}

بين البؤس وحق العودة: المخيمات في الشعر الفلسطيني

سمر شمة 19 يونيو 2025
استعادات بين البؤس وحق العودة: المخيمات في الشعر الفلسطيني
التذكير بحق العودة على جدران مخيم فلسطيني في لبنان(الجزيرة)

كانت المخيمات الفلسطينية، وما زالت، منذ النكبة عام 1948، عندما شُرد الشعب الفلسطيني خارج أرضه ووطنه، ومنذ الأيام الأولى التي عاشها في بيوت الصفيح والصحارى والقفار، إلى المخيمات بوضعها الحالي، حاضرة في الوجدان والذاكرة الفلسطينية، تحمل كثيرًا من القصص المأساوية والمعاناة الكبيرة والتشرد والقهر، وبقيت حتى يومنا هذا شاهدة على ما تعرض له الفلسطينيون من جرائم ومجازر على أيدي قوات الاحتلال والداعمين لها، وتحمل في الوقت نفسه ملامح الصمود والمقاومة والعمل الفدائي، واعتبار مرحلة المخيمات مؤقتة بانتظار التحرير والعودة.
كانت جدرانها تؤكد دائمًا على الثورة وأفكارها وأسماء رموزها، وعليها شعارات النصر والإصرار على عودة الحق لأصحابه الحقيقيين، وفي كل ركن في المخيمات والخيام ما زالت صور الأهل والأحبة والشهداء والأبطال تتصدر المشهد، وكأن هذه الجدران تحولت إلى صحافة للمخيم، ومنبر يحتفظ بتفاصيل التجربة الفلسطينية والهوية الوطنية، حتى أطلقوا عليها اسم الميثاق الوطني، كما قال بعضهم.
وقد اهتم الأدب الفلسطيني عمومًا، والشعر خصوصًا، بأوضاع المخيمات التي هُجر إليها الفلسطينيون رغمًا عنهم وهم يحملون مفاتيح منازلهم التي سيعودون إليها قريبًا، وذكريات حياتهم وآمالهم وأوجاعهم، ولكن العودة تأخرت كثيرًا، وتحول المخيم مع مرور السنين والخيبات إلى منفى إجباري، وبداية لنضال طويل الأمد، وليوميات مريرة مثقلة بالفقر والبطالة وانعدام الخدمات الأساسية للاستمرار في الحياة.
وقد سُمي الشاعر محمود درويش بـ"راوية المخيم"، لأنه كان بالنسبة إليه قضية مصيرية، وليس مكانًا فحسب، وهو الذي عاش في المنافي أكثر مما عاش في الوطن، ونزح وأسرته من البروة إلى لبنان وهو دون سن العاشرة. كتب في قصائده عن البؤس والشقاء في مخيمات اللجوء التي تعاني من التهميش والحرمان والاعتداءات الوحشية الإسرائيلية وغير الإسرائيلية، والتي تحولت إلى "مكان ممتلئ بالدم والطحين"، كما قال. وعن مخيم صبرا وشاتيلا المثقل بالأوجاع الحياتية اليومية، والذي شهد سكانه أبشع المجازر وأكثرها دموية في أيلول/ سبتمبر 1982، وعلى مدى أيام متواصلة على أيدي الصهاينة، وحزب الكتائب، قال: "صبرا تغني نصفها المفقود بين البحر والحرب الأخيرة. لما ترحلون وتتركون نساءكم في بطن ليل من حديد. ثم ترحلون وتعلقون مساءكم فوق المخيم والنشيد".
وحضر المخيم في شعره، أيضًا، كرمز للثورة وحق العودة، وتحول أبناء المخيم إلى أبطال خارقين في الصمود والمقاومة: "أنا أحمد العربي قال: أنا الرصاص البرتقال الذكريات. تل الزعتر الخيمة وأنا البلاد وقد أتت وتقمصتني". وفي هذه القصيدة أرّخ للحصار والقصف والمجازر التي تعرض الفلسطينيون لها هناك.

كمال ناصر ومعين بسيسو ومحمود درويش ومريد البرغوثي 


وأخذ المخيم عند الشاعر معين بسيسو شكلًا من أشكال الغربة والحنين الدائم إلى فلسطين بكل ما فيها، ووصف في قصائده تفاصيل حياة الناس هناك، وأكياس الخيش التي سكن أهله وجيرانه داخلها وسُميت بالخيمة، وكانت السكن الأول للاجئ، ووقف باكيًا على أطرافها يسأل عن شعبه المظلوم: "تلك البقية من شعبي ومن بلدي. ما بين باكٍ ومجنون ومرتعد. تلك البقية من شعبي فذاك أبي وتلك أمي وما في الخيش من أحد. يا من نصبت لهم سود الخيام على صفر الرمال. لقد غاصت إلى الأبد".




أما الشاعر أحمد دحبور الذي نشأ ودرس في مخيم النيرب في سورية، والذي يُعد من أبرز شعراء المخيمات الفلسطينية، فقد اشتُهر بقصائده التي صورت بعمق الحالة المعيشية القاسية التي عاشها الفلسطينيون هناك، وعبرت عن تمسكهم بوطنهم وهويتهم وحلم العودة، وتحدث عن أدق التفاصيل، كحصول الأطفال على ملابس استعدادًا للأعراس، ورصد آلام أمهاتهم وحزنهن: "عرس المخيم هذا فاق البهجة. أمي تدارينا وتشفق أن نرى أساها الذي صارته عيناها". وقد قارب في هذه القصيدة بين مأساة كربلاء ومأساة فلسطين: "يا كربلاء الذبح والفرح المبيت والمخيم والمحبة. كل الوجوه تكشفت. وتقاسمونا في المزاد فما انقسمنا". كما وعنون عمله الصادر 1973 باسم أحد مخيمات اللاجئين في الأردن "طائر الوحدات"، وركز فيه على المعاناة في المنفى، وحتمية الانتصار.
وتناولت الشاعرة فدوى طوقان قضية المخيمات من خلال قصائدها التي ركزت على الفقر والحرمان والوطن المسلوب الذي أصبح المخيم بديلًا منه، وشبهته بالقبور والأقفاص، ولكنها أيضًا أكدت إصرار الفلسطينيين على التحرير والعودة. وفي إحدى قصائدها، كتبت عن الأطفال والخيام البالية التي تحيط بهم من كل حدب وصوب، وتسرق منهم فرحة العيد والحياة: "أختاه هذا العيد. رف سناه في روح الوجود. وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد. وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالًا شقيًا. متهالكًا يطوي وراء هموده ألمًا عتيا". وكان الشتات والمنفى موضوعًا رئيسيًا من مواضيع شعرها.
أما الشاعر سميح القاسم الذي ارتبط اسمه بشعر الثورة والمقاومة من داخل أراضي عام 1948، فقد قال أثناء وجوده في مخيم جنين: "إنني أعاني من مرضين. المرض الهيّن، وهو السرطان، والمرض الصعب، وهو الاحتلال. وسيأتي اليوم الذي يحتفل فيه أطفال وشباب جنين ومخيمها بالنصر والخلاص من الاحتلال". وهو بشعره أرّخ لقضية فلسطين وبطولات أهل المخيمات ومعاناتهم: "ها هو قد تقدم المخيم. تقدم الجريح والذبيح. تقدمت أبواب جنين ونابلس. تقدمت تقاتل".
وكان الشاعر توفيق زيّاد من أبرز الشعراء الذين زرعوا الأمل في نفوس الشعب الفلسطيني داخل الوطن، وفي الغربة والمخيمات، وكان يحض الفلسطينيين على الصبر والتمسك بيقين الانتصار، رغم معرفته للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فيها: "أنا من هذي المدينة. ومن حواريها الحزينة. ومن ساحات صبرا وشاتيلا".

سميح القاسم وعزالدين المناصرة وإبراهيم طوقان وفدوى طوقان وتوفيق زياد 


اهتم الشاعر إبراهيم طوقان أيضًا اهتمامًا كبيرًا بقضية المخيمات والتغريبة الفلسطينية المتواصلة، وكتب عن آمال وتطلعات اللاجئين، والظلم الذي لحق بهم، وركّز على الجانب الإنساني متحدثًا عن التمسك بالعودة، وعن الفدائي المقاتل ابن المخيم البطل: "صامت لو تكلما. لفظ النار والدما. قل لمن عاب صمته. خُلق الحزم أبكما". وهذه من أشهر القصائد عن مأساة الفلسطينيين والمهجرين.
للمخيم في شعر مريد البرغوثي، الذي ولد قرب رام الله، وتنقل بين المنافي، صفات الحياة البدوية غير المستقرة دائمة التنقل والترحال، هو خيمة ترتاح على حجر يشبه القصور، كما كان يقول متهكمًا متحدثًا عن مرارة الحياة فيه وقسوتها، وعن صور العائلة، وأشهر الفنانين والشهداء والأبطال المعلقة على الخيمة: "أوتادها من مرمر ورخام. ومخمل يغطي الحوائط. وصور شهادات جامعية معلقة على قماشها. خيام. خيام. نقوش على السقف والورق المخملي".
الشاعر والباحث عبد اللطيف عقل، من جهته، كان يرى في المخيمات حالة من الحصار والخوف والرعب. وفي الوقت نفسه، يرى الصمود وقوة الإرادة والحلم بالعودة لا يفارق سكانها. المخيم عنده ينام باكرًا هربًا من الموت والحزن والقتل، وهو الذي تعرض للقصف والحصار والتجويع، كما في تل الزعتر، وصبرا وشاتيلا، وجنين: "ينام المخيم. تختلط الأم بالطفل. واللحم بالفحم. والزيت بالموت. والصحو بالقبو. والليل بالويل. فليتعب الخوف من شدة الخوف".
وكتب كمال ناصر، الشاعر المولود في غزة، عن الخيام التي عاش فيها الفلسطينيون في العراء، وسط حر الصيف وصقيع الشتاء، ووسط وحشة المكان ولا إنسانيته، والرعب والعزلة. ورأى أنها الشاهد الملك على الجريمة والمأساة التي تعرض لها شعب فلسطين بعد النكبة: "خيمة مذعورة في رحاب المكان. مصلوبة. منسية في الزمان. لا حب في سمائها. لا حنان. يا خيمتي السوداء ظلي هنا ذكرى على أشلاء حكم جبان".




ووصف الشاعر علي فوده، المولود في حيفا، وهُجر منها بعد ولادته بعامين إلى مخيم قرب جنين، ثم إلى مخيم نور شمس في طولكرم، معاناة المهجرين، وبؤس النزوح. ورأى أن المكان عنوان للتشرد والاغتراب، وإن كان داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. يقول في إحدى قصائده عن طوابير المنتظرين وجبة طعام، أو كأس حليب مجفف هناك: "واقف وكيس الخيش بين يدي. ومنذ الفجر واقف. وبين الصف من كانوا ذوي عز وجاه. وشرطي يصرخ: لا تخالف".
أما الشاعرة كلثوم عرابي، المولودة في قرية جسر المجامع في فلسطين، والتي انتقلت مع أسرتها إلى بيروت عام 1957، فقد وصفت في قصائدها المخيمات التي نُصبت على الرمال، وعاش سكانها الفقر والعوز والحاجة، والانتهاكات الجسيمة، والاعتداءات، وسألت عما فعلته كي تُعاقب بالعيش في الخيام البالية المهترئة المليئة بالأمراض: "أسائل ربي: ماذا جنيت. لأرقد أرضًا كساها التراب. وأسكن في خيمة من قماش. رخيص وأرقب هذا الذباب".
وبرز المخيم في أشعار الدكتور عز الدين المناصرة، المولود في بني نعيم، مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالعمل الفدائي، وأبطال فلسطين، رغم الأسى والانكسارات، وصعوبة الحياة فيه. وقد ردد أطفال المخيمات وشبانها قصائده، لأنه حكى عنهم، وعن المنافي، وصبرا وشاتيلا، والقتل المستمر: "لشوارع صبرا سأغني. للشعر المكتوب على أرصفة الشياح أغني. تتشابه أيام المنفى. كدت أقول: تتشابه غابات القتل هنا وهناك".
وهنالك شعراء آخرون كتبوا عن المنافي واللجوء، ومنهم شعراء شباب، مثل سمر عبد الجابر، التي تعيش في المنفى، وكتبت عن الفقدان والأمل، والشاعر سليم النفار، المولود في مخيم الشاطئ في غزة، والذي عاد إليها منتصف التسعينيات، واستُشهد مع عائلته إثر قصف للاحتلال الإسرائيلي للمنزل الذي لجأوا إليه أثناء حرب الإبادة المتواصلة على القطاع. كتب عن الوطن المشتت، وآلام المخيمات، وأوضاع اللاجئ الذي ضاقت به الدنيا من القهر والذل والانكسار: "يا أيها الوطن المشتت في الصّغار. ما حان أن تعلو. ويعليك النهار. إنا مللنا القهر. على دوام الانكسار. فانفض رداء الذل لو ضاقت قفار".
بينما صورت الشاعرة نعمة حسن في قصائدها تفاصيل حرب الإبادة في القطاع بصور شديدة القسوة، وتحدثت عن المخيمات هناك، والنزوح المتواصل طلبًا للنجاة. وفي قصيدتها، "نزوح وخيمة"، جسدت الواقع بحالة شعرية بائسة، وأصبحت الخيمة عندها غطاء لبعض الشهداء، وليست قماشًا مهترئًا على الرمال فقط: "كلما جربت الحفر في رمل خيمتي. وتحسست شيئًا صلبًا أتراجع فورًا عن التكملة. الموت يختبئ في كل مكان وأنا أخاف أن أقلق الجثث".
لقد كانت تجربة المخيمات وما زالت من أولى التجارب المريرة التي عاشها شعب فلسطين، ولكنها أيضًا كانت بداية انطلاق النضال الفلسطيني المتواصل إلى يومنا هذا.
أُنشئت المخيمات بسبب التطهير العرقي في فلسطين أيام النكبة، ولاستقبال آلاف النازحين واللاجئين داخل البلاد وخارجها، وهناك أكثر من 68 مخيمًا في الأردن، ولبنان، وسورية، والضفة الغربية، وغزة، تأسس بعضها بعد حرب 1967، والباقي في الفترة ما بين 1948 و1950، وغالبية هذه المخيمات تعاني من نقص كبير في الخدمات الحياتية، ومن الاكتظاظ الهائل والفقر والبطالة. وكان أول وأقدم مخيم للاجئين في فلسطين هو "مخيم عين بيت الماء" في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد عاش السكان فيه ظروفًا قاهرة في الخيام الممزقة حتى عام 1958.
اليوم، وبعد أن عاشت المخيمات الفلسطينية في عدد من الدول المجازر والاعتقالات والتدمير والفقر والبطولات، يبقى هذا المخيم أيقونة الثورة الفلسطينية، ورمزًا لقضيتها العادلة، فعلى جدرانه، وفي كل مكان كُتب: لا للوطن البديل... نعم لحق العودة... غزة لن تركع... إنا هنا باقون فلتشربوا البحر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.