}

منذ احتجاج حانوخ ليفين: أنتِ وأنا والحرب القادمة

جورج كعدي جورج كعدي 7 مايو 2025
استعادات منذ احتجاج حانوخ ليفين: أنتِ وأنا والحرب القادمة
حانوخ ليفين



بين يديّ دراسة قيّمة للباحث والدارس الفلسطينيّ، إبن عكا، أنطوان شلحت، عنوانها "خداع الذات: المسرح الإسرائيلي وحرب 1967 ومختارات من أعمال حانوخ ليفين"، صدرت عن مركز مدار الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، في رام الله، عام 2007. وكم كانت فائدتي كبيرة ودهشتي أكبر لدى اطلاعي على محطات وملامح من المسرح العبريّ في الكيان الصهيونيّ، وبخاصة ما يُسمّى "مسرح الاحتجاج" مع المسرحيّ الإسرائيليّ الهجّاء حانوخ ليفين الذي أَنْسُجُ انطباعي حوله هنا، انطلاقًا من معلومات غزيرة تضمنتها الدراسة ومن ترجمة الباحث شلحت لبعض مسرحيات ليفين التي تضيء على أمور جوهرية في المجتمع الإسرائيلي، أهمّها في تقديري الخاص مسألة تقبّل الموت أو عدم تقبّله في حروب "إسرائيل" المتتالية وغير المنتهية.

يتناول الباحث فيما يتناوله، وهو كثير، مسرحية "ملكة الحمّام"، دراسةً وترجمةً، كنموذج لما تمّ التواضع على تسميته بـ"مسرح الاحتجاج على جنون الواقع الإسرائيلي"، المستمرّ كما نرى في هذه الساعة، جنونًا واحتجاجًا، بسبب حرب غزة الإبادية. ورغم أن عرض مسرحية "ملكة الحمّام" يعود إلى عام 1970، إلّا أنها تصلح تمامًا لليوم الإسرائيلي الراهن الذي لم يتبدّل منذ نشأة الكيان وحروبه التي لا تتوقف مع محيطه، ومع المقاومة الفلسطينية الساعية إلى التحرّر واسترداد الحق. قدّم ليفين عامذاك مسرحيته الغنائية هذه التي كان لها وقع أشبه بالقنبلة، إذ أثارت من الضجة، أو من السخط، ما لم تثره أي مسرحية إسرائيلية أخرى. وكان زمن العرض قريبًا على حرب حزيران/ يونيو 1967، وكان الجو العام في الكيان مشبعًا بغسل دماغ عسكري شوفيني بشكل لا مثيل له. وبعد بضعة عروض على خشبة مسرح "الكاميري" في "تل أبيب" انفجر غضب جهات رسمية وشعبية على المسرحية وبدأت حملة منظمة ضدّها من وزراء وجنرالات وصحف وأحزاب، بدعم من الوسائل الحكومية، فأوقفت العروض بعد تسعة عشر عرضًا فقط، وكان إسقاط المسرحية خاتمةً لاتجاه "مسرح الاحتجاج" الذي كان حانوخ ليفين قد قدّم في إطاره عملين سابقين هما "أنتِ وأنا والحرب القادمة" و"كتشوب". لكن منع "ملكة الحمّام" أظهر، بحسب الباحث شلحت، ضيق صدر "الديمقراطية الإسرائيلية"، فالكاتب والمخرج ليفين لم يفعل في أعماله إلّا مناصرة السلام ومناهضة العسكرة، فالحرب كانت في نظره إلغاء لإنسانية الإنسان ولا سمات بطولة فيها، ولا حضور فيها للشعب والوطن والتاريخ، إنّما فقط للقتل والموت والثكل، وإنّ أي مظهر قوميّ أو وطنيّ هو مظهر عسكريّ قبل أي شيء، علاوة على كونه تعبيرًا عن إسقاط إنسانية الإنسان باسم شعارات فارغة وأساطير فاقدة لأي معنى ودلالة. وبذا فإنّ ليفين، وخلافًا لجميع المسرحيين الإسرائيليين الذين سبقوه أو عاصروه، أعلن القطيعة التامة مع "الإجماع" جاعلًا مسرحه أداةً للنقد السياسي الذي يعرّي الخداع الذاتيّ لدى المجتمع الإسرائيلي، ولذلك حاولت مسرحيته "ملكة الحمّام" تسخيف وتعرية "الزهو القومي الزائد للإسرائيليين وتغاضيهم عن (الآخر) العربي"، بحسب قول الباحث والأستاذ الجامعي دان أوريان. بعد ثلاثة أعوام من انتصار الصهيونية العسكري (في حرب 1967) وزيادة عدد العرب الخاضعين للحكم الإسرائيلي، يقوّض حانوخ ليفين هدوء ورضى الجمهور الإسرائيلي. وقد ترك مسرح ليفين بصمات عميقة في المجتمع الإسرائيلي، ففي جميع نصوصه، الساخرة والدرامية، شخّص هذا المجتمع ووصفه في تفاصيله الدقيقة بما حوت من فظاظة وانغلاق وعنف عام وخاص، ومن جَوْرٍ ونهمٍ وانعدام تسامح ووحشية. فقد كتب عن أشخاص يستمرئون الاستعلاء ويتلذّذون بإلحاق الأذى، لكون جبلتهم متشكلة من هذه الطينة، ويعشقون تضليل محاوريهم ومساومتهم من أجل المساومة التي هي بمثابة "مذاق الكينونة". وربما أهم من ذلك كله أنّه أماط اللثام عن العوامل الأشدّ حطّةً وراء هذه "النوازع البشرية" في مواصفاتها الإسرائيلية، من زاوية شديدة الخصوصية هي عدم مراعاة تخليص الشخوص والمشاهدين عمومًا من "سمة التريّث"، المشتهاة لدى الشعوب الطبيعية. وهكذا تتبدى شخوص ليفين، وفي خاتمة المطاف شخوص المجتمع الذي شاهدها، بوصفها شخصيات عديمة الحياء، متباهية، بل ومتطوّسة بتلوّنها وريائها، بتناقضاتها ونقائصها.

مشهد من "ملكة الحمّام"(أعيد تمثيلها عام 2023- ريدي روبنشتاين©)


كلّ ما ورد هو انتقاء من دراسة الباحث شلحت لإعادة التعريف والتذكير بالمسرحيّ حانوخ ليفين الذي توفي بمرض السرطان عام 1999، والذي استوقفني بشدّة في بعض نصوصه المترجمة، كتتمةٍ للبحث، هاجس الموت لديه الذي هو هاجس كل يهوديّ في العقل الواعي والعقل الباطنيّ، فلا رجاء في المعتقد اليهودي بملكوت آخر غير الملكوت الأرضيّ، إذ حين يموت الإنسان اليهوديّ فإنه يموت جسدًا وروحًا، ولهذا السبب فالحياة الدنيا عزيزة جدًا لديه لكونه لا يملك في وعيه إلّا حياة واحدة يحياها، ومن هنا تعلّق اليهوديّ بالأرض والمال والمقتنيات المادية، فالجانب الروحانيّ ثانويّ في معتقده ويقينه وليس أولوية كما في الديانات التوحيدية الأخرى التي تؤمن بحياة ما بعد الموت وبملكوت سماويّ، كما في المسيحية والإسلام وغيرهما. ولذلك نرى أنّ شهداء المقاومات التي تحارب الجيش الصهيونيّ، من المقاومة الفلسطينية إلى اللبنانية فالعراقية فغيرها، تؤمن بالشهادة ولا تخشى الموت بل تحتفي به على ما نرى، بخاصة لدى فئات من مقاتلي المقاومتين الفلسطينية والشيعية (حزب الله) ومجتمعاتهم وبيئاتهم الدينية والحزبية، فلا مظاهر تفجّع وبكاء على الشهيد كالتي نراها في مراسم دفن القتلى من الجيش الإسرائيلي حيث يتبدّى الموت فجيعةً كبرى لذوي القتيل وأقاربه ورفاقه المنتحبين حول نعشه. لا مفهوم لـ"الشهادة" و"الشهيد" لدى اليهود والإسرائيليين، فبخسارتهم الحياة الدنيا خسارة لكلّ شيء، ولا تعويض ولا رجاء ولا وعد بحياة أبدية عند الله، على ما يؤمن المسلمون خصوصًا حين يندفعون على طريق الفداء والشهادة.

يؤكد ليفين في نصوصه المسرحية على رفضه للموت في الحروب التي تخوضها بلاده ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، غير مؤمنٍ بأنّ الأمر يستحقّ، ولا ما يسمّى "دولة اليهود" أو "إسرائيل"، ولا المعتقد الدينيّ الخرافيّ المتعلّق بالوعد "الإلهي" بالأرض، ولا بالمقدّس، ولا بشيء. لا شيء بالفعل في رأي ليفين يستحقّ التضحية بالذات وبالحياة من أجله، وتلك "ثيمة" مركزية في جميع نصوصه المسرحية إلى حدّ التملّك الهوسيّ والهاجس غير المبارح، تضاف إليه نزعته السلميّة ونبذه للعنف الوحشيّ الممارس ضدّ الإنسان العربيّ، وإحساسه بالحق والعدالة وإيمانه في قرارة نفسه بأنّ قومه هم محتلّون غاصبون للأرض ولا يملكون حقًا مطلقًا فيها، ولذلك هم ظالمون ومتوحّشون وفوق ذلك يؤلمهم موت جنودهم في الحروب المتتالية، فلِمَ كل ذلك؟!

قد تكون كلمات أغنية "حين تقف بجانب قبري، يا والدي العزيز"، لليفين، مثلًا أوّل على ما نقول: "أبي العزيز،/ حين تقف بجانب قبري/ عجوزًا ومتعبًا ووحيدًا للغاية/ وحين ترى كيف يدفنون جسدي في التراب/ بينما تقف فوقي، يا أبي/ لا تقف عندئذٍ باعتزاز كبير/ ولا ترفع هامتك، يا أبي/ أصبحنا الآن لحمًا في مواجهة لحم/ وهذا هو وقت البكاء يا أبي/ إذن دع عينيك تبكيان عنّي/ ولا تصمت احترامًا لي/ فالشيء الذي كان أكثر أهمية من الاحترام/ ملقى الآن  تحت رجليك، يا أبي/ لا تقل إنك قدّمت تضحية/ لأن الذي ضحّى هو أنا/ ولا تتفوّه بالكلمات السامية/ لأنني أصبحت منخفضًا جدًا يا أبي/ حين تقف بجانب قبري، يا أبي العزيز/ عجوزًا ومتعبًا ووحيدًا للغاية/ وحين ترى كيف يدفنون جسدي في التراب/ أُطلب مني عندئذٍ الصفح، يا أبي".

يعير ليفين صوته للجنديّ القتيل، هاجيًا كلّ معاني "التضحية" و"الاعتزاز" و"سموّ الكلمات"، داعيًا أباه إلى عدم الوقوف باعتزاز لموت ولده في الحرب، فلا شيء في عرف من أضحى جثة تحت التراب يدعو للاعتزاز، ولا أن يرفع هامته، بل أن يبكي لأن "هذا هو وقت البكاء" على مَنْ هو "أهم من الاحترام" الملقى في حفرة ترابية تحت أقدام الأحياء، ناهيًا والده عن القول إنّه قدّم "تضحية" (على ما يفعل ذوو الشهداء في بيئة المقاومة حين يفاخرون بشهادة أبنائهم) فبالنسبة إلى العسكري اليهودي الميت مَن "ضحّى" هو نفسه وليس الأب أو أيّ شخص آخر، ولا أهمية للكلمات السامية، يقول، لأنه أصبح منخفضًا جدًا... في جوف التربة، سائلًا أباه أن يطلب هو الصفح من ابنه الميت، لا العكس.

في نصّ الكباريه الساخر عن الحرب "أنتِ وأنا والحرب القادمة" الذي عرض في آب/ أغسطس 1968، صورة استعاريّة بديعة، عميقة الدلالات، من خلال مونولوغ يحمل عنوان "مراسيم النصر لحرب الدقائق الـ11" يلقيه جنرال يصعد إلى منصة ساحة المراسيم ويخطب قائلًا: "أيها الجنود وقادة اللواء، إخوتي أبطال السلاح، أبنائي، آبائي! قبل 11 دقيقة خرجنا، كتفًا على كتف، وبقلب واحد، لمواجهة العدو. خرجنا كي ندافع عن سيادة دولتنا، عن ميراثنا الوطني، عن حياة أعزائنا في الجبهة الداخلية وعن حياتنا نحن. واجهنا عدوًا كبيرًا أشدّ ضخامة منّا وقدرنا عليه بفضل الروح التي تنبض فينا. لقد نجحنا، في ظرف 11 دقيقة، في أن نبيد، أن نصفّي، نبدّد، ندوس، نحطّم، نشظّي، نجزّئ ونسحق أعداءنا. صحيح أن المعركة لم تكن سهلة. ولقد دفعنا ثمنًا دمويًا باهظًا. لكن بمجرّد أن اصطدمنا بالموت فقد تربّصنا به الدوائر، بششنا في وجهه، بصقنا على محصده ولوّثنا ثقوب جمجمته حتى نشفت فيه أمه. حقًا، كانت المعركة شديدة الوطأة، صعبة وعنيدة. قبل 11 دقيقة خرجتم من هنا، لواءً كاملًا مدججًا بكامل عدته وسلاحه، ولم تعودوا بعد. لم يعد منكم أحد وهاأنذا واقف الآن وأتكلم إلى ساحة فارغة. (فترة صمت قصيرة). فارغة. (يجول ببصره باحثًا عن أحد في الساحة ويحاول أن يواصل خطابه) جنود... (فترة صمت قصيرة) جنود... (يتوقف للحظة لا يدري ماذا يفعل، وفجأة يرفع بصره نحو السماء) جنود! (يؤدي التحية العسكرية)".

مشهد من مسرحية "أنتِ وأنا والحرب القادمة" عام 1968


ذكّرني هذا المشهد المسرحيّ بآخر جاء زمنيًا بعده، شبيه به، في فيلم المخرج الياباني المعلّم أكيرا كوروساوا "أحلام" (1990) المؤلف من عدة أحلام مستقلة بينها واحد عن ضابط يلقي خطابًا مماثلًا أمام كتيبة جنود موتى عادوا من الموت عبر النفق لسماع خطابه الذي كان، خلافًا لخطاب جنرال ليفين، خطاب ندم وطلب مغفرة من الجنود الموتى. بل استدعى لديّ نصّ ليفين خطب القادة الصهاينة، من بن غوريون إلى نتنياهو، وفيها التباهي بـ"شجاعة" الآخرين وموتهم في المعركة، وفيها مفردات العنجهية الوحشية التي تنبّه إليها ليفين بذكاء مثل "أبدنا" و"صفّينا" و"دسنا" و"حطمنا" و"سحقنا" إلى ما هنالك من ألفاظ سمعناها في كل مرحلة الإبادة المستمرّة في غزة على لسان السفّاح نتنياهو الذي يتكلم يوميًا عن "سحق حماس" و"تدمير غزة"، بينما يتكفّل بن غفير وسموتريتش وآخرون بالدعوة إلى "تصفية" الشعب الفلسطيني بأكمله في غزة والضفة وكل مكان. إنه الخطاب الخشبي، المجرم، نفسه، الذي يضحّي بالجنود الإسرائيليين تحت الشعارات الزائفة التي تدّعي عدم خشية الموت، فيما أبناء القادة ينعمون على شواطئ المنتجعات الأميركية مثل إبن نتنياهو.

سخرية ليفين الحادة تنتقل من مشهد إلى آخر، ومن استعارة إلى أخرى، في هجاءٍ شديد القسوة والمرارة، ليس للسلطة والقيادة العسكرية والدينية فحسب، بل أيضًا للمجتمع وجمهور المجتمع الإسرائيلي نفسه، سواء في المشاهد الحوارية الساخرة جدًا، أو في كلمات الأغاني التي يكتبها ليفين خصيصًا لعروضه. في نصّ "مقامة الجنرال بُومْ" ينتقد ليفين بعنف تذلّل الناس أمام القادة العسكريين، وهنا أمام "جنرال بُومْ": "نبوس قفاك، جنرال بوم/ أنّه لولاك ما كنا نبوس الآن شيئًا/ لأنّه بدونك كانت نساؤنا أرامل، جنرال بوم/ لأنه بدونك كان أبناؤنا أيتامًا، جنرال بوم/ نساؤنا شاكرات لك، جنرال بوم/ وأولادنا شاكرون لك أيضًا، جنرال بوم/ إنهم ينادونك بـ يا أبي ويا عمي، جنرال بوم/ إنهم يقصّون صورتك من أسبوعيات السينما، جنرال بوم/ بناتنا يُغمى عليهن عندما يرينك، جنرال بوم/ كل من يراك يغمى عليه، جنرال بوم/ (...)" إلخ.

بالعودة إلى ثيمة الموت نقرأ في أغنية "وفي صباح رائع": "وفي صباح رائع/ سنبكي موتهم مرة أخرى/ الأم تبكي ابنها والعروس تبكي عريسها/ وستكون هناك عصافير/ وأزاهير على قبرهم/ ونساء بالسواد يُغمى عليهن هنا وهناك/ وبعد ذلك نغادر/ ونبقيهم هناك/ لأن الأموات يقضون موتهم لوحدهم/ في صباح رائع/ سنبكي موتهم مرة أخرى/ وكأننا لم نتعلم شيئًا أبدًا".

مفتاح هذا النص جملته الأخيرة: "لم نتعلّم شيئًا أبدًا". تتكرّر حروب "إسرائيل" بهزائمها الواقعية و"انتصاراتها" الوهمية وبالأعداد الكبيرة لقتلى جنودها ولا تتعلّم شيئًا، لأن حروبها - وهذا يقين ليفين وخطابه- بلا انتهاء، والموت لليهود، مرة أخرى، أمر رهيب، مخيف، إذ لا عزاء بعده ولا رجاء، ومن هنا التضاد الذي يستهلّ به ليفين نصّ أغنيته بين صباح رائع وقبور يجثم فوقها الأحياء يبكون موتاهم ويضعون باقات الزهر وتحطّ فوق ترابها العصافير. وبعد ذلك يغادر الأحياء ويبقى الأموات وحيدين في قبورهم.

وهذا نصّ "الحرب الأخيرة" يصبّ في المعنى عينه لرفض الحرب والموت: "مرة قلنا نحن أيضًا:/ حرب واحدة أخرى/ حرب واحدة أخرى، قلنا/ فقط حرب واحدة/ كانت حربٌ واحدة/ وكانت حربٌ ثانية/ حرب واحدة أخرى، قلنا/ فقط حرب واحدة/ الحرب الأخيرة، الحرب الأخيرة، لأننا لم نعد قادرين/ إذن حرب أخيرة أخرى بالتأكيد، والذي يموت فيها - يعرف لماذا مات/ ومن يحيا فيها – يحيا بعدها إلى الأبد/ إذن حرب واحدة أخرى فقط/ مرة قلنا نحن أيضًا:/ حرب واحدة أخرى/ وعندها نستطيع أن نحيا، قلنا/ هناك الكثير مما نفعله/ هنالك الكثير مما نفعله/ عدا حروب أخيرة/ حرب واحدة أخرى، قلنا/ فقط حرب واحدة/ الحرب الأخيرة، الحرب الأخيرة/ لأننا لم نعد قادرين، إذن حرب أخيرة أخرى بالتأكيد، والذي يموت فيها - يعرف لماذا مات، ومن يحيا فيها يحيا بعدها إلى الأبد/ إذن حرب واحدة أخرى فقط/ مرة قلنا نحن أيضًا:/ حرب واحدة أخرى./ اليوم نحن نعرف بشكل أكيد:/ ليست حربًا واحدة. ليست حربًا واحدة/ ولا حربان/ اليوم نحن نعرف بشكل أكيد، ليست هناك حرب أخيرة (...)".

ليست هناك حرب أخيرة. هذه حقيقة دامغة أبصرها المسرحيّ ليفين وتتثبت اليوم أكثر فأكثر مع حروب "إسرائيل" الأخيرة وإباداتها ومئات بل آلاف قتلاها ممّن يضيق بهم تراب أرض فلسطين. في كل مرة، تبعًا لنص ليفين، يعد هذا المجتمع المأزوم نفسه بأن الحرب التي يخوضها هي الأخيرة ليتبيّن بعد فترة تقصر أو تطول أنها ليست كذلك. مجتمع مصطنع، زائف، غاصب ومحتلّ، يعيش على "خداع الذات" بلا أفق أو نهاية... حتى يزول وتتوقف أحلامه ورهاناته إلى الأبد.

لا يمكن ختامًا القفز فوق نصّ أغنية "أنتِ وأنا والحرب القادمة" الأبلغ تعبيرًا وفيه: "عندما نتنزه، نكون ثلاثة-/ أنتِ وأنا والحرب القادمة/ عندما ننام، نكون ثلاثة -/ أنتِ وأنا والحرب القادمة/ أنتِ وأنا والحرب القادمة/ والحرب التي تهلّ علينا بالخير/ أنتِ وأنا والحرب القادمة/ التي ستبتكر راحة صحيحة/ عندما نبتسم في لحظة حب/ تبتسم معنا الحرب القادمة/ عندما ننتظر في غرفة الولادة/ تنتظر معنا الحرب القادمة (...) عندما يطرقون الباب نكون ثلاثة -/ أنتِ وأنا والحرب القادمة/ وعندما ينتهي ذلك، نكون مرة أخرى ثلاثة -/ الحرب القادمة، أنتِ والصورة (...)".

المعنى واضح جدًا، كلّما التقى إسرائيليان، أو اقترنا، أو تحابّا، أو عاشا معًا، تكون الحرب ثالثهما. مجتمع الحرب يعيش دائمًا وباستمرار في الحرب، ينام ويصحو على وقعها، يتنفّسها، تعشّش في دماغه، تزوره في نومه وصحوه، تأكل معه في صحنه، تلازمه أنّى تحرّك ومضى. يقول ليفين إن الحرب تنتهي بصورة ميت تحلّ مكان صاحبها في حياة الشريك. تبقى الزوجة مع صورة زوجها الذي أضحى في التراب.

هذه الدراسة الشاملة والعميقة لواقع المسرح الإسرائيلي، الممتثل لسلطة الرقابة، بل مجموعة الرقابات في المجتمع الصهيوني الذي يدعي حرية التعبير كما في الغرب الذي يحسب نفسه منه وتابعًا له حضاريًا وثقافيًا، ليتها تنتشر على نطاق قارئيّ واسع، ولِمَ لا بشكل مفتوح على الإنترنت، لتعزيز الوعي العربيّ وزيادة معرفته بمجتمع أعدائه وواقعه غير المعلن.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

      

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.