في الذكرى الأولى لرحيل شاعر الحداثة شوقي أبي شقرا (1935-2024)، أُقيمت لقاءات وندوات استعاد فيها الأصدقاء بعضًا من قصائده وكتاباته. غير أنّ تكريمه الأبرز أتى من مؤسسة أنور سلمان الثقافية التي منحت جائزتها الإبداعية الأولى في تكريم الرواد والرائدات هذه السنة إلى أبي شقرا، بالإضافة إلى إطلاق كتاب للراحل بعنوان "حتى ينام الراقدون نتسامر نحن والفرقد والشمعة ابنة الأرض". وجاء في متن الإعلان: "تقديرًا لدوره في حركة الشعر العربي الحديث، ولريادته في قصيدة النثر، ولتاريخه الجليل في مواكبة حركات التجدد، وفي تأسيسه للصفحات الثقافية في الصحافة اللبنانية".
أُقيم الاحتفال وتقديم الجائزة بالتعاون مع دائرة اللغة العربية في الجامعة الأميركية في بيروت مساء الـ20 من أكتوبر/ تشرين الأول، وُزّع خلاله الكتاب الجديد للراحل أبي شقرا الذي كان قد أنجزه قبل ثلاث سنوات من وفاته، "إلّا أنّ البلاد كانت تتخبط بين أوضاع اقتصادية صعبة وحروب إقليمية تتجدّد وتستعر"، كما أشار صاحب دار نلسن للنشر سليمان بختي، "وبالتالي أَجَّلْنا نشر الكتاب إلى أوان الصحو. ولكن سبقتنا الأقدار وغادر شوقي مكانه إثر مضاعفات جلطة دموية يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2024".
جمع أبي شقرا في كتابه الجديد مجموعة من مقالاته المنشورة في صفحات "النهار" و"الصياد" و"الغاوون" و"البناء" و"نزوى"، كما كتب مقالات خصيصًا لهذا الكتاب.
يقول بختي في كلمته التكريمية لأبي شقرا: "هناك كلمة وردت في عنوان الكتاب وهي "نتسامر"، وبالفعل هذا الكتاب مسامرة أدبية وروحية وقيمية، وهي أيضًا وداع بين جسر وضفة". تترقرق الدموع في عيني بختي وهو يتابع: "لا أعرف مَن كان سيفي حق هؤلاء الكبار في وداعهم أو في رثائهم ليلّوح لهم أننا جئنا وشاهدنا العطاء، لولا همّة شوقي أبي شقرا ونبله وميزانه الدقيق".
يتألف الكتاب الصادر عن دار نلسن في بيروت بالاشتراك مع مؤسسة أنور سلمان الثقافية، من 650 صفحة من الحجم الوسط، وينقسم إلى ثلاثة أجزاء.
الجزء الأول من الكتاب بدأ بكلمة الناشر، ثم أول قصيدة نثر عربية لأبي شقرا نُشرت في بيروت في 28 أبريل/ نيسان 1959 بعنوان "ربّ البيت الصغير"، وهنا أولها: "القهوة على الأرض، ما الصراخ؟ وربّ البيت الصغير يحذو... من أوحى للزوار أن يأتوا عنده للمحة، لسهرة؟/ القهوة ثمينة ومعاشه خفيف كمفكرة، لا يقوى أن يخدم ويرحب، والستائر لا تغطي الشمس والفقر". ونجد على هامش هذه القصيدة أنها من "حلقة الثريا". وهي تجمع شعري أسسه في خمسينيات القرن الماضي مع الشعراء جورج غانم وميشال نعمه وإدمون رزق قبل انخراطه في مجلة "شعر" في مطلع الستينيات مع الشعراء يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وغيرهم.
تحدث أبي شقرا عن هذا الانتقال من تجمع شعري إلى آخر في أكثر من نص، ومنها في الصفحة 34، المقالة التي حملت عنوان "حلقة الثريا - مجلة شعر: الرغيف والسمكة"، إذ قال: "ونحن أكثر، نكتب ونكتب ولو في الخفوت وفي بعض التكاسل، وبعض الخيبة وبعض الانتصار، وبعض الحدب على الجدة، وعلى البريق المزدحم بالشرر والذي يطير من القفص، وإن ضاع المفتاح وإن سقط الإنسان في الامتحان. وكان عليه أن يتكاثر، وأن ينجب الوردة من العدم، ومن حيث يمتدّ اللهب إلى الجيران، وإلى سائر الناس بين قارئ ولاعب، وبين أبيض وأسود، وبين بستان وبستان... وكان شأني ظلالًا وجرأة، وفي مهب الاندفاع إلى التغيير في قوام القصيدة وفي أعمدة الحريّة. في رحلتي شراعها الأول حلقة الثريا، وفي ما بعد نلت ما نلت من قرارة الأمور نحو التجربة الثانية في مجلة شعر".
وتمر الأيام والسنوات، وبين بياض الصفحات وسواد الحبر، كان أحمر قلم أبي شقرا يصحح، ليرفع الكلمة إلى مكانها الصحيح. وفي الحضور والغياب، يحكي ما توارى في الصحافة والأدب والشعر، فيكتب عن الحداثة في الشعر تارة، ويحاضر في الجامعة الأميركية بدعوة من أستاذ الأدب العربي الشاعر خليل حاوي تارة أخرى. فيحتار القارئ أيًّا من هذه المقالات الأجمل بين ضفاف هذا الكتاب. ونحن إذ نبتسم عندما نقرأ له: "الكتاب الذي في مكتبتي يصرخ لي أحيانًا: أنا هنا، تعال إليّ، واطرد عن جلدي الغبار، واذهب بي في رحلات في نزهات..." (ص: 48). فإنّنا نجول مع الكاتب على السياحة والبيئة، وفي بيروت وإهدن، وبين حيوات كثيرة من خلال مقالات تنوعت مواضيعها حتى نهاية الجزء الأول في صفحة 281.
أمّا القسم الثاني الذي حمل عنوان "حتى ينام الراقدون" بقلم شوقي أبي شقرا، فهو عبارة عن تحية وفاء ومحبة لشخصيات ثقافية لبنانية وعربية غابت عن المشهد الثقافي بالجسد، إنما أقامها الشاعر بكلمته التي تنضح نبلًا وعرفان جميل، معددًا مآثر هذه الشخصيات في الفكر والأدب والفنون على أنواعها، أمثال عبد الله العلايلي، فؤاد إفرام البستاني، ميشال بصبوص، فيلمون وهبي، عاصي الرحباني، بدر شاكر السيّاب، محمود درويش، صباح زوين، روز غريّب وغيرهم الكثير، وقد بلغ عدد هذه الشهادات ما يقارب 110 مقالة لصديقات وأصدقاء مرّوا في حياة أبي شقرا. نقتبس من هذا الجزء ما قاله الشاعر في صديقه ميخائيل نعيمه: "وترافقنا، نحن ونعيمه، على مقاعد المدرسة، فكانت سطوره ذلك الأنس والألفة، وأفكاره تقفز إلى أدمغتنا البطيئة لتلاعبنا، وتدغدغ وحدتنا في الأيام الناشفة الوحيدة، حين لا أحد معك، سوى الكاهن المناظر، والعيشة الداخلية، والعزلة الجالسة جزءًا منك على ركبتيك وفي قلبك. وكيف لا يكون نعيمه المفكر البيدري، ولا ينثر عليك القمح المنعش وارتعاشات النظرات، والأبيات البلورية، والمعاني التي تحمل طاقتها الرمزية، وتغذيك في الخفاء، دون أن تدري..." (ص: 360).
في هذا السياق يقول الناشر بختي لـ"ضفة ثالثة" جوابًا على سؤالنا عما يميّز هذا الكتاب عن غيره: "أهمية هذا الكتاب تكمن في الرصد الحقيقي الذي قام به أبي شقرا لكلّ الأعلام الكبار الذي غابوا وكتب عنهم في الصفحة الثقافية للنهار، فكان الصوت الآخر لهذه الأسماء جاعلًا من قلمه صدى صوتهم. والميزة الثانية أنّ القارئ يعثر في تلك النصوص النثرية على واحات وجزر ملونة شعرية، ربما ليؤكد أبي شقرا على شاعريته قبل نثره وقبل أي شيء آخر".
| |
| خلال حفل تسليم مؤسسة أنور سلمان الثقافية الجائزة لعائلة الراحل (زوجة الراحل الثانية من اليسار، والناشر سليمان بختي الأول من اليمين) |
ينتقل القارئ في الاكتشاف منساقًا إلى جاذبية أسلوب رشيق وأنيق ومعرفة مدهشة بالناس والأماكن والقصائد، تغنيها مشاعر الشاعر الذي بدل من أن "ينام الراقدون" أقامهم بشعاع الكلمة، مستعيدًا بذكراهم حنين زمن حافل بالمواهب والوجوه المشرقة المدعوة إلى وليمة الأدب.
الجزء الأخير، وعنوانه "مقتطف لهم ولي"، هو عبارة عن مقالات كتبها آخرون أو كلمات قيلت في المعلم أبي شقرا، مفسرة رموزه الشعرية عبر نماذج من قصائده، متناولة بعض تعابيره القروية المستعملة التي تعيد تشكيل الأرض بلوحاتها الطبيعية، لتكشف هذه الكلمات (أو لتحاول الكشف) عن المقصد من هذه الجمل أو من تلك العبارة، دالة على تفرده الفني المتحرر من القوالب الجاهزة، ولتجتمع كلّها على شغف أبي شقرا الإبداعي، كاسرًا الروتين والرتابة والمألوف خصوصًا في العنونة، وهو كان "سيد العناوين".
تسعة عشر كتابًا، ناهيك عن العديد من المقالات والأبحاث، قدّمت لشوقي أبي شقرا جائزة مادية ومعنوية هي جائزة أنور سلمان للرواد، استلمتها زوجته السيدة حلوة التي قالت عندما سألناها عن معنى التكريم: "شوقي لم يغب، هو موجود بيننا، وأشعر بقوته، لكنني تمنيت أن يرى كتابه هذا. ومن ناحية أخرى، نحن كعائلته وأصدقائه نحاول أن نكمل مسيرته في تشجيع الشباب وفتح الآفاق لهم لتعريفهم بأعمال شوقي أبي شقرا، هو الذي فتح الأبواب للآخرين".
في الختام، وفي حديث خاص لـ"ضفة ثالثة" أوضح الموسيقي نشأت أنور سلمان: "إنّ تكريم شوقي أبي شقرا بجائزة الرواد أتى ليس فقط لأنه أطلق مستويات جديدة ولغة جديدة في الحداثة الشعرية في لبنان والعالم العربي، بل أيضًا ما تركه من أثر ثقافي من خلال الصفحات الثقافية التي أطلقها على مدار نصف قرن، وعبرها ساهم في إطلاق العديد من الشعراء والكتّاب". وتابع سلمان: "بكتابه اليوم "حتى ينام الراقدون نتسامر نحن والفرقد والشمعة ابنة الأرض"، لا أدري إن كان أبي شقرا هو المُكرَّم أم نحن المكرمون بهذه التجربة العميقة".
الاحتفال الذي قدمته الإعلامية ماغي عون، تحدث فيه أيضًا الدكتور جورج كلاس (عميد كلية الإعلام سابقًا في الجامعة اللبنانية)، والبروفيسور لايل أرمسترونغ (رئيس دائرة الدراسات العربية ولغات الشرق الأدنى في الجامعة الأميركية في بيروت)، مشددًا على ضرورة "الحفاظ على الأدب الذي ما زال نافذة على الروح الإنسانية، روح تبدو من نواحٍ عديدة على حافة الضياع".


تحميل المقال التالي...