إنّ البحث والحفر عن جذور فنّ الكوميكس في التاريخ الإنساني لا يكون إلّا انطلاقًا من تعريفه الذي استقرّ في زمننا الحالي، بأنّه سلسلة من الصور المتتابعة سببيًا، والتي تروي قصّة ما؛ عبر الرسم التشكيلي المدعّم بالكلمات، والتي تؤطّر ببالونات حوارية، إلى جانب المؤثّرات الصوتية المعبَّر عنها بصيغة كتابية. هذا التعريف بعناصره كافة لم يظهر بشكل كلّي ابتداءً، بل بدأ بالرسوم المتتابعة إلى حدّ ما، والتي وجِدت في الكهوف، ككهف (لاسكو 30000 ق.م)، وعلى جدران المعابد الفرعونية والهندية، والأفاريز التي تعلو أعمدة الآثار اليونانية، والصور المنقوشة المتتابعة على عمود (تراجان) في روما، إلى جانب نسيج (بايو) في القرون الوسطى الذي يصوّر غزو النورمانديين لإنكلترا، مضافًا إلى ذلك الأناجيل المصوّرة. وبعد اختراع الطباعة، وظهور الصحف والجرائد وفنّ الكاريكاتير في القرن الثامن والتاسع عشر، بدأت القصص المصوّرة تأخذ معالم قريبة ممّا نعرفه حاليًا، وخاصة البوالين الحوارية. كانت العقود الأولى للقرن العشرين لحظة الولادة الحقيقية لفنّ الكوميكس، ففي فرنسا ظهرت سلسلة (تان تان)، وفي أميركا ظهرت سلسلة الأبطال الخارقين مع (سوبرمان، وبات مان)، وتوالت القصص المصوّرة في الجرائد والمجلّات. ومع انضمام المانغا اليابانية لهذه الموجة الفنية اكتملت عناصر هذا الوافد الجديد، ممّا استدعى أن يُعدّ فنّا قائمًا بذاته، فسمّي: الفنّ التاسع، وكأنّنا مع كائن، متعدّد الوسائط، يمتح من الرسم والمسرح والسينما والسرد عناصره المميّزة.
يقول الرسّام والكاتب سكوت ماكلاود/ Scott McCloud في كتابه: "Understanding Comics: The Invisible Art/ فهم القصص المصورة: الفن غير المرئي" عن الكوميكس: "إنّه يُوضع في وسط ورقي، لكنّه رغم ذلك يحتوي على رسومات مثل اللوحات، ويُنتج تأثيرًا بتتابع تلك الصور مثل السينما، ولأنّ كل هذا العمل موضوع في قالب إبداعي، فقد أدّى إلى اعتباره فنًّا مستقلًا بذاته". ومن هذا العرض المبسّط لعناصر فنّ الكوميكس على يد أحد مبدعيه، سنقاربه من عدّة زوايا تثبت ارتباطه بالفنون والآداب كافة.
العيون الكبيرة للمانغا
القصص المصوّرة في اليابانية، هي الـ (مانغا/ manga)، وهي كلمة مؤلّفة من مقطعين: (مان/ خيالي، أو مرتجل)، و(غا/ صورة)، فالمانغا تعني: الصورة الخيالية. تعدّ المانغا في اليابان نسقًا خاصًا طبع الثقافة اليابانية بميسمه، أمّا فئة المعجبين بها، فهم يمثلون ثقافة (الأوتاكو/ المهووسين)، وللحقيقة فإنّ عشّاقها كذلك، فما يُطبع من كتب المانغا يعدّ ضخمًا جدًا يصل إلى ملايين الكتب، وهي تُمثل 25% من نتاج الثقافة اليابانية، حيث تنقسم إلى أنواع عدة، للصغار والكبار والإناث والذكور، وهي متعدّدة المواضيع، من التاريخي، إلى الخيالات الرومانسية للعشاق، إلى اليومي، فالخيال العلمي، وغير ذلك.
تعود المانغا بجذورها في اليابان إلى القرنين الثاني والثالث عشر ميلادي، فلقد ظهرت إرهاصاتها الأولى في سلسلة من الرسومات كانت تحوي ضفادعًا وأرانبًا جاءت تحت عنوان "مخطوطات الحيوانات المرحة" أنتجها عدد من الفنانين، لكنّها لم تكتسب اسم المانغا، إلّا في القرن الثامن عشر مع كتاب "الفصول الأربعة"، ولقد تأكّد هذا المصطلح في القرن التاسع عشر، ليصبح بعدها المعبّر عن أنماط القصص المصورة. على أثر الحرب العالمية الثانية، والاحتلال الأميركي لليابان، جلب الأميركان قصصهم المصوّرة/ الكوميكس، ممّا أخصب أرض المانغا اليابانية بأمداء أخرى. هذا الهواء الجديد بعث نهضة جديدة في القصص المصوّرة، وطوّر من أساليب الرسّامين والقاصين اليابانيين التي ظهرت في الجرائد والمجلّات، إلى أن أصبح للمانغا جرائدها ومجلّاتها الخاصة. ومع ذلك، لم تتخلّ المانغا اليابانية في نتاجها الأعم الأغلب عن صبغتها الأعز، إذ أنّها تُرسم بلونين: الأبيض والأسود، على عكس القصص المصوّرة الأميركية ذات الألوان المتعدّدة. في تلك الأجواء التي تلت الحرب العالمية الثانية ظهر الرسّام (أوسامو تيزوكا 1928 ــ 1989)، الذي يعدّ أول وأنجح فنان مانغا إلى اليوم في اليابان، إلى جانب آخرين لا يقلّون عنه شأنًا، وهو مبدع العيون الكبيرة لشخصيات رسوم المانغا. قد يتبادر إلى الذهن أنّ أوسامو قد رغب بأن تكون عيون شخصياته كبيرة؛ لربما مثل عيون شعوب القوقازيين الكبيرة والمستديرة في آسيا، أو مثل عيون محتّله الأميركي في أربعينيات القرن الماضي، لكنّ أوسامو استلهم ثيمتها من مسرح (تاكارازوكا ــ مسرح يعتمد على الإناث في عروضه التي تقوم على عالم من الألوان والأحلام والخيالات، ومن أشهر عروض هذا المسرح (وردة فرساي 1974)، الذي طوّر عن إحدى قصص المانغا وقد عرفنا هذه القصة عربيًا عبر المسلسل الكرتوني: (الليدي أوسكار). لقد كانت والدة أوسامو تأخذه لمشاهدة عروض مسرح تاكارازوكا في صغره، فرأى في عروضه المعبّرة حلًّا فنّيًّا للتعبير عن مشاعر الشخصية، فالعيون مرآة الروح، فأمام غياب الأصوات والمؤثّرات في القصة المصوّرة كانت العيون هي وسيلة التعبير عن المشاعر والعواطف والانفعالات والأفكار، كأنّ العيون هي مسرح تاكارازوكا أمام أوسامو، لذلك اختارها لتطبع أسلوب المانغا اليابانية، وكلّ من حذا حذوه. لقد تم نزع أسلحة اليابان الهجومية إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، لكن المانغا تعدّ من القوى الناعمة لليابان التي تغزو بها العالم، حيث شكّلت المانغا إحدى الركائز الأساسية للثقافة اليابانية داخلها وخارجها، فلقد استلهمتها ألعاب الفيديو، وأفلام الأنيميشن، وغير ذلك، فمنذ ثمانينيات القرن المنصرم دخلت المانغا على الثقافة الأوروبية، وتزواجت معها، وخاصة في فرنسا، وهي إحدى روّاد هذا النوع من الفنّ. ولم تسلم أميركا من ذلك. وتعد الآن الهند سوقًا مفتوحة وواعدة لهذه الثقافة التي تنبع من المانغا. ولا يمنع أن نذكر أهم الأعمال التي كان منشؤها المانغا كــ (Astro Boy/ أسترو بوي) التي كتبها ورسمها أوسامو، و(One Piece/ ون بيس)، و(Dragon Ball/ دراغون بول)، على سبيل المثال.
لوحات الكوميكس
البدايات التي تُنسب إليها جذور الكوميكس هي الصور التوضيحية لفكرة سردية ما، أو الكاريكاتير. لكن رسّامي الكوميكس الأوائل لم يكونوا يوقّعون رسومهم، ممّا سبب إخراج صور الكوميكس عن مفهوم العمل الفنّي، كما نجده في اللوحات، والذي نظّر له علم الجمال كثيرًا. تطوّر الكوميكس، وارتياده مناطق جديدة، دفع الفنانين إلى إظهار أسلوبهم المميّز بحيث أصبحنا أمام بصمات فنية لكلّ رسّام، ممّا سمح للقارئ لمجلات الكوميكس أن يتعرّف على الفنان من خلال خطوطه وألوانه. وقد ساعد في ذلك ترأس (ستان لي) الكاتب والمحرّر للقصص المصوّرة الأميركية لشركة مارفل، فأصبحنا معه أمام شخصيات ذات أبعاد نفسية عميقة، وخاصة بالنسبة للأبطال المشهورين، كسوبرمان، وبات مان، وفلاش، وغيرهم، بالإضافة إلى إطلاق الحرية للرسّامين في السيطرة المطلقة على خطوطهم وألوانهم، وأيضًا للكتّاب في تناول أي موضوع يرونه مناسبًا. من هذا الواقع الجديد الذي تكرّس منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأ عدد من رسامي الكوميكس يمتحون من الأصول الفنية لأهم مدارس الرسم العالمية، كسلفادور دالي بالنسبة للسريالية، وغوستاف كوربيه للواقعية، وموريتس كورنيليس إيشر، الذي استوحى من علم الرياضيات ليرسم لوحاته. ويعد رسّام القصص المصوّرة (Jim Steranko/ جيم ستيرانكو) صاحب شعار السلسلة المشهورة (X-Men) من أدخل النمط السريالي إلى عالم الكوميكس بشكل فعلي، حيث نجد رسومه أقرب إلى الأحلام، أو ذوبان الزمكان في لوحات دالي، وقد كان هذا مناسبًا جدًا لتصوير العوالم المتوازية في القصص المصوّرة. أما الرسّام (Jae Lee/ جاي لي) فيعيدنا إلى عصر النهضة، ومثلثها الذهبي الذي كان يحكم عناصر اللوحة، فمن خلال وضع الشخصيات الرئيسية داخل مثلث متخيّل، مع الحفاظ على المنطقة المحيطة به فاتحة الألوان وأقل ازدحامًا بالشخصيات، تمكّن الفنانون في عصر النهضة من رسم شخصيات متعدّدة في المشهد، مع تجنّب الفوضى. ويتبع جاي لي المبدأ نفسه، لا سيما في أغلفة باتمان، وسوبرمان، وولفرين، حيث تحظى كل شخصية بالقدر المناسب من الاهتمام، فعينا القارئ تعرفان تمامًا أين تركّزان.
بينما يذهب Alex Ross/ أليكس روس ليعيد إنتاج أسلوب غوستاف كوربيه في خمسينيات القرن التاسع عشر، حيث يُحاكي الطبيعة كما هي، لا أشكال مبالغًا فيها، بل مشاهد وشخصياتٌ أقرب إلى الواقع، مُجسّدةٌ في ضوءٍ طبيعي. إلى جانب ذلك، يستلهم روس من الواقعية المثالية اليونانية رسوم شخصيات الكوميكس، وكأنّنا أمام النحت اليوناني المعروف بواقعيته المثالية، أو تصويره للشكل الإنساني بشكل مثالي، وبهذا الأسلوب منح شخصيات أبطال الكوميكس قوامًا إلهيًا، وعادة ما كان يصوّرها في نطاق رؤيةٍ مُنخفض، ممّا يمنح الناظر شعورًا بأنّه ينظر إلى شيءٍ ضخمٍ وقوي. في حين ذهب Frank Miller/ فرانك ميلر في قصة مدينة الخطيئة/ Sin City إلى تقديم البساطة في الخطوط، وغنى اللونين الأبيض والأسود مذكرًا بالزمن الذهبي للسينما عندما كانت بالأسود والأبيض.
ولم يكن رسّامو الكوميكس العرب بعيدين عن ذلك، وإذا كان لنا أن نختار منهم، فليكن الفنّان السوري ممتاز البحرة، سواء برسومه في كتب التعليم في سورية، أو في مجلة "سامر"، فقد كانت غنية جدًا، وأقرب إلى اللوحات حية، حيث كان لها تأثير مهمّ على توسيع عقول الأطفال وخيالاتهم.
السرد المصوّر
يُقال بأنّ الصورة الواحدة بألف كلمة، لكنّ كلمة البحر ــ على سبيل المثال ــ تحوي ألف ألف صورة واقعية ومتخيّلة عنه. هذه المنافسة بين الكلمة والصورة كانت دومًا تنتهي لصالح الكلمة. وللحقيقة، الكلمة هي من حملت الثقافة البشرية لا الصورة، فالصورة، أكانت نحتًا، أو رسمًا، أو نقشًا، كان لها دور مساعد، لا أكثر، يأخذ شكل التفسير، أو التوضيح، إلّا أنّه مع القصص المصوّرة تصدّرت الصورة على الكلمة، في التعبير عن الثقافة البشرية، وأصبحت حاملًا سرديًا للتخييل الأدبي. ومع ذلك، لم يقرّ نقّاد الأدب للقصص المصوّرة بأن تكون حاملًا سرديًا له الإمكانيات التي تتوفّر للكلمة. لا ريب أنّ المجالات التي تناولتها القصص المصوّرة ساهمت في هذا التقييم السلبي، فسلاسل الأبطال الخارقين الذين ظهروا قبيل الحرب العالمية الثانية التي ساهمت في ذيوع وانتشار القصص المصورة لم تحمل مضامين إنسانية عميقة، كما تفعل الروايات والقصص والشعر، سواء الموجّهة إلى الصغار، أو الكبار. لقد ظلّ الحال على هذا الأمر إلى أن جاءت سلسلة Maus: A Survivor's Tale/ فأر: حكاية ناج، التي نشرت على حلقات من عام 1980 إلى 1991 لتقلب الحكم السلبي إلى حكم إيجابي بعد فوزها بجائزة البوليتزر المرموقة. لقد استلهم رسام القصص المصورة Art Spiegelman/ آرت سبيجلمان قصة والده الذي نجا من الهولوكوست مصورًا اليهود كفئران، فيما الألمان والبولنديين كقطط وخنازير، عبر صفحات الرواية المصوّرة. كانت هذه الرواية تأكيدًا حاسمًا للبدايات الخجولة لدخول القصص المصوّرة في مجال النقد الأدبي بشكل حقيقي، وخاصة إثر فوزها بالجائزة المذكورة.
هذا على الصعيد العالمي، أمّا على الصعيد العربي، فقد كانت رواية "مترو" (2008) للروائي المصري مجدي الشافعي هي أول رواية عربية مصوّرة للكبار، وتدور قصتها عن شاب يقرّر سرقة أحد البنوك، لتبدأ بعدها سلسلة أحداث تشتبك مع السياسي والاجتماعي بقوة عبر استخدام لغة الشارع وألفاظه الجريئة. حقّقت الرواية شهرة واسعت، وترجمت إلى لغات عديدة، وحوكم الشافعي بسببها. هكذا كانت رواية مترو فاتحة ليقتحم السرد المصوّر عوالم التخييل الأدبي بقوة في الوطن العربي.
نستطيع القول، في نهاية هذا المقال، عن فنّ الكوميكس/ القصص المصوّرة، بأنّه فنّ متعدّد الوسائط، له الميزة على جمع المتباعد والمختلف بين أنواع الفنون والآداب على صفحات مرسومة متسلسلة.
لم تعد الفنون والآداب في صراع أيهما أكثر تعبيرًا عن الجمال، بل أصبحت في حوار خلّاق في فنّ الكوميكس، وبذلك فتح الفنّ التاسع بابًا جديدًا سيمنح الإبداع الإنساني عوالم موازية مدهشة تتوافق مع طروحات علماء الكوانتا عن وجود عوالم موازية لعالمنا هذا.
* كاتب من سورية.