تتخذ تجربة الشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان (1917-2003) في "تموز والشيء الآخر" (1) مسارًا يوهم بتغير في رؤية الشاعرة للأشياء والعالم والأسلوب. ولكن التدقيق في قراءة قصائد هذه المجموعة، التي لم تنشر فدوى بعدها سوى مجموعة واحدة أخيرة (2)، يقودنا إلى العوالم نفسها، والأسلوب التعبيري نفسه، ورؤية العالم التي تتلوَّن بالتصور الرومانسي للعالم، والفعل، والحركة. إن المتغير الوحيد في عالم فدوى، هنا، هو الموضوع. ففي حين كان الموضوع الذي تتخذ منه قصائد فدوى، في مجموعاتها الثلاث الأولى: "وحدي مع الأيام" (1952)، و"وجدتها" (1957)، و"أعطنا حبًّا" (1960)، بؤرةً مركزية تنسج حولها عوالمها، هو الذات الفردية الأنثوية الحبيسة، التي اعتزلت العالم، فإنها في مجموعاتها الثلاث التالية: "أمام الباب المغلق" (1967)، و"الليل والفرسان" (1969)، و"على قمة الدنيا وحيدًا" (1973)، تفتح نافذة صغيرة على العالم من حولها، وتسعى إلى رؤية الذات من خلال الجماعة. ورغم أنها تجاهد في المجموعات الثلاث الأولى لفكِّ إسار عزلتها، من خلال قصائد كتبتها عن جموع أهلها المشردين التائهين، بعد نكبة 1948، فإنها في المجموعات الثلاث التالية تقوم بنقل محور التعبير الشعري إلى قيامة الجماعة الفلسطينية، وانبثاق المقاومة من رحم الشعب، الذي بدأ يعي ذاته الوطنية، ويجذِّر حضورها، من خلال الفعل المقاوم.
لقد فشلت فدوى طوقان في مسعاها للخروج من دائرة عزلة الذات الأنثوية عن العالم الواقعي من حولها، في المجموعات الثلاث الأولى، لكنها نجحت في زحزحة جدار عزلتها في المجموعات الثلاث التالية. ومع ذلك، فإن ما يبدو تغيُّرًا في رؤية العالم، وانخراطًا للذات الشاعرة في ما يجري حولها من حركة، وفعل، هو مجرَّد انزياحٍ طفيف في مكان الذات، وموضعها من العالم، وتحوُّلٌ من رومانسية فردية (ترى الذاتَ بؤرة التجربة، وتسعى إلى تصوير عزلة الذات الأنثوية، المكسورة، والمتمردة، في الآن نفسه)، إلى رؤية رومانسية ترى الذات بوصفها جزءًا من الجماعة الوطنية. هكذا، يتغيَّر موضوع شعر فدوى، ويعمُرُ الفلسطينيون المقاومون مجموعاتها الشعرية، التي صدر معظمها بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967. لقد أيقظتها الهزيمة من سبات ذاتها، وعزلتها الطالعة من داخلها.
ومع ذلك فإن الذات تبقى في كلِّ شعر فدوى محورَ التعبير، كما أن تأمل أعماق الذات الأنثوية هو الطريقة الوحيدة لفهم العالم. وإذا كانت الشاعرة، في دواوينها الأولى، قد صاغت تجربتها من خلال رؤية رومانسية حالمة، لذاتها المنعزلة المعذبة، فإنها في شعرها المتأخر حاولت، عبر الالتفات لما يدور في الواقع، أن ترى في بشارة التغير (التي تمثلت في طلوع قمر المقاومة في سماء الفلسطينيين في ستينيات القرن الماضي) نوعًا من خروج الذات الرومانسية من قوقعة عزلتها.
لكن هذا التحول في الرؤية، والنظر إلى الأشياء ومادة الحياة اليومية، لم يؤد إلى تغيرٍ كبير، أو على الأقل، إلى انزياح في طريقة التعبير، والتخفيف من عزلة الشاعرة، وخروجها من شرنقتها الرومانسية، التي ظلت تحيط بعالمها، وأسلوبها في التعبير. فحتى العنوانان اللذان وضعتهما لديوانيها (اللذين صدرا بعد عام 1967) يشيان بمواصلة الشاعرة الانطلاق من صيغها التعبيرية نفسها، التي تغلب على دواوينها الأربعة الأولى. هكذا يرجِّع "على قمة الدنيا وحيدًا" صدى ديوانها الأول "وحدي مع الأيام"، فيما ينقلنا "الليل والفرسان" إلى أرض رومانسية، مثالية، بامتياز، ترى فيها الشاعرة أبطالها المقاومين وهم يبددون عتمة الليلِ، ليلِ النكبة الطويل. فما يشي بأنه نظرة واقعية للعالم تعمل الحساسية الشعرية على صوغه من منظور الذات الرومانسية الحالمة، التي نقع عليها في شعر فدوى قبل العام 1967، وبعد هذا العام كذلك. لربما تكون الرؤية الرومانسية للشاعرة الفلسطينية قد نضجت، وتبلورت أكثر في دواوينها الأخيرة، لكن ذلك لا يعني انزياحًا كبيرًا في الأسلوب، والمعجم الشعري، ومن ثمَّ، في رؤية العالم.
يوفر ديوان "تموز والشيء الآخر"، الذي يضمُّ قصائد مكتوبة في مراحل مختلفة من تجربة الشاعرة، مختبرًا لنماذج تنتمي إلى تلكما المرحلتين الزمنيتين في مشوار فدوى طوقان الشعري. ففي النوع الأول من القصائد، التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل 1967، نقع على المعجم الشعري نفسه: مفردات العزلة والشعور بالوحشة والعذاب والبكاء والكآبة والموت، وما يحفُّ بهذه المفردات من ظلال دلالاتٍ ومعانٍ. تعود فدوى في هذه القصائد إلى التعبير عن الذات المعذبة، الملوَّعة، الموجوعة، التي ترزح تحت وطأة العزلة.
في قصيدة "مبارك هذا الجمال والعذاب" يتطابق المعجم الشعري، والنسيج اللغوي، ورؤية العالم، مع ما نعثر عليه في شعرها الأول. فالشاعرة، هنا، لا ترى في الوجود سوى انعكاس للذات الرومانسية، المثالية، الفردية، الحالمة.
هبطتَ في المساءْ
أتيتَ محمولًا على سحابه
جئتَ نبيًّا باهر العطاءْ
منحتني بشارة الحياه
منحتني البكاء والكآبه
حديقة العذاب والجمال ملكنا
لنا جناها طازج القطاف
يداك فيها جدولا عناق
أفيء للضفاف
يضيء وردُ العشق في دمائي
تنمو بذور الحزن في الأعماق (ص: 79)
ثمَّة قصائد في هذه المجموعة تنتمي إلى العالم الشعري لفدوى في مرحلته الثانية، حيث نقع على ذلك التغير الطفيف في محور التعبير الذي ينفذ فيه ضوء العالم الواقعي، المادي المتعيِّن، إلى مفردات الشاعرة، ومعجمها الشعري، ورؤيتها للعالم. فقصائد فدوى، هنا، تعبر عن ثنائية الذات والعالم/ الوجود الفردي والجماعة (الفلسطينية في هذه الحالة)/ الأنثى المعذبة، المنعزلة، والواقع الصاخب في الخارج. ولا شكَّ في أن حدث الهزيمة عام 1967 هو الذي ضرب عالم فدوى الشعري، ودفعها إلى الالتفات إلى ما يدور خارج الذات، والتعبير عن صعود الجماعة الفلسطينية، وتبلور الذات الفلسطينية الجماعية، وتشكُّل الهوية الوطنية الفلسطينية، من جديد.
في قصيدة "تموز والشيء الآخر" نقع على المعجم الشعري نفسه، الذي تستخدمه فدوى، في معظم شعرها، أي في دواوينها الثلاثة الأولى، وكذلك في مجموعتيها "على قمة الدنيا وحيدًا" و"الليل والفرسان"، حيث تتردد مفردات مثل: عطر البساتين، الخمائل، إلخ. لكن تلك المفردات تتجاور مع مفردات ومعانٍ تتصل بالخصب، وقيامة الحياة، ودورة الفصول، في شكلٍ من أشكال حقن رومانسية الشاعرة بتموزيَّةٍ، أغامر بالقول إنها لفظية، مُسقطة من الخارج، (ومتأثرة، بدون تمثُّلٍ عميق، بالشعراء التموزيين العرب مثل بدر شاكر السياب وخليل حاوي)، فهي، إذًا، تحوِّم على سطح التعبير الشعري، ولا تنفذ إلى داخله.
وصارت خطوط يديه جداول
تذوِّب في جسد الأرض عطر البساتين
تسقي تراب الخمائل
وصارت خطوط يديه انبهار الفصول
انبهار أساطير بابل
عشقناه تموز!
عشقناه تموز ينفض تلَّ الرماد
ويمنح ليلاتنا
شمسه الذهبية
(أخبئ ما يثقل النفس، شجرة
حزني على ضفة الحلم تنمو تكبر
يطاردني الظل... آه... لماذا
لماذا يفتِّح في ظهر تموز جرحٌ ويلمع
خنجر؟!) (ص: 8)
هوامش:
- فدوى طوقان، تموز والشيء الآخر، دار الشروق، عمان، 1986.
يمكن أيضًا قراءة هذه المجموعة، التي تلخص تجربة الشاعرة، في: فدوى طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1993. - نشرت فدوى طوقان مجموعتها الأخيرة: اللحن الأخير، دار الشروق، عمان، 2000.