ثمة تصريح للفنان عادل إمام، تم تداوله، مؤخرًا، عبر منصات التواصل الاجتماعي، يقول فيه إنه رفض أن تدخل ابنته مجال الفن خشية المشاهد الساخنة.
يبدو التصريح، للوهلة الأولى، غريبًا كونه يصدر عن فنان تكاد أعماله الفنية، منذ بدء مسيرته الفنية، لا تخلو من مشاهد ساخنة، وكأنها أصبحت "لازمة" في أعماله، تقدم سواء اقتضاها السياق الدرامي، أو لم يقتضها. بل أن الكثير منها كانت مقحمة، ولا حاجة إليها.
وقد يبرّر البعض التصريح باعتباره تعبيرًا عن عقلية الرجل الشرقي، الذي يرضى لنفسه ما لا يرضاه لأهل بيته. لكن، ماذا إذا كان الأمر غير ذلك، فنحن أمام تصريح صادر عن فنان يعد ابن المهنة، وهو الأكثر دراية بما يحدث وراء الكواليس، وهو الأدرى بمثل هذه المشاهد الساخنة، وإن كانت تقدّم عبر توظيف درامي، أم أنها مفتعلة، والغاية منها إغواء رغبات بعض المشاهدين؟ ماذا لو كان التصريح يوحي أن ثمة تلوثًا ما، إن لم نقل بذاءة في بعض المشاهد، أو، في أحسن الأحوال، مبالغة في بعض المشاهد، أي أنها ليست موظفة في سياق درامي كما يروج، بل إنها تسيء للممثلة التي أدّت الدور على نحو أو آخر؟
أسئلة تبدو مبرّرة في ضوء ما نسمعه، أو نقرأ عنه، من تصريحات لفنانات يحاولن استنكار والتنصل من المشهد الساخن بعد تصويره. ومنهن من تكون نهايتها صعبة، كأن تعتزل الفن، أو تعلن عن التوبة وتتحجب، وغير ذلك من المظاهر التي تدل على أن الممثلة ليست راضية عن ما قدمته، وأنها كانت ضحية رؤية المخرج الذي كان يسوق مثل هذه المشاهد على أنها ضرورة درامية اقتضتها الحاجة إلى مصداقية المشهد.
آخر ما قرأته، في هذا السياق، تصريح لممثلة صاعدة تقول فيه إنها لا تمانع العمل مع المخرج خالد يوسف شرط أن لا تكون لعبة بين يديه، يشكلها كما يشاء، بل أن تقدّم ما يتناسب مع قناعتها. وأغرب ما قرأته أن ثمة مشاهد من هذا النوع تحولت إلى مشاهد حقيقية، أي أن التمثيل تحول إلى ممارسة حميمة حقيقية، وبعض المخرجين استهواهم الأمر، وأكملوا التصوير. مما يعني أن الأمر لم يكن تمثيلًا، بل ثمة من أخذه الانسجام مع المشهد إلى أن تحول إلى حقيقة. مما يطرح السؤال: هل مثل هذه المشاهد ضرورة درامية حقًا، أم هي مقصودة لشريحة معينة من الجمهور تبحث عن المشهد الساخن في الفيلم السينمائي؟ وهل المخرج صادق حين يحاول إقناع الممثلة أن المشهد ضرورة لا يمكن الاستغناء عنه؟ وهل وصل بنا الوعي كمشاهدين أن نتعامل مع مثل هذه المشاهد من دون أن يجنح خيالنا نحو فضاءات أخرى؟ وهل بعض المخرجين على درجة من الوعي الذي يؤهلهم لأن يحدّدوا المشهد إذا كان في سياقه، أم بعيدًا عن السياق. وما الذي يضمن أن المخرج ليس سويًا أخلاقيًا، ويسعى إلى مثل هذه المشاهد لغاية في نفسه؟
قبل الإجابة، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الممثلات هن الأكثر تضرّرًا من هذه المشاهد، فما أن ينتهي العرض حتى يخرج الأمر من يد المخرج ويصبح كل طرف مسؤولًا عن تصرفاته. ونلاحظ أن الممثلة التي توافق على تقديم مشاهد ساخنة تتعرض لانتقادات وسهام الأسئلة، كما حدث مع الممثلة منة شلبي التي لم تسلم من أقلام النقاد بسبب المشاهد الساخنة التي ظهرت بها بفيلم "الساحر"، فاضطرت إلى القول: "إن الشخصية التي أدّيتها بفيلم الساحر ليست أنا". ولدرجة أن أحد الصحافيين وجه سؤالًا للممثلة رولا محمود بسبب المشاهد التي ظهرت بها بفيلم "مواطن ومخبر وحرامي" فقال لها: "ألم تخجلي وأنت تؤدين مثل هذه المشاهد داخل البلاتوه؟" فردت: "وهل يخجل الطبيب أو المحامي وهو يقوم بعمله، وأنا أقوم بعملي وهو التمثيل". فعاد وسألها: "ولكن ألست معي أن بعض المشاهد كانت زائدة عن الحد؟" فترد: "هذه وجهة نظر المخرج وأنا أحترمها، وطالما ارتضيت أن أقدم معه الفيلم، ووافقت من البداية، فعلي أن أنفذ تعليماته، وكما قلت وظيفتي هي التمثيل".
السؤال بصيغة أخرى: إلى أي مدى يخدم المشهد الساخن البعد الدرامي بالفيلم السينمائي؟ وإلى أي حد تشفع الواقعية للمخرج إذا خرج مشهده إلى فضاءات وإيحاءات أخرى؟ وهل يمكن اعتبار بعض المشاهد بمثابة استباحة لأنوثة الممثلة، وتعبّر، بشكل ما، عن أزمة في النظر إلى المرأة العربية بشكل عام، إذ تبدو في أذهان كثيرين مجرد جسد يخلو من الروح.
في السبعينيات، اشتعلت دور السينما في مصر، كما هي الحال في السينما في لبنان، وسورية، بأفلام تتضمن مشاهد تفوق قدرة وعي المشاهد العربي على تصورها: "ذئاب لا تأكل اللحم"-ناهد شريف، "أعظم طفل في العالم"- ميرفت أمين، "بئر الحرمان"- سعاد حسني، وغيرها.
ليس في نيتي استعراض مثل هذه الأفلام، وهي كثيرة، لكن أتوقف عند فيلمين لملاحظة كيف كان يتم التحايل لتمرير مشاهد تهدف إلى غير ما تم الترويج له. إذ تم تقديم الفيلمين بقالب اجتماعي، ثم يتبين عند المشاهدة أن التقديم لا يمت للحقيقة بصلة، أي ثمة فرق بين الصيغة التي يقدم بها الفيلم، وبين المحتوى الذي تضمنه الفيلم. كما حدث مع المخرج صلاح أبو سيف في فيلم "حمام الملاطيلي" (1973).
|
الممثلة شمس البارودي أعلنت عن استعدادها لدفع مبلغ مالي، مهما كان، في مقابل أن يسحب فيلم "حمام الملاطيلي" من الأسواق... |
جاء في الدعاية أن الفيلم يحكي قصة شاب مهجر من الإسماعيلية (محمد العربي) يقيم مع أسرته في الشرقية. يأتي إلى القاهرة من أجل الحصول على وظيفة لاستكمال تعليمه بكلية الحقوق، لكنه يتعثر في كلاهما ويسكن في "حمام الملاطيلي" بسبب انخفاض أجرة المبيت فيه. يحب هذا الشاب فتاة ليل (شمس البارودي) الهاربة من أهلها. تبادله الحب، ثم تحاول التوبة، إلا أن أهلها يقتلونها انتقاما لشرفهم.
وقد وصل الأمر ببعض النقاد، في حينه، إلى اعتبار الفيلم يحكي حال التشظي الذي عاشه المجتمع المصري في أعقاب نكسة 1967.
لكن، في الواقع، كل ما تم إيراده حول الفيلم لم يستوقف المشاهد، بل ما استوقفه المشاهد الساخنة التي جمعت الحبيب مع الحبيبة، تلك المشاهد التي أخذت حيزًا واسعًا من الفيلم، مما تسبّب باعتبار الفيلم من أجرأ الأفلام في تاريخ السينما المصرية في حينه.
لقد أمعن أبو سيف في تفصيل واقعية المشاهد الساخنة التي تضمنها الفيلم، بحيث جاء الفيلم كله عبارة عن مشاهد ساخنة، ولدرجة أن العرق راح يتصبب من جباه بعض المشاهدين. وقد برّر المخرج، يومها، قصده من هذا الإمعان، لتصوير الحرمان والعطش للحب في زمن كانت فيه القاهرة تضطرم تحت نيران هزيمتها في عام 1967، وبلغ التشظي في ناسها مبتغاه. لكن هذا الرأي يفنّد حين نسمع، لاحقًا، أن الممثلة شمس البارودي أعلنت عن استعدادها لدفع مبلغ مالي، مهما كان، في مقابل أن يسحب هذا الفيلم من الأسواق.
أما الفيلم الثاني الذي أستشهد به فهو فيلم "سيدة الأقمار السوداء" للمخرج اللبناني سمير خوري (1971)، فقد قيل إنه يحكي قصة فتاة (ناهد يسري) فقيرة ترغب بالخروج من عالم الفقر عن طريق الزواج من رجل أعمال غني (عادل أدهم) إلا أنها تحب في نفس الوقت الشاب الفقير الذي يدرس الحقوق (حسين فهمي)، تتصاعد الأحداث وتضحي الفتاة بحبها من أجل المال، إلا أنها تتعذب نتيجة بعدها عن الحبيب.
وأيضًا، المشاهد لم يعش هذه الحكاية، بقدر ما تواصل مع مشاهد ساخنة لم تعهدها لا السينما المصرية ولا العربية عمومًا. وثمة واقعة في هذا الفيلم تستدعي الطرح، تفيد أن حسين فهمي حين شاهد العرض الأول للفيلم، اكتشف أن هناك مشاهد إضافية أكثر جرأة قدّمها ممثل بديل، مما دعاه إلى رفع قضية على الشركة المنتجة، مما يدل إلى أي درجة كان المخرج مسكونًا باستباحة جسد ناهد يسري.
وقد كان هذا الفيلم نقطة سوداء في حياة هذه الممثلة تسببت، لاحقًا، في اعتزالها الفن، والتفرغ للتعبد والاستغفار.
ما يستدعي التوقف عنده، أن مثل هذه الأفلام التي تتضمن جرعات زائدة من المشاهد الساخنة من دون وجود مسوغ درامي لها، جاءت في ذروة الكبت الذي يعيشه المشاهد العربي، والذي يدفعه لأن يقبل على مشاهدة مثل هذه الأفلام بحثًا عن لحم رخيص على الشاشة.
أستعيد، في هذا السياق، قصة للقاص الأردني الراحل خليل قنديل، نشرت في الثمانينيات، تحكي عن حي شعبي فقير ضواحي عمان، يتناهى لمسامع بعض المراهقين فيه أن امرأة توفت في الحي، وتتم حاليًا عملية تغسيلها في البيت، ولأن بيوت أهل الحي ليست مستورة تمامًا، يتاح للمراهقين التلصص على عملية تغسيل الجثة، ليكونوا بذلك قد شاهدوا، لأول مرة في حياتهم، جسد امرأة عارية تمامًا.
طبعًا، حال المشاهد العربي من هذه الناحية لم يتغير، حتى يومنا هذا، وإن أتخذ أشكالًا أكثر خطورة للتعبير عن أزمة العلاقة مع المرأة في المجتمعات الشرقية، وإذا كنت أعود إلى أفلام السبعينيات، فإنما للإشارة إلى الحال الذي كان آنذاك، من دون أن يعني ذلك أن المعضلة تقتصر على ذلك العقد، فما زالت هذه المعضلة قائمة بأشكال وطرق مختلفة، وبشكل أكثر تعقيدًا، وهذا ما قد يحتاج إلى مقال آخر أكثر تفصيلًا.
لا يمكنني أن أنهي هذا المقال من دون الإشارة إلى فيلم "عرض غير لائق" أو "عرض بذيء"، وهو فيلم أميركي من إنتاج عام 1993 مقتبس من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب جاك إنغلهارد، إخراج أدريان لين وتمثيل روبرت ريدفورد وديمي مور وودي هارلسون. يحكي تبعات اقتراح جريء لا يمكن تجاهله حيث يعرض علاقة زوجين للاضطراب ويضع حبهما على محك اختبار الحاجة والثقة، وذلك بسبب عرض قيمته مليون دولار من قبل مليونير في مقابل قضاء ليلة واحدة مع الزوجة. اللافت في هذا الفيلم أنه لم يتطرق على الإطلاق إلى تفاصيل ما حدث تلك الليلة، فآخر ما شاهده المشاهد أن المليونير يأخذ الزوجة بطائرة مروحية، من دون أية إشارة إلى ما حدث تلك الليلة، إذ حاكى الفيلم الفكرة المطروحة، وليس تفاصيل تلك الليلة التي لم يتم التوقف عندها بتاتًا. وقد أثار الفيلم، رغم ذلك، الكثير من الجدل، بسبب الفكرة التي تضمنها.
هذا فيلم يوضح كيف يمكن أن تطرح فكرة جريئة من دون استباحة جسد الممثلة على الشاشة، طالما لا توجد حاجة إلى ذلك، أو أن المخرج لم يقصد الوقوف عند تفاصيل ما جرى تلك الليلة، بل قصد أن يرصد انعكاس طرح مثل هذه الفكرة سينمائيًا.
أختم بالقول: المخرج حرّ، في النهاية، في طرح ما يشاء، شرط أن يكون صادقًا مع نفسه، ومع مشاهديه، وأن لا يدس السم في الدسم، على عينك يا تاجر.