يُشار في كثير من الأحيان إلى أن التجربة الميدانية للمبدع الروائي والقصصي مطلوبة، كما يُشار إلى أنّ التجربة المعرفية مطلوبة هي أيضًا. بينما يرى النقاد أن التجربتين مطلوبتان، فهما تعززان النصوص بالقوة الفنية والصورة الأدبية المعرفية التي ينبغي أن يكون النص عليها في مواجهة القارئ والناقد، بما يحمله من تجربتين تضاعفان المبدأ العلائقي الثقافي في المعرفة والتجربة عمومًا، وترسمان إطاره الشمولي وهو يخرج من دائرة المؤلف إلى دائرة قارئ متنوع الاهتمامات، من منطلق أن نصوص ما بعد الحداثة الأدبية هي نصوص معرفية، أو هكذا يجب أن تكون عليه.
وإذا ما سلّمنا بأن التجربة المعرفية ضرورية وواجبة كإحدى مفاتيح التحليل والرسم والاستنتاج، فليست كل تجربة ميدانية تجلب الحظ والرؤيا والرؤية إلى كاتبها، إذ لا توجد حدود لتلك التجربة، ولا بإمكان الميداني أن يرى كل شيء بقصدية مسبقة. فالميدان، حتى لو كان ثابتًا، فإن حركة الزمن تجري عليه، فتحرّك ما بداخله من بشر، فهم يؤثثون المكان ويسبغون عليه سماتهم المختلفة، ويملؤون جسمه بثقافاتهم الشعبية وتقاليدهم وعاداتهم، بل يغيرونه بمقتضيات الظروف الاجتماعية أو السياسية. لذلك، فالتجربة على الأغلب ستكون مكانية لا زمنية، فالزمن يجري في تضاعيف المكان كيفما تشكّل، وربما يحدد قيمته التاريخية والشعبية والوظيفية. وبالتالي، فجمال التجربة الميدانية يقترن بالقراءة التاريخية والشعبية والفولكلورية، كمفصل أساسي من أساسيات توثيقه الفني.
أمامنا تجربة سردية عن كلب يجوب المدينة المكتظة بأمكنتها المتعددة. الزمن لا يتغير، وهذا ليس ضروريًا في رحاب رواية غربية قديمة أرادت رصد أمكنة مدينية مزدحمة من عيني كلب محلّي جوّال. وبما أن الحيوانات لا تسرد وقائعها اليومية، كونها غير ناطقة وليس لها أصابع مستقيمة قادرة على أن تكتب، ولا تفكر لأنها بلا عقل بشري، لذا ينعدم فيها التفكير والخيال، فينعدم معهما كل شيء. وبالتالي، فوجود الحيوان في الطبيعة يفترق عن وجود الإنسان فيها، لغةً وتكوينًا وتعبيرًا وشكلًا. مع أن بعض الحيوانات، ومنها الكلاب، قابلة للتدريب وتنمية مهاراتها وتعديل سلوكياتها وتنفيذ مهمات مختلفة تُسند إليها. ولكن، مع كل الجهد البشري التدريبي لبعضها، فإن أَنسَنَتَها غير ناجحة كليًا، بل مستحيلة، مهما امتلكت من "خبرات تلقينية" ومهارات تتفوق بها على حيواناتٍ أخرى. فقد تكون القطط والكلاب وبعض القرود والطيور تستجيب لتعليمات وإشارات معينة وتمثّلها، لكنها لن تكون بمنزلة بشرية. إن فقدان الحيوانات للآلة البيولوجية الحنجرية يمنعها من أن تتكلم ويعيقها صوتيًا.
الأوتار الصوتية في الشمبانزي، وإن كانت تشبه أوتار الإنسان وتساعده على إطلاق بعض الأصوات القليلة، لكنه من المستحيل أن يتحدث (فحنجرة الإنسان تقع في مكان منخفض، الأمر الذي يجعل الحُجَيرة الصوتية أوسع بكثير من الحُجَيرة الموجودة عند القرود، واللسان الموجود في الفم يمتد عند القرود إلى داخل الحلق).
في البر، يمكن للحيوانات أن تتعامل مع بعضها بالشم لتحديد الأمكنة المسموح بها، ومنافذ الخطر المتوقعة. الروائح جاذبة لها للتناسل، فالحاسة الشمية قوية لديها. الحركات المتسارعة لذيول بعض الحيوانات توصل رسالة ذبذبية بوجود خطر. قد تستعمل أصواتًا متعددة لتنبيه بني جنسها من أي شيء لا يُشعرها بالأمان، لكنها ليست أصواتًا حلقية كما عند الإنسان. وتلك النداءات التحذيرية شبيهة بالذبذبات العاجلة التي تستشعر الأخطار وتنشرها بين مجموعاتها القريبة. وحتى أصوات الحيوانات الضخمة (الأسد - الفيل - الحوت - الضبع) هي تفاهمات مع بني جنسها غير قابلة للتعريف البشري.
في البحر، تعيش الحيوانات البحرية على تجاذبات الإشارات البينية التي تنقلها الأمواج. وفي الغابات، سلوكيات متعددة ومختلفة للطيور والحيوانات المفترسة، من أصوات منادية وتحذيرية، إلى أصوات أخرى تطلب التزاوج مثلًا. لذلك، فإن عالم الحيوان عالم واسع، ليس من السهولة فهمه ولا تمثُّله. والإنسان الذي يستفيد من وجود الحيوان والطير والحشرات في الطبيعة، أمر لا علاقة له بأنسنتها. فاختبارات العلم واضحة، ومعالجاته الطويلة في مراقبة الغابات والبحار والصحارى هي لدراسة سلوك الحيوانات والأحياء والحشرات فيها.
لكن ماذا لو أراد روائي أن يكتب سردًا دقيقًا لمدينته من خلال عيني كلب متجول بإحساسه هو؟ أي أن الرؤية كلبية مباشرة. فماذا يرى الكلب، وماذا يرى الكاتب من خلاله؟ هل تتفق الرؤيتان أم تفترقان ضمن محددات حسية وشعورية يمتلكها الإنسان ولا يمتلكها الحيوان؟
ستبدو المسألة طريفة ومضحكة وغير معقولة، فالدخول إلى تفاصيل وعي كلب عابر، أو حتى كلب بوليسي مدرَّب، لا يخلو من فكاهة وتزجية وقت بلا فائدة، وستتحطم كثير من مكونات السرد التي يعوّل الكتّاب عليها في إنشاء سيرة سردية لموقف أو حالة ما، وأولها المكوّن الحواري الذي يكشف بعضًا من طبيعة الشخصيات، وليس آخرها المكوّن الوصفي.
|
ما قرأناه هو ما رآه الكاتب وليس الكلب. فالكلب لا يرى كما يرى الكاتب. ولا يمكن أن يكون الإحساس مشتركًا بين الاثنين (Getty) |
منذ وقت طويل، قرأت مثل هذه المحاولة لروائي غربي أراد أن يكتب عن عاصمته من وجهة نظر كلب. فقرر التجربة الميدانية: أن يكون هو كلبًا، ويجوب العاصمة بزحمتها وعماراتها المرتفعة وشوارعها وأرصفتها ومحالّها وأماكن الترفيه فيها. لذلك، أخذ الدور الكلبي بطريقة (نظنها عقيمة)، فظل ينحني ويسير في الشوارع والأرصفة والأزقة على أربع قوائم (يديه ورجليه)، متخذًا وضعية كلب، وينظر إلى ما يمر به من عيني كلب مفترض يقوم بالمهمة الميدانية. فكانت العمارات والمحال والنساء والرجال والسيارات تتخاطف أمامه، ولا أتذكر كيف انتهى من هذه السردية الاستثنائية، عندما حوّل نفسه من روائي بشري إلى كلب حيواني، ليكتب عن هذه التجربة الفريدة كما يعتقد؛ من رؤية كلب يمر بالمدينة متسارعًا أو متباطئًا. وبين دهشة الناس ووصفهم له بأنه مجنون غير صالح للحياة السوية، كان الكاتب يختزن تلك الرؤى في ذاكرته الروائية، ومن ثم يكتبها كسردية روائية، متتبعًا في ذاكرته ما مرّت به من مشاهد كثيرة أثناء تجواله في المدينة الكبيرة.
أخطاء الروائي- الكلب لا يمكن تخطيها بوصفنا الواقعي والخيالي له، ويمكن إجمالها بهذه النقاط:
أولًا: يتضح أن الروائي ليس لديه الخيال الكافي، بحيث جعل مراقبة المدينة من عيني كلب. وتجربته الميدانية فيها الكثير من السذاجة والتسطيح السردي. ومثلما يفتقد الروائي إلى الخيال المطلوب في إنشاء روايته، فإن دور الكلب الميداني دور هامشي لا يمكن الوقوف عنده كثيرًا. وما قرأناه هو ما رآه الكاتب، وليس الكلب. فالكلب لا يرى كما يرى الكاتب، ولا يمكن أن يكون الإحساس مشتركًا بين الاثنين، كون الطبيعة البشرية لا تتفق مع الطبيعة الحيوانية من مشاعر وأحاسيس وذاكرة ورؤيا وخيال واستنباط لجوهر الأمكنة التي مرّ الكلب عليها. والثابت علميًا أن الكلاب تعاني من عمى الألوان، بل تراها درجات متفاوتة أو بنيّة داكنة. حتى أن نباح الكلب، شعبيًا، يُفسَّر بأنه يرى ما لا يراه الإنسان.
ثانيًا: حتى وإن مارس الكاتب دور الكلب - الميداني - السردي، فإن إحساسه يظل بشريًا. ومرور الكلب في مدينة مزدحمة لا يعني للكلب شيئًا سوى أنه يريد العبور إلى مكان آخر أكثر أمنًا في المدينة، بمعنى أنه لا يمكن له أن يحتفظ بذاكرة كلبية تعينه على استرجاع مروره في المدينة المزدحمة. وإذا ما قصد الروائي بأنه يريد أن يعيش تجربة حيوان معروف للآخرين داخل مدينة كبيرة، فالتجربة تحتاج إلى عمق معرفي غير الذي طرحه الكاتب من مشاهد سفلية للعمارات والبنايات العالية ومرور السيارات والناس المختلطين. فهي رؤى يمكن حتى للقارئ العادي أن يتصورها. لذلك، فتجربة الكلب العابر ليست مهمة على المستوى السردي، لكنها تكون ذات أهمية فنية عندما يصفها الروائي بطريقة المعايرة الفنية بينه وبين الكتابة من عيني كلب أليف. وبالتالي، فالموازنة مطلوبة كليًا بمرور هذا الشاهد الذي لم يرَ شيئًا ذا قيمة اعتبارية ونفسية. ومثل ذلك الحيوان الخائف المتسارع بين الأرجل، لا يشكّل مشهدًا سرديًا مهمًا، ولا بؤرة نفاذ إلى عالم الإنسان المتشابك بالمشاعر والمشاغل والصراع مع الزمن السريع. وهنا يمكن لنا أن نتلمس الافتعال في الكتابة الموازية لرؤية كلب برؤية ورؤيا بشر.
ثالثًا: المشاهد المارّة في عيني كلب لن تحتفظ بها ذاكرته. الكلب بلا ذاكرة موثوقة، لأنه بلا عقل ولا أحاسيس، لكن المُدرّب منها يتفوق على الكثير من الحيوانات بالمهارة واستيعاب المعلومات والقدرة على مواصلة التدريب، كالكلاب البوليسية. وبالتالي، ليس لديه تطور معرفي كالإنسان، بل يختزن تطورًا مهاريًا تدريبيًا قاسيًا في كثير من الأحيان.
رابعًا: رؤيته للشوارع والعمارات العالية، التي وضعه فيها الروائي، لا تجسد مشاهد فنية قابلة للاسترجاع عنده، ونظن بأنها تزيده خوفًا. فالكلب العابر ليس رؤية سردية يمكن الاعتماد عليها، بل تحويل الخيال من ذاكرة روائي إلى ذاكرة كلب أمر فيه إشكالية عقلية - بيولوجية، ومع أن الكلاب المدربة تدريبًا عاليًا لها قدرة ذاكراتية محتملة، فإن كلاب الشوارع الخائفة لا تمتلك مثلها. وهذا إشكال معرفي موضوعي في سلوك الحيوان وطبيعته الفطرية.
خامسًا: إذا كان الروائي يريد أن يعيش تجربة كلب حقيقي، فإنه لا ينجح لأسباب بشرية - حيوانية، مما ذكرنا بعضه، ولا بأس من التكرار الذي يشير إلى أن تلك التجربة كانت بوعي كامل لإنسان أحب أن يعيش تجربة كلبية وينقلها إلى واقع الكتابة، لكنها في الأحوال كلها تجربة فيها من السطحية الشيء الكثير. فمقدار اكتساب صور مشهدية لا يحتاج إلى هذه التجربة السطحية، ويكون عامل الخيال في الدخول إلى عيني كلب ليس صعبًا جدًا على محترف الكتابة.
سادسًا: وعي الكتابة وإعداد مكونات السرد لها ليس بهذه الطريقة العابرة لمجرد أنها تجربة ميدانية. فأنسنة الحيوان وجعله بديلًا للإنسان في رؤيته للأشياء الخارجية، أمر فيه التباس كبير، فالشم عند الكلب هو حاسته الاستثنائية التي توجه حياته الحيوانية، وليست البصرية. فالكلب يشاهد يوميًا عشرات الأشياء، لكن تبقى في ذاكرته الأشياء الشمية، وليست البصرية. ونظن أن الكتابة السهلة خالية من الرائحة، مهما اقتربت من الرائحة وتفاعلت معها.
الكتابة العميقة ذات نكهة أقوى من الرائحة، كما نحسب.
مصادر:
- موقع المرام للعلوم.
- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.