تصور واضح لما يسمى في الأدبيات الدولية "التنمية الثقافية"، التي أتاحت لكل فرد الحصول على الثقافة والوصول الى منتجاتها بتعميم المسارح والمتاحف والمكتبات والمعارض، وإشاعة الديمقراطية نحو ردم الهوة بين النخبة وعموم الشعب، وفي ذلك تجسيد للبعد الاجتماعي للثقافة ضمن دينامية إحياء التراث المادي وغير المادي، وتأكيد الهوية الثقافية وحماية الخصوصيات والقيم والتقاليد والمعتقدات.
للأدب موقع راسخ في هذه السيرة، وخاصة الرواية. ثمة تجاذب صريح بين القراءة النافعة وحدس القراءة، الذي لم يخيب الخيار، وتتدخل الزوجة المولعة بقراءة الأدب العربي والعالمي كي تعزز "عقيدة" التعامل مع المعرفة، حتى ترسخ الأدب الروائي، الذي يجيب على الزمن حسب الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس، زمن الحداثة لدى المكسيكي الآخر الشاعر أوكتافيو باث، صاحب مقولة "طُردنا من الحاضر"، لاستخراج الدلالة التاريخية والثقافية، وبناء جسر بين التقاليد والحداثة، وهنا يحتل السرد الحكائي في موروثنا العربي مرجعية في المتخيل الروائي العربي الراهن، وهو ما عبر عنه نجيب محفوظ في أعماله الأولى، خصوصًا "كفاح طيبة".
لا يقدم الكواري رأيًا قاطعًا أو جاهزًا بشأن الرواية والتاريخ، ويبقي على المسألة قيد النقاش، في جدلية من الصعب حسمها. ويعترف بأنه مع الوقت تحولت علاقته مع الرواية إلى شغف بخلفية التزاوج بين الأدب والأخلاق، إلى حد أن صار من بين المنتظرين لإعلان نتائج جائزة "غونكور" للرواية الفرنسية، ونوبل للأدب، حتى أنه بادر من موقعه كوزير للثقافة إلى تكليف إحدى دوائر الوزارة بشراء حقوق الترجمة العربية لمحاضرات الحائزين على جائزة نوبل للأدب، بهدف تعريف القارئ العربي على خلاصة تجارب الكتاب العالميين، وكون الذهاب إلى الآخر يفضي إلى اكتشاف الذات، وعملًا بتعزيز النظرة التي تبناها بأن "تبقى الثقافة قضيتنا جميعًا على الصعيد العالمي لنروي روايتنا المشتركة، ونصنع أملًا جديدًا وحلمًا مشتركًا للتعددية الثقافية". ويروي حادثة مؤثرة حينما دعا البروفيسور كيال إبسمارك، رئيس لجنة نوبل للأدب، إلى الدوحة، فألقى أول محاضرة في العالم العربي، وأمام جمهور من القطريين، ومن نخبة المثقفين العرب. ومما تحدث به ثمة ملاحظة مهمة، وهي أن الثقافة مثيل قوت الأرض، على كل جيل أن يحافظ على قسط من البذور، كي لا ينقطع الزرع.
يمر الكواري في سيرته الفكرية على محطات شكلت وعيه وذائقته، وأغنته ثقافيًا وروحيًا، وعمقت نظرته ومقارباته، والبداية من المدن جريًا على مقولة الشاعر الكاريبي ديريك والكوت "تتألف الثقافة كما يعلم الجميع من مدنها"، ويأخذنا من القاهرة التي تمثل "قلب الثقافة العربية النابض"، إلى بيروت "حاضرة من حواضر التنوع والاختلاف على نحو جعلها تنتج ثقافة عربية رائدة غزيرة"، ومن ثم دمشق "عاصمة اللغة العربية"، وبعدها باريس ونيويورك، بمتاحفهم، خاصة اللوفر والميتروبوليتان، وهذا ما يستدعي التعريج على ثلاثة متاحف مهمة في قطر، متحف الفن الاسلامي، متحف الفن الحديث، متحف قطر الوطني.
يبدو الكواري في سيرته مشدودًا بقوة إلى مسألة التواصل الثقافي، وعلى هذا يفرد مساحة لذلك "من المجلس إلى الميديا". ويروي بعض ما دار بينه وبين الكاتب الفرنسي نيكولا بورداس صاحب كتاب "الفكرة القاتلة"، حول انتقال الأفكار من ثقافة إلى أخرى لإثراء التفاعل الثقافي، الذي يقوم على التواصل، وهو أمر "لا تكون الحضارة ولا تكون الثقافة" من دونه، وعنه تنتج "مجتمعات تواصلية"، غير أن الحداثة والعولمة قادتا الى ما أسماه بورداس "ما بعد المجتمع"، ويرجع ذلك إلى الشبكة العنكبوتية، ويمر الكواري في هذا الصدد على إلغاء الرقابة على الصحافة في قطر عام 1995، حين كان يشغل منصب وزير الإعلام، في انتباه منه إلى أن رياح التغيير في العالم تتجه، على التدريج وبنسق متسارع، نحو تكريس حرية تداول المعلومات، أما مواجهة الأفكار القاتلة فيقوم على تحصين الأفراد أخلاقيًا وثقافيًا. وفي هذا الصدد، يروي تفاصيل قراره بإلغاء وزارة الإعلام في قطر عام 1997، انطلاقًا من قناعته بأنها قيد على حرية الإعلام، وما كان لذلك أن يتم "لولا الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الأمير الوالد لدولة قطر ورؤيته التحديثية العميقة".
الفضاء الذي تعلم منه الكواري هو المجلس، الذي جرى تسجيله في قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية لدى منظمة اليونسكو، ويصفه بأنه "فضاؤنا العمومي الذي تعلمنا فيه مفاهيم النقاش العقلاني ومبادئ السلم وفض ما قد يطرأ من خلافات"، وعلى هذا فهو "منظومة متكاملة تربط موروثنا وخصوصيتنا بحداثتنا وكونيتنا، ونحقق الترابط بين الفرد والجماعة". وهو موجود في كل بيت على اختلاف حجمه وأثاثه كدليل على تأصل الحوار في المجتمعات الخليجية، ومتانة الصلة داخل القبيلة باعتبارها الوحدة الاجتماعية، التي تحدّد العلاقات بين الأفراد داخليًا، ومع غيرها من القبائل.
للمجلس وظائف كثيرة، ومنها أنه محفل لإلقاء الشعر والسمر، والنقل الشفوي لمبادئ التربية وقواعدها وأصولها للناشئة، وله طقوس وأعراف، فهو مفتوح يلتقي فيه الناس بشكل مستمر من دون دعوة، أو استئذان، وترتبط لذة دخوله لدى الكواري شرطيًا بنكهة القهوة العربية المميزة، كتقاليد تدل على ثقافة مترسخة، وهذا ما دفعه إلى العمل مع وزارات الثقافة في الخليج، لإدراجها على لوائح التراث غير المادي في اليونسكو.
يلخص البحر والصحراء ماضي وحاضر أهل الخليج في رؤيا الكواري. "البحر الذي أبحر عليه الأسلاف وراء التجارة، وغاصوا في أعماقه بحثًا عن اللؤلؤ، والصحراء موطن الإبل والواحات، مصدر إلهام شعرهم، إليها لجأوا، وفيها أقاموا. ولم يكن التغلغل فيهما بالأمر الهين، وشاءت الأقدار أن يصبحا مصدري الثروة التي حولت المنطقة إلى مثال للتنمية الشاملة والمتكاملة". وفي بوح يقترب من السينما، يقول الكواري "جلست في بيتي قبالة البحر في رأس لفان شمال قطر، أتأمل أمامي بعض فتنة البحر وجلاله في مده وجزره، بينما تمتد ورائي الصحراء شاسعة، أشاهد هناك في الأفق اللازوردي حاملات الغاز العملاقة خارجة من رأس لفان إلى مختلف بقاع العالم. إنها إشارة من إشارات النجاح التي بوأت بلدي مكانة إقليمية ودولية ما كانت لتتحقق لولا إرادة العمل والإصرار على النجاح".
تطبع سيرة الكواري الفكرية الغنية سمات عديدة، منها أنها لا تصبح قديمة بمرور الزمن، لأنها سيرة أفكار وتجارب أخذت شكل سرد متصل منفصل ضمن وحدة المضمون، الذي عكس نفسه بالتجربة وخلاصاتها، والميزة الثانية هي الخفر، فالرجل لم يقدم الذات على الموضوع، تحدث عن محطات من حياته في سياق اجتماعي سياسي ثقافي، وسجل تفاصيل تضيء على مسيرة بلاده وخياراتها والتحديات التي واجهتها بشجاعة، لتضع نفسها على الخارطة العربية والعالمية بقوة. ثالثًا، يعد عمل الكواري الوحيد الذي يسجل وقائع مهمة من تاريخ نهضة قطر، وسياق تطورها. ورابع الصفات هي رؤية الاستثمار في الإنسان الخليجي، من منظور تجاوز الصورة النمطية الدارجة: "الإنسان النفطي"، التي ألصقت به زيفًا وبهتانًا، ويرافق ذلك وعي التكامل بين الدبلوماسية والثقافة من أجل التفاهم بين الشعوب.
في ختام هذا العرض، ثمة إشارة مهمة، وهي أن الكواري وزير دولة ونائب رئيس مجلس وزراء، يترأس الآن مكتبة قطر الوطنية، التي تعد واحدة من بين أهم المكتبات في العالم، لجهة المحتوى والتقنيات في إيصال الكتاب للقارئ، وتقديمه بطرق عصرية تعتمد تعميم الفائدة، وربط المجتمع بالمعرفة، وإنتاج المعنى. وفي تصنيف أجمل 15 مكتبة في العالم، هنالك مكتبة عربية واحدة هي المكتبة الوطنية في قطر، وجاء في تقديمها أنها من تصميم شركة الهندسة المعمارية الهولندية OMA، وهي مساحة مبهجة للغاية من الناحية الجمالية، مع شكل خارجي فريد من نوعه وتصميم داخلي واسع. مع التركيز في التصميم على الضوء والرؤية، وتمتد رفوف الكتب عبر الشرفات في طرفي المكتبة الكبيرة، بينما توجد كتل رخامية باللون الفاتح تحتضن الأرشيف التراثي، ومجموعات مهمة على عمق 6 أمتار في وسط المبنى عن الحضارة العربية الإسلامية.


تحميل المقال التالي...